بعد مرور عدّة أشهر من وقعة أحد،
أرسل محمّد رجاله لدعوة أهل نجد إلى الإسلام، فكانت وقعة بئر معونة التي قُتل فيها غالبيةُ رجاله، بينما وقع أحدهم، وهو عمرو بن أميّة الضمري، في أسر عامر بن الطفيل. غير أنّ عامر بن الطفيل عفا عنه وأطلق سراحه. فانطلق عمرو بن أميّة هذا في طريقه حتّى وصل إلى موقع القرقرة في منطقة قناة، فجلس هناك يستظلّ تحت شجرة. وكان أن وصل إلى المكان رجلان من بني عامر وبعد أن سألهما من هما وتأكّد من هويّتهما، انتظر حتّى يناما فهجمَ عليهما وقتلهما غدرًا، كما تذكر الرواية: “حتّى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بنى عامر حتّى نزلا في ظلّ هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله صلعم وجوار، لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممّن أنتما؟ قالا: من بني عامر. فأمهلهما حتّى إذا ناما، عَدَا عليهما وقتلهما… فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلعم أخبره بالخبر، فقال رسول الله صلعم: لقد قتلت قتيلين لأَدِيَنّهُما… قد كنتُ لهذا كارهًا متخوّفًا.” (سيرة ابن هشام: ج 4، 139-140؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 141-143؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ مغازي الواقدي: ج 1، 364؛ تاريخ الطبري: ج 2، 81؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 301-302؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 17؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 4، 84؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 224).
بعد أن سمع عامر بن الطفيل بهذا الغدر من طرف عمرو بن أميّة الضمري، أرسل كتابًا إلى محمّد مطالبًا إيّاه بدفع دية هذين الرجلين من بني عامر: “وقيل إنّ عامر بن الطفيل كتب إلى رسول الله صلعم: إنّكَ قتلتَ رجلين، لهما منك جوار وعهد، فابعثْ بديتهما.” (تاريخ الطبري: ج 2، 223؛ مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 8، 6058). وكما تفيد الرّوايات، فقد كان ثمّ حلف بين بني عامر، وهم قوم هؤلاء المغدورين، وبين بني النّضير: “وكان بين بني النضير وبين بنى عامر حلف وعقد.” (مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ عمدة القاري للعيني: ج 17، 125). ثمّ تذكر الرّوايات أنّ الرّسول توجّه، عقب هذه الحادثة، إلى بني النّضير طالبًا منهم أن يدفعوا دية هذين الرّجلين المغدورين من بني عامر: “ثم أتى بني النضير فكلّمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري.” (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 57. أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 223؛ مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ دلائل النبوّة للبيهقي” ج 3، 48؛ تفسير الثعالبي: ج 1، 450؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 13، 183؛ الشفا للقاضي عياض: ج 1، 352؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 36؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 11، 40).
والسؤال الّذي يطرح نفسه من تسلسل هذه الأخبار هو، لماذا يُضطرّ بنو النضير إلى دفع الدية على قتل العامريين، في الوقت الّذي يوجد فيه لبني النّضير حلف وعقد مع بني عامر، وذلك علمًا أنّ القاتل الغادر بهما هو من رجال محمّد أصلاً، ولا علاقة لبني النّضير به بأيّ حال من الأحوال؟
ربّما تكون هذه هي الخلفيّة
من وراء ما تذكره الرّوايات من محاولة بني النّضير التخلُّص من محمّد، كي “يرتاحوا منه”، بحسب لغة الروايات. وذلك إضافةً إلى ما كانوا يعلمون من فعله من قبل بإجلاء يهود بني قينقاع، كما أسلفت في المقالة السّابقة. وهكذا تذكر الروايات أنّه، وبعد أن توجّه محمّد إلى بني النّضير يطلب منهم أن يدفعوا دية الرجلين المغدورين من بني عامر، قالوا له: “نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله صلعم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد. فَمَنْ رجلٌ يعلو على هذا البيت فيُلقي عليه صخرةً ويُريحُنا منه؟” (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 224-223؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 57؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 3، 428؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115؛ سمط النجوم للعصامي: ج 1، 301).
لقد حدث جدل بين يهود بني النّضير، كما تذكر الرّوايات، حول كيفيّة التّصرُّف إزاء كلّ هذه الضّغوط من طرف محمّد وجماعته، فبعضهم دفع إلى القيام بعمليّة التخلّص من محمّد بواسطة إلقاء الصخرة عليه من فوق أحد السّطوح، والبعض الآخر حذّر من مغبّة ذلك الفعل، حيث “نهاهم عن ذلك سلام بن مشكم وخوّفهم الحرب.” (تاريخ الطبري: ج 2، 224. للمزيد من أخبار الجدل يمكن العودة إلى: مغازي الواقدي: ج 1، 364-372؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 4، 320-321). غير أنّهم لم يأخذوا برأيه.
وعندما تقرّر في نهاية المطاف المضيّ قدمًا بالعمليّة انتدب أحدهم، عمرو بن جحاش بن كعب، نفسه للقيام بذلك. وتضيف الرّواية أنّ محمّدًا عرف بالخطّة من السّماء، فعاد إلى المدينة: “فانتدبَ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلعم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فأتى رسولَ الله الخبرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة.” (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ تاريخ الطبري: ج 2، 224-223؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 3، 428؛ عمدة القاري: ج 17، 125؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).
بعد أن علم محمّد بالخطّة،
دعا إليه محمّد بن مسلمة، وخومن بني حارثة بن الأوس، وحمّله رسالة إلى بني النّضير يقول فيها: “اذهب إلى يهود فقل لهم: اخرجُوا من بلادي فلا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به من الغدر”. أمّا ردّ بني النّضير فقد كان استهجانًا لهذه الرّسالة الّتي يحملها إليهم رجل من الأوس، علمًا بما كان للأوس من حلف وعهد مع بني النّضير: “قال، فجاءهم محمد بن مسلمة فقال لهم: إنّ رسول الله صلعم يأمركم أن تظعنوا من بلاده. فقالوا: يا محمّد! ما كنا نظنّ أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس، فقال محمّد: تغيّرت القلوبُ ومحا الاسلامُ العُهودَ.” (تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 365؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 4، 320؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115؛ نهاية الأرب للنويري: ج 4، 434).
في هذه الأثناء وصلت أيضًا رسائل من قبل عبد الله بن أبيّ بن سلول، الذي كان أنقذ بني قينقاع من الموت الّذي أراد محمّد إنزاله بهم من قبل، يحثّهم فيها على البقاء واعدًا ايّاهم بتقديم العون لهم: “فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ يقول: لا تخرجوا، فإنّ معي من العرب ومن انضوى إليّ من قومي ألفين، فاقيموا فهم يدخلون معكم، وقريظة تدخل معكم”. غير أنّ هذه الرّسائل أثارت لدى القوم شكوكًا بجدواها نظرًا للأحلاف التي كانت قائمة: “فبلغ كعب بن أسد، صاحب عهد بنى قريظة، فقال: لا ينقض العهدَ رجلٌ من بنى قريظة وأنا حيّ. فقال سلام بن مشكم لحيى بن أخطب: يا حيى، اقبلْ هذا الذي قال محمّد، فانّما شُرّفنا على قومنا بأموالنا، قبلَ أن تقبلَ ما هو شرٌّ منه. قال: وما هو شرٌّ منه؟ قال: أخْذُ الأموال وسَبْيُ الذّرية وقَتْلُ المقاتلة. فأبى حيي، فأرسل جدي بن أخطب إلى رسول الله صلعم: إنّا لا نريم دارَنا، فاصْنَعْ ما بدَا لكَ.” (تاريخ الطبري: ج 2، 224-225؛ انظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 365؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).
وهكذا، وبعد أن رفض هؤلاء الرّضوخ لإملاءاته، أمر محمّد أتباعه بالاستعداد لمحاربة بني النّضير وحصارهم من أجل إخضاعهم: “فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم.” (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146). فتحصّن هؤلاء في مواقعهم، فما كان من محمّد إلاّ أن أمر بتقطيع النّخيل وإشعال الحرائق في مزارعهم: “فتحصّنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلعم بقطع النخل والتّحريق فيها، فنادوه: يا محمّد، قد كنتَ تنْهَى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بالُ قطع النخيل وتحريقها؟” (تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 144؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 147؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 24).
واشتدّ الحصار المطبق على بني النّضير: “… عن ابن عباس قال: حاصرهم رسول الله صلعم، يعنى بنى النضير، خمسة عشر يوما حتّى بلغَ منهم كلّ مبلغ.” (تاريخ الطبري: ج 2، 225؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 372؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 147)، كما أنّ الإمدادات التي كان وعدهم بها الحلفاء لم تصلهم: “قاموا على حُصونهم معهم النبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة فلم تُعِنْهم، وخذلهم ابنُ أُبيّ وحلفاؤهم من غطفان، فأيسوا من نصرهم.” (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 58؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 367؛ تفسير السعدي: ج 1، 848؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 269؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 25؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).
في نهاية المطاف، لم يستطيعوا الصمود وقرّروا الاستسلام بشروط تضمن حقن دمائهم وخروجهم من أرضهم مع ما تحمله الإبل فقط، دون السّلاح: “فَصالَحَهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم… على أنّ لهم ما حَمَلت الإبلُ من أموالهم، إلا الحَلَقَة، ففعل.” (تاريخ الطبري: ج 2، 225-226). وهكذا خرجوا من بلادهم إلى خيبر والبعض منهم خرج إلى الشّام: “فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشأم، فكان أشرافُهم، ممن سار منهم إلى خيبر، سلام بن أبى الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها.” (تاريخ الطبري: ج 2،226؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 145).
مشاهد إكسودوس بني النّضير:
ها هي الروايات الإسلامية تصف لنا هذه المشاهد من إكسودوس بني النّضير، بينما النّاس مصطفّون على جانبي الطريق يشاهدون قوافل المهجّرين تمرّ أمامهم: “فجعلوا يحملون الخشب ونجف الأبواب… وحملوا النساء والصبيان فخرجوا على بلحارث بن الخزرج، ثم على الجبلية ثم على الجسر حتى مروا بالمصلّى، ثم شقّوا سوقَ المدينة، والنساءُ في الهوادج عليهنّ الحرير والديباج وقطف الخزّ الخُضْر والحُمْر. وقد صُفّ لهم الناسُ، فجعلوا يمرّون قطارًا في أثر قطار، فحملوا على ستمائة بعير…” (مغازي الواقدي: ج 1،372).
ومن بين النّساء اللّواتي شوهدن خارجات من المدينة في ركاب بني النّضير، تذكر الرّوايات صاحبة عمرو بن الورد: “قالوا: ومرّت في الظعن يومئذ سلمى، صاحبة عروة بن الورد العبسي.” (مغازي الواقدي: ج 1،372؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 1، 490؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 145؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، 326). وعلى ما يبدو فإنّ صاحبة عروة هذه، والتي كان سباها في إحدى غزواته وكان يؤثرها ويحبّها كثيرًا وولدت له أولادًا، هي يهوديّة أصلاً، إذ يُروى: “أنّ قومها افتدوها منه، وكان يظنّ أنّها لا تختار عليه أحدًا ولا تفارقه، فاختارت قَوْمَها.” (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327؛ مغازي الواقدي: ج 1،372). وتزوّجت بعد ذلك رجلاً آخر من بني النّضير: “ثمّ تزوّجها بعدَهُ رجلٌ من بني النضير.” (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327. وسبب اختيارها لقومها، على ما تذكره الرّوايات، هو ما كان من تعيير الأولاد بكون امّهم من السّبايا: “فكانت ذات جمال فولدت له أولادًا ونزلت منه منزلاً. فقالت له، وجعل ولده يُعَيّرون بأمهم: يا بني الأخيذة، فقالت: ألا ترى ولدك يُعَيّرون؟ قال: فماذا ترين؟ قالت: تردّني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوجونك، قال: نعم. فأرسلت إلى قومها أن: القوه بالخمر، ثم اتركوه حتّى يشرب ويثمل. فإنّه إذا ثمل لم يُسأل شيئًا إلا أعطاه. فلقوه، ونزل في بني النضير فسقوه الخمرَ، فلما سكر سألوه سلمى فردّها عليهم، ثم أنكحوه بعد…” (مغازي الواقدي: ج 1،372)، أو أنّ بنات عمّه كنّ يعيّرنها، كما كان أولادهما يُعيّرون، ولذلك قالت له: “وما كنت لأوثر عنكَ أهلي لولا أنّي كنت أسمع بنات عمّك يقلن: فعلتْ أمَةُ عروة وقالت أمَةُ عروة، فأجدُ من ذلك الموت. والله لا يجامعُ وجهي وجهَ غطفانية أبدًا، فاستوصِ ببنيك خيرًا.” (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327).
وها هو عبد الله بن أبي بكر يروي لنا ما رأت عيناه من مشاهد: “استقلّوا بالنّساء والأبناء والأموال، معهم الدّفوف والمزامير، والقيان يعزفن خلفهم… بزهاء وفخر ما رُئيَ مثلُه من حَيٍّ من الناس في زمانهم.” (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 191؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، 326؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 148). أو كما في هذا الوصف من رواية يوردها الواقدي: “ومرّوا يضربون بالدّفوف ويزمرون بالمزامير، وعلى النّساء المُعصفراتُ وحُليّ الذهب، مُظهرين ذلك تَجلُّدًا. قال، يقول جبار بن صخر: ما رأيتُ زَهاءَهم لقومٍ زالوا من دار إلى دار … عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جدّه قال: لقد مرّ يومئذ نساءٌ من نسائهم في تلك الهوادج قد سَفَرنَ عن الوجوه، لَعَلّي لم أرَ مثلَ جمالهنّ لنساءٍ قط. لقد رأيت الشّقراء بنت كنانة يومئذ كأنّها لؤلؤة غوّاص، والرّواع بنت عمير مثل الشمس البازغة، في أيديهنّ أسورةُ الذهب والدرّ في رقابهن.” (مغازي الواقدي: ج 1، 372).
لا شكّ أنّ أوصاف هذا الخروج الذي يرافقه غناء ورقص وضرب بالدّفوف وزمر بالمزامير يذكّرنا بصورة خروج بني إسرائيل من مصر بينما كان جيش فرعون في أعقابهم، تلك الصّورة الّتي على ما يبدو كانت قائمة في أذهان يهود بني النّضير. فها هي الصورة كما وردت في سفر الخروج: “إذْ وَلَجَتْ خَيْلُ فِرْعَونَ بِمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ البَحْرَ، وَرَدَّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مَاءَ الْبَحْرِ، وَمَشَى بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى اليَابِسَةِ فِي وَسَطِ البَحْرِ. فَأَخَذَتْ مِريَمُ النّبيّةُ أُخْتُ أَهَارُونَ الدّفَّ بِيَدِهَا وَخَرَجَتْ كُلُّ النّساءِ وَراءَهَا بِالدُّفُوفِ وَالرّقْص. وَرَجَّعَتْ لَهُمْ مِريَمُ: رَنّمُوا لِلقَيُّومِ عَزَّ وَجَلَّ، الخَيْلَ وَرَاكِبَهَا قَدْ رَمَى في البَحْرِ.” (سفر الخروج: فصل 15، 19-20. التّرجمة من الأصل العبري هي لي).
وهكذا خرج بنو النّضير
وتركوا أرضهم وأملاكهم: “وخلّوا الأموال لرسول الله صلعم. فكانت لرسول الله صلعم خاصةً، يضعها حيث يشاء. فقسمها رسول الله صلعم على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلاّ أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك ابن خرشة ذكَرَا فقرًا، فأعطاهما رسول الله صلعم.” (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 191). كما استولى محمّد على أسلحتهم وأرضهم: “وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعًا، وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفًا.” (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115). فقط اثنان من اليهود، وابتغاء الحفاظ على أموالهما، فضّلا البقاء في المدينة والرّضوخ باعتناق الإسلام: “ولم يُسلم من بنى النضير إلا رجلان، يامين بن عمير بن كعب، بن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد ابن وهب، أسْلَمَا على أموالهما فأحرزاها ” (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 191).
مشاعر الحزن الإنسانية على فراق بني النّضير:
لقد أثارت مشاهد خروج بني النّضير من ديارهم مشاعر الحزن والأسى لدى بعض أولئك الّذين اصطفّوا يشاهدون خروجهم من ديارهم على هذه الحال. وقد عبّروا عن مشاعرهم هذه تجاه هؤلاء القوم المنكوبين من يهود بني النّضير، معدّدين خصالهم الحميدة التي كانت دائمًا من مفاخر العرب: “وقال حسان بن ثابت وهو يراهم، وسراةُ الرّجال على الرِّحال: أما والله، إن لقد كان عندكم لَنائلٌ للمُجْتدي، وقِرًى حاضرٌ للضّيف، وسقيا للمُدام، وحِلْمٌ على من سَفهَ عليكم، ونَجْدَةٌ إذا استُنْجِدْتُم. فقال الضحاك بن خليفة: واصباحاه، نفسي فداؤكم، ماذا تحمّلتم به من السّؤدد والبهاء والنجدة والسخاء؟ قال، يقول نعيم بن مسعود الأشجعي: فدًى لهذه الوُجوه التي كأنّها المصابيح، ظاعنين من يثرب. مَنْ للمُجتدي الملهوف؟ ومن للطارق السَّغْبان؟ ومَنْ يسقي العقار؟ ومَنْ يُطعمُ الشّحمَ فوقَ اللحم؟ ما لنا بيثرب بعدكم مقام. يقول أبو عبس بن جبر وهو يسمع كلامه: نعم، فالحقهم حتّى تدخل معهم النار. قال نعيم: ما هذا جزاؤهم منكم، لقد استنصرتموهم فنصروكم على الخزرج، ولقد استنصرتم سائر العرب فأبوا ذلك عليكم. قال أبو عبس: قَطَعَ الإسلامُ العُهود… ولقي المنافقون عليهم يوم خرجوا حزنًا شديدًا. لقد لقيت زيد بن رفاعة بن التابوت وهو مع عبد الله بن أبيّ، وهو يناجيه في بني غنم وهو يقول: تَوحّشْتُ بيثرب لفقد بني النضير، ولكنّهم يخرجون إلى عزّ وثروةٍ من حلفائهم، وإلى حصون منيعة شامخة في رؤوس الجبال ليست كما هاهنا.” (مغازي الواقدي: ج 1، 372).
وكالعادة، فإنّ القرآن يتابع الأحداث، حتّى إنّ سورة كاملة، هي سورة الحشر، قد أنزلت فيما جرى لبني النّضير، وكما يُروى فإنّ ابن عبّاس كان يسمّيها سورة بني النّضير: “غزوة بنى النضير وهى التى أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر، في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بنى النضير… قال ابن إسحاق: فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته وما سلّط عليهم به رسوله وما عمل به فيهم.” (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146، 148؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 193؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).
لقد تردّدت أصداء هذا الخراب
وهذا الذلّ اللّذين حلاّ ببني النّضير في أنحاء جزيرة العرب، ووصلت أخبارهم إلى بني قريظة: “لمّا خرجت بنو النضير أقبل عمرو بن سعدى فأطافَ بمنازلهم فرأى خرابَها. وفكّر، ثم رجع إلى قريظة فيجدهم في الكنيسة فينفخ في بوقهم، فاجتمعوا… قال: رأيتُ اليومَ عِبرًا قد عَبرْنا بها، رأيتُ منازلَ إخواننا خاليةً، بعد ذلك العزّ والجلد والشّرف الفاضل والعقل البارع. قد تركوا أموالَهم ومَلَكَها غيرُهم، وخَرجُوا خُروجَ ذُلّ.” (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 226؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 155).
وهكذا طُويت صفحة بني النّضير في المدينة.
والعقل وليّ التوفيق.
***
في المقالة القادمة سنتطرق إلى محرقة بني قريظة.
***
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: “هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟”
المقالة الثانية: “لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟”
المقالة الثالثة: “لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟”
المقالة الرابعة: “من هو النّبي الأمّي؟”
المقالة الخامسة: “لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟”