تحت عنوان فزاعة لم تعد تخيف كنت كتبت مقالاً نشرته قضايا النهار (في 10 تشرين الأول 2000) يوم كان طرح قضية إلغاء الطائفية السياسية مناورة يستخدمها البعض لإفزاع المسيحيين الذين كانوا يعارضون طريقة تطبيق اتفاق الطائف استنسابياً خلال التسعينات من القرن الماضي… فهل تغير شيء منذ ذلك الحين؟؟
لقد طُرح موضوع إلغاء الطائفية السياسية أربع مرات منذ توقيع إتفاق الطائف (1989) وإقرار التعديلات الدستورية (1990)، وحتى المبادرة الأخيرة للرئيس بري (فتكون هي الخامسة). وفي المرات الأربع السابقة كان يتم سحب الموضوع بعد صدور موقف واضح وحاسم من المرجعية الإسلامية الشيعية يومذاك (الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين).
في المرة الأولى صدر مطلب إلغاء الطائفية السياسية عن الرئيس نبيه بري يوم وقفت الكنيسة المارونية ومعها عدد كبير من اللبنانيين (المسلمين خصوصاً في بيروت) موقف مقاطعة انتخابات صيف 1992…يومها صدر كلام للشيخ محمد مهدي شمس الدين “يدعو السياسيين والقياديين الى أن يباشروا الأمور برفق والا يدفعوا الأمور نحو أزمة في ما يتعلق بالاختيارات الكبرى في شان الدولة والمجتمع”..
في المرة الثانية صدر الكلام عن الوزير عبدالله الأمين إثر نداء السينودس الشهير (14 كانون الأول 1995) الذي دعا (في ما دعا اليه) الى قبول “التعددية الثقافية والديمقراطية التوافقية”.. يومها ثارت ثائرة الأصولية الشيعية واتهمت المسلمين الذين شاركوا كضيوف في أعمال السينودوس بأنهم وافقوا على أمر جلل… وجرى اتهامنا على المنابر بأن سكوتنا عن مبدأي التعددية الثقافية والديمقراطية التوافقية هو قبول بالفدرالية والكانتونات (والعياذ بالله؟؟).. هذا طبعاً من غير أن يكون لنا ناقة أو جمل (كضيوف مسلمين مراقبين حضرنا كل الجلسات) في ما صدر عن السينودوس.. وقبل أن يستفحل الفرز ما بين مؤيد ومعارض لمطلب إلغاء الطائفية السياسية كان الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين يدعو إلى سحب الموضوع من التداول..
في المرة الثالثة صدر الكلام عن الرئيس نبيه بري مجدداً إثر مشاركة وزراء “أمل” في الموافقة على مشروع الزواج المدني الذي طرحه الرئيس الياس الهراوي وعارضه الرئيس رفيق الحريري (16 شباط 1998)… يومها صدرت مواقف وتصريحات عنيفة عن المراجع الدينية الإسلامية السنية وصلت إلى حد تكفير المسلمين الشيعة الذين صوّتوا مع المشروع. وقد اضطر الرئيس بري من ناحيته إلى تغطية وزرائه بطرح إلغاء الطائفية السياسية كمقدمة لا بد منها لإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية. وهو يقصد بذلك “إحراج” المشروع “لإخراجه”… فأخرجه فعلاً بلباقته المعهودة.. ولكن سبق ذلك أيضاً موقف واضح للشيخ شمس الدين يدعو الى سحب الموضوع من التداول..
في المرة الرابعة انطلق الكلام عن الدعوة إلى تطبيق المادة 95 من الدستور من النائب الدكتور مروان فارس، وذلك إثر صدور نداء المطارنة الموارنة الشهير (20 أيلول 2000)… وقد حاول النائب فارس يومها جمع تواقيع على عريضة نيابية وما لبثت المحاولة أن انهارت وطواها الصمت ما أوحى يومها (ربما من غير قصد) بأن المسألة كلها لم تتعدّ التهويل والإستعراض وليس المبدئية والجدية في الطرح… وكما في المرتين السابقتين كان للإمام شمس الدين الموقف نفسه الداعي إلى سحب الموضوع من التداول مع دخول عنصر جديد تمثل في طرحه لموقف جديد ومتقدم كان الأول من نوعه بالنسبة إلى القيادة الإسلامية، والشيعية منها تحديداً.
المهم أن طرح إلغاء الطائفية السياسية كان يتم في مناسبات سياسية معينة، وهو كان يتكرر غالباً كلما صدر موقف مسيحي يطالب بالتوازن والمشاركة أو يطرح قضية خلافية ما.
واليوم ومع إكتمال عقد السنوات العشرين على دستور الطائف، ومع نجاح المصالحات الداخلية الأخيرة والتهدئة وتشكيل الحكومة الجديدة واجتياز كل قطوعاتها (بما فيها قطوع البيان الوزاري)، عاد الكلام عن إلغاء الطائفية السياسية فجأة ، وربط البعض بينه وبين موقف رئيس الجمهورية وبعض القيادات المسيحية من مسألة إعادة بعض الصلاحيات الى الرئيس (ما يعني تعديل الطائف).. وربط آخرون بينه وبين النقاش الساخن حول بند المقاومة في لجنة صياغة البيان الوزاري… في حين دافع المسؤولون في حركة أمل عن موقف رئيسهم في اتجاهين اثنين: الأول تأكيد العمل على إلغاء الطائفية السياسية كونها الشر المطلق، والثاني القول بأن الرئيس بري دعا فقط الى تشكيل الهيئة الوطنية المنصوص عنها في الطائف.. وتكرر هذا الدفاع المتناقض في جلسات نيل الحكومة الثقة في البرلمان… في حين دعا المسؤولون في حزب الله الى إلغاء الطائفية السياسية من جهة وإلى الديمقراطية التوافقية من جهة أخرى؟ وعلى العموم، فقد كشفت المسألة عن حقيقة مخيفة وهي أن لا أحد (لا في السلطة بجناحيها 8 و14 آ ذار، ولا خارج السلطة في ما يسمى المجتمع المدني ) يملك مشروعاً فعلياً واضحأً لكيفية “تجاوز الطائفية السياسية” (وهذا تعبير أفضل من الإلغاء)، ولا عن كيفية “الحفاظ على الديمقراطية التوافقية” (بحسب وثيقة حزب الله الأخيرة) وعلى “الجمهورية الديمقراطية البرلمانية” (بحسب وثيقة الطائف) في آن معاً… ولا عن أية خطط مرحلية لازالتها من النفوس أو النصوص…
والحال أن المسألة المطروحة أمام العقلاء هي تطوير النظام السياسي اللبناني.. وهذا بلا شك عمل تاريخي لا تقوم به أو تفرضه نخبة حزبية أو فئة أو طائفة من طوائف اللبنانيين..
إن التغيير، أي تغيير، هو من عمل الناس أصحاب المصلحة فيه، وبناء على إقتناعاتهم وخياراتهم التي تتكون لديهم من خلال الثقة والأمان (وهذا معنى إلغاء الطائفية السياسية من النفوس)، وبناء على عمل اجتهادي دستوري يقوم به أهل الدراية والاختصاص لصياغة أطر نظرية وعملية لهذا التغيير (وهذا معنى الإلغاء من النصوص)… فليس التغيير أداة لتأكيد عقيدة ما، أو لإثبات نظرية ما، خارج التاريخ، أو فوق الوطن والناس والمجتمع. كما أنه ليس فزاعة لإخافة الشريك الآخر في الوطن كلما عنّ ذلك على البال…. وليس البديل أيضاً تأبيد أية صيغة وتركها دون تمحيص ومراجعة وإعادة نظر… ولكننا وقد شبعنا تجارب على حساب الناس ودماء الناس ومصالح الناس، نحن الذين عشنا ووعينا دروس التجربة الشيوعية في الإتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا (السابقين) أو الجمهوريات الديمقراطية الشعبية، أو حتى تجربة اليمن الجنوبية الشعبية، ناهيك عن التجارب القومية في الجماهيرية الليبية أو دول البعث أو غيرها، لا نحب المغامرات ولا نحبّذ الابتزاز والمقايضات… من هنا كان قول الإمام شمس الدين مراراً وتكراراً بأن “التاجر حين يتاجر فإنما هو يتاجر بماله وبضاعته ، أو ربما ببعض مال الناس، أما السياسي الحزبي فإنه عندما يتاجر فإنه يتاجر بدماء الناس وبكرامتهم وحريتهم، فهؤلاء هم من يدفع الثمن في حين يتربع السياسيون الحزبيون على عرش السلطة”.. وفي قضايا التغيير والتطوير السياسيين ينبغي التركيز في ما يخص وضعنا الحالي في لبنان على تكوين اقتناعات حقيقية لقبول بعضنا البعض واحترام خيارات بعضنا البعض على قاعدة تنفيذ إتفاق الطائف بأمانة وبنحو يحقق التمثيل الصحيح والمشاركة الفعلية والقوية في صنع القرار السياسي والإقتصادي والتنموي.
وقد صاغ الإمام شمس الدين موقفه الجديد (يومها) بناء على هذا التقدير حتى توصل إلى إقتناع مفاده أن المادة 95 هي من “الأخطاء التي ارتكبت في مفاوضات الطائف” لجهة توقيت إلغاء الطائفية السياسية بعد إنتخاب أول مجلس نيابي على أساس المناصفة… ويقول الإمام إنّ “هذا التوقيت كان مبنياً على التسرع، وهو توقيت خطأ”.” (راجع تصريحه في صحف الثلاثاء 3/10/2000). وفي التصريح نفسه يذهب الإمام شمس الدين إلى القول أن “النظام السياسي الذي أقره اتفاق الطائف يشكل عنصر إستقرار للبنان إذا استخدم بعدالة وبروح إنسانية، فهو يمثل قوة تماسك في لبنان، والأفضل ألا نزج لبنان الآن في وضع تنظيمي يخلق شكوكاً وإرباكاً”.
مقومات الموقف الشيعي الجديد
لم يحمل أحد في لبنان مطلب إلغاء الطائفية السياسية كما حمله الشيعة إلى حد أنه أصبح عنواناً لحركتهم السياسية، كما كانت “المشاركة” عنواناً للحركة السياسية للطائفة السنية. صحيح أن المطلب ورد على لسان كل الأطراف والفئات، منذ البيان الوزاري الأول للشهيد الرئيس رياض الصلح، وأنه تحول قضية على يد الشهيد المعلّم كمال جنبلاط ، إلا ان مرحلة الصعود السياسي للطائفة الشيعية بقيادة الإمام السيد موسى الصدر هي التي بلورت هذا المطلب كتعبير عن طموح “المحرومين” في المساواة والعدالة وفي التمثيل الصحيح المتناسب مع وزنهم العددي وكفاياتهم… ويكفي هنا أن نتذكر أول مؤتمر صحافي للسيد الصدر عام 1966 وفيه عرض الإجحاف اللاحق بالطائفة الشيعية في وظائف الدولة وفي موازنة الحكومات المتعاقبة… حتى أن مقولة الحرمان تلازمت مع مطلب إلغاء الطائفية السياسية… هذا التماهي هو الذي جعل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى يتقدم صفوف المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية وذلك منذ إنتخاب الإمام الصدر رئيساً (1969) وحتى المذكرة الشهيرة إبان الأحداث الفتنة (1977)… حتى إن ورود الصيغة الجديدة للمادة 95 في التعديلات الدستورية بعد الطائف اعتبر وقتها إنتصاراً للشيعة….
وفي ظل أجواء كهذه كان من الطبيعي أن يُصدم أعضاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حين فاجأهم الإمام شمس الدين في جلسة خاصة دعا إليها في حزيران 2000، بإبلاغهم رسمياً تحفظه على مطلب إلغاء الطائفية السياسية. سبق ذلك قيام وفد من قيادتي “حركة أمل” و”حزب الله” (كل على حدة) بزيارة الإمام شمس الدين للإستفسار منه عن موقفه بعد خطابه الشهير في إفتتاح مؤتمر “التوترات الدينية” الذي نظّمه الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي ومجلس كنائس الشرق الأوسط في 9 آذار 2000.
ولم يكتف الإمام شمس الدين بطلب تجميد السعي لإلغاء الطائفية السياسية أو سحب المشروع من التداول لأسباب تكتيكية تتعلق بالإستقطاب التنابذي الذي يثيره طرحه، وإنما تعدى ذلك إلى المطالبة بالعدول نهائياً عنه.
وخلاصة تفكير الإمام شمس الدين في هذا المجال هي أن لبنان أنجز برغم كل تشكيك وإتهام “أفضل صيغة في التاريخ للعيش المشترك، وأن الواجب، الديني أولاً، والسياسي ثانياً، يفرض المحافظة عليها وصونها وترسيخها”.
أكثر من هذا، فقد قال الإمام شمس الدين بأن “الأطروحة الحارة والساطعة والمتوهجة التي سادت في العقدين الأخيرين عن سعي المجتمع اللبناني إلى إلغاء نظامه القائم فعلاً على ما يسمى نظام الطائفية السياسية، هذه الأطروحة أنا أدعو الآن ليس فقط إلى تجميدها بل إلى العدول عنها لأنني أعتقد بأن الصيغة اللبنانية هي إنجاز من أعظم إنجازات الروح والعقل في لبنان، وقد تكون نموذجاً ينبغي أن يستفيد منه الآخرون الذين يعيشون في مجتمعات فيها نسبة كبيرة أو صغيرة من التعددية”..(من كلامه في مؤتمر الفريق العربي للحوار،9 آذار 2000).
على أن الموقف النهائي للشيخ شمس الدين ورد في وصاياه الأخيرة قبل وفاته المفاجئة في 10 كانون الثاني 2001.. ففي الوصايا (دار النهار،الطبعة الأولى،ايلول 2002) يقول شمس الدين أنه بعد “التبصّر العميق في طبيعة الاجتماع اللبناني وفي المجموعات المكوّنة للمجتمع اللبناني، وفي طبيعة النظام الديمقراطي البرلماني، الذي يتميّز بخصوصيات معيّنة نتيجة للتنوع الطائفي(…) وتبصرّت(…) تبيّن لي أن إلغاء الطائفية السياسية (…) يحمل مغامرة كبرى قد تهدد مصير لبنان، أوعلى الأقل ستهدد استقرار لبنان، وقد تخلق ظروفا للاستقواء بالخارج من هنا ومن هناك، ولتدخل القوى الاجنبية من هنا ومن هناك، ولذلك فإني أوصي الشيعة خصوصاً، وجميع اللبنانيين(….) أن يرفعوا من العمل السياسي ومن الفكر السياسي مشروع إلغاء الطائفية السياسية لا بمعنى أنه يحرم البحث فيه والسعي اليه، ولكن هو من المهمات المستقبلية البعيدة وقد يحتاج الى عشرات السنين لينضج بحسب نضج تطور الاجتماع اللبناني وتطورات المحيط العربي بلبنان(…) وأعتقد أن صيغة الطائف هي صيغة نموذجية في هذا الشأن، والنظام السياسي الذي بني عليها هو نظام سليم لولا ما شابه من بعض الاخطاء سواء في صياغة اتفاق الطائف وما تفرع عنه أو في مجال التطبيق…”.
هذا الكلام صدم ويصدم نهجاً في العمل السياسي كان يعتبر مطلب إلغاء الطائفية السياسية من ثوابت الموقف الوطني ومن مسلمات الوعي والإنتماء الديمقراطي والمدني… فجاء الإمام شمس الدين ليقول بأنه ليس من شعارات عمل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (أو الطائفة الشيعية) السعي إلى إلغاء الطائفية السياسية بل إلى ترشيدها أو إلى ترسيخها على أسس رشيدة… وهو بذلك يريد القول بأن الطائفية السياسية التي هي نظام لبنان أو هي الصيغة السياسية لتوافقه الديمقراطي، هي عنصر استقرار وعنصر قوة وتماسك للبنان إذا “إستخدمت بعدالة وبروح إنسانية” أي إذا كانت “رشيدة”..
وفي حديث خاص قال الإمام شمس الدين أنه يرجح أن تبقى هذه الصيغة هي نظام لبنان. وهو كان يدعو إلى عدم تعريضها لإنتهاكات قد تجعلنا نأسف عليها. وردد في هذا المجال قول الشاعر: “رب يوم بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه”… وكم.. وكم.. مرت علينا من أيام، بكينا فيها ومنها وها نحن الآن نبكي عليها…
في مراجعاته لموضوع الطائفية السياسية وصيغة النظام السياسي اللبناني دعا الامام شمس الدين الى جعل الطائف محوراً لأي عمل إصلاحي تطويري، وإلى تطبيق الطائف بالكامل نصاً وروحاً، لا بل هو ذهب الى القول بأنه لا يوجد صيغة افضل من الطائف للحكم في لبنان..
تطوير الصيغة اللبنانية
والفكرة الرئيسية هنا تنبع من النبع نفسه الذي عبّرت عنه رسالة الإرشاد الرسولي (1998)، والمتعلقة بكون لبنان أكثر من وطن، إنه نموذج ورسالة حضارية في آن واحد. وكان سبق للإمام شمس الدين أن صرح مراراً بأن “لبنان لا معنى له دون مسيحييه، ولا معنى له دون مسلميه، إن معناه يكمن في مسلميه ومسيحييه المتعايشين معاً المتحاورين في حوار الحياة والذين أنجزوا عبر تاريخ عيشهم المشترك تلك الصيغة السياسية الفريدة في العالم العربي”.
وعلى هذا فإن الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية لم تعد بعد كلام الامام شمس الدين تقدّم أي إبداع فكري أو إجتهاد نظري للبناء عليه.. وصار المطلوب اليوم من القوى الديمقراطية والمدنية الحقيقية أكثر من مجرد تكرار المكرر الممل.. المطلوب صوغ إطار نظري لمقوّمات تطوير الصيغة اللبنانية ولمبادئ النظر إلى الكيان والدولة والمجتمع في لبنان ، هنا والآن..
لقد كان بناء الدولة في لبنان منسجماً إلى حد كبير مع طبيعة المجتمع اللبناني وخياراته الأساسية في مطلع القرن العشرين.. ومن هذا الانسجام بالضبط استمد النظام اللبناني قوته الأساسية برغم وجوده عند تقاطع الأهواء والتيارات الإقليمية والدولية المختلفة التي كان كل منها يجد في الداخل اللبناني صدى قوياً نظراً لتعقد هذا الداخل وانفتاحه في آن معاً.
ومنذ تأسيس الكيان اللبناني (إعلان لبنان الكبير 1920 ودستور1926 ثم ميثاق 1943)، برز إلى الوجود اتجاهان اثنان تنازعا الكلام حول التجربة اللبنانية:
1- اتجاه قانوني حداثوي يدعو إلى بناء “دولة حديثة” ، دولة “القانون والمؤسسات”، ومجتمع مدني – سياسي حديث ، يتجاوز “المجتمع الأهلي الطائفي العشائري المناطقي”، وهو ينظر إلى تلك الروابط على أنها “عصبيات متخلفة” تشد المجتمع اللبناني إلى الوراء وتمنع تطوره وتعيق نموه ناهيك عن كونها أصل الحروب الدورية…
2- إتجاه طائفي – ميثاقي اعتبر التزام ميثاق 1943 هو المدخل الأساس لقيام دولة من نوع جديد أسماها الصيغة اللبنانية المميزة تقوم على التوفيق بين الاعتبارات الطائفية والأهلية ، وبين اعتبارات المواطنة والمجتمع الحديث.
وقد جاء الطائف كتسوية ليجمع بين الاتجاهين، فكان صيغة ميثاقية- دستورية لا شبيه لها في أي مكان. ففي مقدمة الدستور مثلاً يرد أن “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على… المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل”… وعلى أن “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية”… ثم نفس المقدمة تختم بالقول بأنه “لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.. هنا كان ينبغي ومنذ الطائف أن تنصب اهتمامات وتطويرات كل من يسعى الى التغيير.. (تحية تقدير واجبة الى أعمال المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم وخصوصاً الدكتور أنطوان مسرّة)…
وحين دعا الشيخ شمس الدين الى “دولة لا دين لها” (منذ شباط 1983)، فإنما كان يدعو أي الاعتراف بالطوائفية من جهة (الميثاق التوافقي) والى الفصل بين الطوائف والدولة من جهة أخرى (الدستور المدني أوالدولة التي لا دين لها)… فبحسب اجتهادات الامام شمس الدين ، فإن الدولة (أية دولة) هي في جوهرها جهاز إدارة وضبط للنشاطات والمصالح المشتركة في المجتمع، وليس لها غاية تستمد منها شرعيتها… فالشرعية التي تمتلكها هي شرعية وظيفية محضة. ولا يمكن الحكم على هذه الدولة الا من خلال إعتماد مقاييس الفعالية والمردودية للنظر في نتائج إدارتها للنشاطات المشتركة في مجتمعها. وهذا هو معنى فصل الطوائف عن الدولة وجعلها جهاز إدارة للمصالح العامة وللحقوق والواجبات.(ترد هذه المقاطع في الوثيقة التأسيسية للمؤتمر الدائم للحوار اللبناني،1992).
واقع الحال أن الدولة في مجتمعاتنا العربية أخفقت في الاتجاهين، فانفصلت عن المجتمع في ميداني المصالح العملية والغايات البعيدة، وتحوّلت إلى جسم يبدو دخيلاً، تقوم علاقته بالمجتمع على نصاب من الغربة والتنازع والغلبة. وفي حين قدّم الغرب في الماضي نموذج الدولة القويّة المكيِّفة لمجتمعها، وهو يقدّم اليوم نموذج الدولة الفدرالية اللامركزية المحققة للتنوع ضمن الوحدة، قدّمت تجاربنا العربية الحديثة نموذج الدولة الهجينة العاجزة والسلطة الاستبدادية الطائفية العشائرية في آن معاً..
ولئن بدا للبعض أن التعدد في المجتمع اللبناني حالة خاصة ينبغي تجاوزها لصالح “الدولة الحديثة” ، اللاطائفية ، العلمانية ، القوية ، القادرة على تذويب الاختلافات وتحقيق الانصهار الوطني ، فإن مسيرة العالم اليوم باتجاه اعتبار التنوع والتعدد ثروة حضارية (حسب قول الإمام موسى الصدر)، خصوصاً في المجتمعات الباحثة عن أسس جديدة لوحدتها وعن معنى ومضمون لهويتها ، قد أعاد الاعتبار إلى النقاش حول العلاقة بين الطائفية والتعدد الطائفي وبين صورة الدولة الحديثة المرتجاة.
وبالإجمال، فإنه ينبغي الاعتراف أولاً بأنه لا يمكن في أي حال من الأحوال فصل الدين عن السياسة، لا في لبنان ولا في أي مجتمع آخر. فالمسلمون والمسيحيون، يعيشون معاً في مجتمع سياسي، ولا بد أن يتحركوا في هذا المجتمع إنطلاقاً من أفكارهم ونصوصهم وتصوراتهم للعالم والكون والإنسان والمجتمع ، وهذه كلها أمور تختلط بالسياسة أو تؤثر فيها. ولعل هذا ما قصده المصلحون المجددون أمثال السيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين في كلامهم عن دور عالم الدين في المجتمع وفي السياسة باعتبارها من شؤون المجتمع وليس من شؤون الدولة وحدها…والفصل المدعى بين الدين والسياسة ليس إلا فصلاً صورياً أو شكلياً، حصل في مرحلة من التاريخ، وتطبيقه الصارم لا يؤدي إلا الى مزيد من القمع ( قمع المجتمع ونفيه وتغريبه من جانب نخب الدولة، مثال تجربة الأنظمة العربية مع الحالة الاسلامية ومع المجتمع عموماً) أو الى تعسف في إستخدام القانون المدني (العلماني) (أنظر مثال تركيا الكمالية والنظام الإيرني الشاهنشاهي كما النظام الأفغاني في عشرينات القرن العشرين والنظام التونسي في أيامنا هذه، وأنظر أيضاً قضية مواجهة الحجاب في فرنسا اليوم من جانب بعض العلمانيين “المتعصبين”)..وبدل الدعوة إلى الفصل، دعا الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ومعه كبار المفكرين المسلمين أمثال الجزائري مالك بن نبي والعراقي النجفي حسين النائيني والإيراني مهدي بازركان والعراقي الكردي فاضل رسول والمصري الإمام محمد عبده والسوداني حسن الترابي والتونسي راشد الغنوشي والمغربي علال الفاسي، إلى التمييز بين المستويين، بين السياسة والدين (وإلى الإنسجام بينهما كما في وثيقة الوفاق اللبناني في الطائف 1989، وهذا البند لم يدخل في التعديلات الدستورية). ذلك “أن حداً فاصلاً دقيقاً ومرناً ومتحركاً يقوم بينهما، يمكن أن تعبّر عنه المعادلة الآتية: لا يمكن أن يتحول الدين سياسة، وإلا فقد جوهره الفطري الإنساني، وغابت قيمه العرفانية والأخلاقية، وضاعت ديناميته وحركتيه التي تتجاوز كل سياسة وضعية وذلك بفعل الضغط الإجتماعي وإحتمال الإنحراف البشري، ولا يمكن أن تتحول السياسة ديناً وإلا فقدت مبررها كسياسة مدنية وأصبحت أسيرة نص من النصوص أو مذهب من المذاهب أو طائفة من الطوائف” (بحسب وجيه كوثراني)…..
الأصل الذي تعلمناه من السيد موسى الصدر أنه ينبغي ألا ينعزل الدين عن هموم المجتمع ومشاكله وقضاياه، بل أن يكون له كلمة ومشاركة في السياسة والعمل السياسي..
والأصل الذي تعلمناه من محمد مهدي شمس الدين أنه يجب على السياسة أن تستلهم الدين في أخلاقيته وقيمه في حركة أسماها التقوى الحوارية : تقوى الله وتقوى الأخوّة الإنسانية، وتقوى الشعب والأمة..وأن لا يتدخل الدين في الدولة التي هي جهاز وظيفي لخدمة المصالح المشتركة أو الصالح العام… فالدولة بحسب شمس الدين هي مؤسسة من مؤسسات المجتمع ، وإن كانت المؤسسة الكبرى بامتياز أو مؤسسة المؤسسات. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل اختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه اوإلغائياً له. وهذا المعنى يتأكد في المجتمعات التي لم تستطع الدولة فيها تفكيك النسيج الاجتماعي وإرساء علاقة بين أفراد وجهاز دولة متضخّم السطوة على الدوام. ولذا فإن الدولة المطلوبة هنا هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، في معادلة قيادة وانقياد في الوقت نفسه: قيادتها للصالح العام المشترك، وانقيادها للغايات التي يحدّدها المجتمع؛ فلا الدولة وصيّة على المجتمع تتصرف بمعزل عن توجهاته، ولا المجتمع قادر على أن يحلّ محلها.
والأصل الذي تعلمناه من التجربة الايرانية انه يمكن تنظيم “الحد الفاصل بين الدين والسياسة”، (عنوان كتاب مهدي بازركان- ترجمه ونشره فاضل رسول، دار الكلمة، بيروت، 1979)..
أما الدولة فهي مجال آخر (ليس هو الدين وليس هو وحده السياسة) لا يجوز أن يرتهن للقيد الطائفي أو العشائري أو المناطقي.. الدولة ولاية من الولايات وليست الولاية الوحيدة وغن كانت الأكبر… والأصل الاسلامي هو أن لا تستبد الدولة بالولايات (كما يشرح بصورة رائعة عادل عبد المهدي في كتابه: الثوابت والمتغيرات في الاجتماع العربي الاسلامي)، وأن لا يتشتت المجتمع دون حكومة (بالمعنى الاسلامي)..أي أن لا يطغى طرف الدولة بنخبها، وايديولوجية نخبها، على المجتمع (مثال الدول العربية الاستبدادية وعراق صدام حسين تحديداً) وأن لا يخترق المجتمع بما يختزنه من تعددية وتنوع وصراعات ومصالح وحدة الدولة فيفككها إلى زعامات ومراكز طائفية ومذهبية وجهوية وفئوية (مثال لبنان).هنا ينبغي أن تقدم لنا التجربة اللبنانية (كما العراقية اليوم) بكل عجرها وبجرها، صياغات نظرية عن التوازن بين الدولة والمجتمع يقوم على التعددية واللامركزية وعلى الانسجام بين الدين والسياسة في خدمة الانسان، وعلى تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، وإحلال التناغم والانسجام بينهما، على أسس العدالة والكرامة والمساواة والحرية والديمقراطية للجميع وبين الجميع.وفي هذا فليتنافس المتنافسون.
mawsaoud@hotmail.com
• كاتب لبناني
إلغاء الطائفية السياسية: هل من جديد؟؟
لكي تكون الشفاف أجمل:
الصورة المستخدمة بجانب عنوان المقال صغيرة جدا. ماذا لو احتلت الصورة مساحة اكبر ؟ ستكون صورة المقال بكامله أجمل.. أما بهذه الصورة الصغيرة المصغّرة فأن المقال يبدو مثل الرسم الكاريكاتوري لرجل ضخم الجئة ورأسه صغير جدا..