الشعب المصري – مثل غيرة من الشعوب العربية – طيب القلب، سهل المأخذ، قريب المنال؛ يركن كثيراً إلى العاطفة الجامحة أكثر مما يتّبع طريق العقل المتزن الرزين. ورغم ما نتج عن مسلك العرب عامة، والمصريين خاصة، فإنهم لم يتخلوا عن مسلكهم قط، وإنما تعلقوا بطبيعتهم، وبرروا نتائجها الـمُرّة بكل وسيلة، خطابة كانت أم غناء، أم شعاراً .. إلى غير ذلك.
وفى الآونة الأخيرة، وبعد حادث رفح الذى قٌتل فيه غدراً وبطريقة مهينة، 16 رجلاً من رجال الجيش، وأصيب سبعة، ثلاثة منهم أصابتهم خطره وحرجة. بعد هذا الحادث مباشرة، ودون تريث حتى تتجمع الوقائع الحقيقية وتتحدد الظروف الصحيحة، غطت على وسائل الإعلام، وخاصة التلفاز، برامج يتكلم فيها الجميع كجنرالات المقاهى، فيضرب ويخمن ويحدد، كلاما فى كلام، يفتقد التوثيق وينقصه التحقيق. وفى مثل هذا الإتجاه، تتشكل أجواء مسمومة تضر أكثر مما تفيد، وقد تأسر صانع القرار فيضل منه السبيل الصحيح، ولا تبين الحقيقة إلا بعد وقت طويل (كما حدث فى هزيمة يونيو 1967) تكون الجراح فيها قد إلتأمت على صديد ودماء وقتلى وهزائم، وهلم جرا.
والشاعر العربى يقول فى ذلك:
إذا ما الجرح رُم على فساد .. تبين فيه إهمال الطبيب
والرأى الصائب أن نعتاد عدم إبداء الرأى فى الحوادث الجسام، وفي المقالات التى تكتب على عجل أو البرامج الحوارية (Talk show) التى تملأ القنوات التليفزيونية، وأن نعوّد انفسنا عدم إبداء الرأى إلا بعد أن تتجمع الوقائع الصحيحة، وتلتئم الصورة الحقيقية؛ بدلاً من التسرع الذى يضر أكثر مما يفيد.
وفيما قرأت وسمعت كان الكل – عدا شخصاً واحداً قال على إستحياء وبغير وضوح – يشدد على أنه لا بد من إعادة الجيش المصرى إلى سيناء ليحمى حماها، حتى لو لم تقبل إسرائيل، أو إعترضت على ذلك، لأن حق كل وطن فى الدفاع عن نفسه، والذود عن أراضيه حق مقدس لا يعطله أو يقفه (يوقفه) أو يمهد له أى حق آخر، ولو كان معاهدة السلام التى عقدت مع إسرائيل 1980. وهذا القول هو قول يصدر عن جنرالات المقاهى الذين لا يعرفون الحقائق القانونية والأمور الواقعية. ففى المعاهدات الدولية، سواء كانت بين بلدين أو أكثر – لا ينبغى لبلد منهما – مهما حدث – أن يُلغي أو يعدل فى المعاهدة، حسب هواه وما يريد. ولقد حدث ذلك عام 1952 حين ألغت وزارة الوفد معاهدة 1936، فكان هذا الإلغاء من طرف واحد، وامتنع على مصر أن تتمسك بأى حق لها كانت ترتبه هذه المعاهدة، ولم تلغَ المعاهدة إلا بعد إتفاق فى عام 1954، ثم تم جلاء القوات البريطانية فى 18 يونيو 1956. وكانت النتيجة المهمة التى ضاع فيها العقل أمام العواطف وذاب فيها التقدير السليم فى غليان الهتاف الشعبى، كانت أهم نتيجة لذلك أن إنهار النظام السياسى بأكمله وحل محله إنقلاب عسكرى – تم تدبيره فى مكتب القائد العام للقوات المسلحة – واطاح الإنقلاب بالقانون والحرية والمكاسب الحقيقية، وبدأت فترة سوداء فى تاريخ مصر، لم تنته بعد، رغم قيام ثورة 25 يناير 2011.
إن التصرف المقبول دولياً والصحيح قانونياً، أن لا تلغى المعاهدات أو الإتفاقات من جانب واحد، وإنما يجرى التشاور والتفاوض غلى التعديل وفق الشروط والظروف التى إستجدت. فإن لم يرغب الطرف الآخر فى التعديل – رغم ضرورته – كان علينا أن نلجأ للطرف الثالث – وهو الولايات المتحدة – لتتدخل بثقلها وتطلب من إسرائيل قبول الطلب المصرى، حيث تغير الواقع وأصبح يشكل تهديداً للأمن المصرى والقومى والدولى.
وللذين يطالبون بدخول الجيش المصرى إلى أرض سيناء – خلافاً لمعاهدة السلام المنوه عنها – نوجه لهم سؤالاً خطيراً، وماذا لو كان فى ذلك مصيدة تريدها وتعمل لها إسرائيل حتى تضرب قوى الجيش المصرى التى دخلت أرض سيناء خلافاً لإتفاق السلام المنوه عنه؟ هل تكون هناك أية فائدة من البكاء على اللبن المسكوب؟
ashmawy2@hotmail.com
القاهرة