كما بات معروفاً الآن، وبعد فترات احتجاز استخباراتية صرفة (أي في الأقبية والزنازين، بعيداًعن أيّ قضاء أو قضاة)، لفترات تراوحت بين 49 يوماً وبضعة ساعات، قرّر جهاز أمن الدولة في سورية إحالة معتقلي المجلس الوطني لـ “إعلان دمشق” إلى القضاء. وكان رياض سيف، النائب السابق في مجلس الشعب ورئيس هيئة أمانة الإعلان، قد انضمّ إلى قيادات وكوادر الإعلان المعتقلين، فداء الحوراني وأحمد طعمة الخضر وأكرم البني وعلي العبد الله وجبر الشوفي وياسر العيتي ووليد البني وفايز سارة ومحمد حجي درويش ومروان العش، إذْ اعتقله الجهاز ذاته في يوم مثول هؤلاء أمام محمد الساعور، قاضي التحقيق الثالث في دمشق.
لا أحد، بالطبع، يستطيع الإفتاء في كيفية عثور اللواء علي مملوك، رئيس الجهاز، على الموادّ القانونية التي أتاحت له الاحتفاظ بهؤلاء المواطنين خارج نطاق القضاء طيلة هذه الفترات المتباينة، غير الشرعية بأيّ عرف قانوني؛ ولا في “المزاج” القانوني الذي هبط بغتة على سادته في أعلى الهرم، فوجّهوا سيادة اللواء إلى تفعيل قوس القضاء بعد طول إعمال لسوط الجلاد. نعرف، مع ذلك، أنّ المعزوفة القانونية المكرورة إياها عُزفت مجدداً في القصر العدلي بدمشق: 1) النيل من هيبة الدولة وإيقاظ النعرات العنصرية والمذهبية؛ و2) تكوين جمعية بقصد قلب كيان الدولة؛ و3) نشر أنباء كاذبة من شانها أن توهن نفسية الأمة.
ولا مناص، في التسفيه الإبتدائي لهذه المهزلة القضائية، من أن يجنح المرء نحو مساجلات تبسيطية من الطراز التالي: أيّة دولة هذه التي ينال من هيبتها 163 مواطناً اجتمعوا سلمياً وطوعياً في دمشق، أي ليس في أيّ مكان خارج البلاد، في وضح النهار، وتداولوا في شؤون بلدهم وأمّتهم، وطالبوا بسورية أفضل وأعدل وأنظف، ولم يكن في حوزتهم أيّ سلاح ثقيل أو خفيف سوى الكلام (أو، كما عبّر أحمد منصور من فضائية “الجزيرة” في حواره مع وزير الإعلام السوري محسن بلال: “ده بيتكلّم بسّ!”؟ وكيف يمكن إيقاظ أية نعرة عنصرية أو طائفية إذا كان المجلس، كما ذكّرهم رياض سيف بحقّ: “يضم فداء حوراني، المسلمة السنية الحموية العلمانية القومية، والكردي الوطني عبد الحميد درويش، والمسلم العلوي اليساري الماركسي عبد العزيز الخير، والماركسي الليبرالي أكرم البني، والإسلامي الديمقراطي أحمد طعمة”؟
وكيف يمكن لهذه “الجمعية” التي اسمها “إعلان دمشق”، المؤلفة غالباً من محامين وأطباء ومهندسين وصيادلة وأكاديميين وكتّاب وصحافيين، أن تنجح في “قلب كيان الدولة”، إذا كانت تركيبة ذلك الكيان ليست أقلّ من نظام إستبدادي إستخباراتي عسكرتاري عائلي مافيوزي الطابع والطبيعة؛ عدد الأجهزة الأمنية فيه يقارب الـ20، تتشعّب ميادين اختصاصاتها، وتتداخل صلاحياتها وتفويضاتها على نحو عنكبوتي عشوائي، وتتضخّم أعداد العاملين فيها (بين 250 إلى 300 ألف عنصر)، الأمر الذي يضع رقيباً أمنياً واحداً على كلّ 60 من مواطنات ومواطني سورية؟
وفي المقابل، وضمن سياق متابعة السجالات التبسيطية إياها، ماذا عن الموادّ الدستورية الأخرى التي تسفّه هذه الإتهامات، المنصوص عنها في الدستور السوري ذاته الذي استنّه النظام ذاته، في عهد حافظ الأسد؟ ماذا عن المادة 26: “لكلّ مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية”؛ أو المادة 38: “لكلّ مواطن الحقّ في أن يعرب عن رأيه بحرّية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى (…) وتكفل الدولة حرّية الصحافة والطباعة والنشر وفقا للقانون”؛ وأخيراً، وخاصة، المادة 39: “للمواطنين حقّ الإجتماع والتظاهر سلمياً في إطار مبادىء الدستور”؟ وما الذي فعله المشاركون في اجتماع المجلس الوطني لـ “إعلان دمشق” سوى ممارسة بعض هذه الحقوق؟
والحال أنّ المناخات الأمنية الراهنة (جرى خلال الساعات الأخيرة اعتقال الفنّان التشكيلي طلال أبو دان، عضو المجلس الوطني للإعلان، ومنذ موجة الإعتقالات الأولى يعيش عدد كبير من كوادر الإعلان في شروط الحياة السرّية، بعيداً عن عائلاتهم وأعمالهم) إنما تعيد التشديد على خلاصة سبق للبعض، وفي عدادهم كاتب هذه السطور، أن قال بازدياد علائمها وعلاماتها: أنّ نظام بشار الأسد يمكن أن ينقلب، في عدد من الملفات الأمنية الداخلية والسياسية الخارجية، إلى ما هو أسوأ بكثير ممّا كانت عليه حال تلك الملفات في عهد أبيه حافظ الأسد. على سبيل المثال الأحدث: كان الأخير سيتردّد كثيراً قبل أن يوجّه نقابة حزبية تافهة، في أقضى الشمال الشرقي من سورية، إلى إصدار بيان يتهم رياض الترك بالعملة للأجنبي؛ أو أن يكلّف وزارة الأوقاف أن تأمر خطباء المساجد، وبدل مديح “نظام الممانعة” والتغنّي بصمود “سورية الأسد”، بشتم رياض الترك من منابر صلاة الجمعة!
ولا يكفي، في يقيني الشخصي، النظر إلى نظام بشار الأسد كامتداد طبيعي وعضوي وبنيوي لنظام أبيه، بمعنى أن يكون «الحركة التصحيحية ـ 2» وأن يضيف إليها دون الإخلال بها، إذْ يتوجّب كذلك أن ينتظر المرء النتيجة الرديفة التالية: أنّ قِدَم عهد الأسد الابن، خصوصاً في جانب ارتباطه بالنظام القديم الذي بناه الأب، سوف يتكشّف على نحو دراماتيكي صارخ عند وقوعه في أوّل أزمة جدّية شاملة، أي حين ستقتضي المواجهة قواعدها الصارمة القاتلة المدمّرة، وحين لا يعني اللجوء إلى أنصاف الحلول سوى المزيد من تعميق المأزق. ورغم أنّ «ربيع دمشق» لم يكن يندرج في خانة الأزمات التي يمكن أن تهزّ أركان النظام وتكشف طبيعته الإستبدادية القديمة ـ المقيمة، فضلاً عن حقيقة أنّ ذلك «الربيع» كان في الأساس قد أطلّ مقترناً بالخفر والحياء كما يتوجّب القول، فإنّ السلطة لم تحتمله إلا بضعة أسابيع.
ونتذكّر، كما ينبغي هنا أيضاً، أنّ ذلك «الربيع» كان أقصر بكثير من أن يسمح بعبور سنونوة واحدة، وأكثر هزالاً من أن يستوعب نقاشاً سياسياً جديداً من أيّ نوع، وبينه وعلى رأسه ذلك النقاش حول «المجتمع المدني»، والذي بدأ صادقاً ومتواضعاً لكي ينتهي زائفاً وسفسطائياً. السلطة، في ائتلاف مدهش ضمّ الحرسَيْن القديم والجديد، لم تكتف بإطلاق الطوابير الخامسة في مسعى وأد النقاش في المهد وتجييره إلى ما ليس فيه وما يفرغه من المضمون الملموس فحسب، بل هي استنفرت أجهزتها من القمّة إلي القاعدة: بدأ الأمر من وزير الإعلام آنذاك عدنان عمران، ثمّ تواصل مع أحاديث الأسد نفسه إلى عدد من الصحف، وبلغ نائب الرئيس آنذاك عبد الحليم خدام، وانتقل بالإستتباع إلى أعضاء القيادة القطرية للحزب الحاكم، وانتهى بالطبع إلى كتّاب الأعمدة والتعليقات والمقالات «الفكرية» في صحف السلطة أو الصحف العربية الموالية.
ومنذ تولّي بشار الأسد مقاليد الحكم وحتى اندلاع حملات تجريم المثقفين ودعاة المجتمع المدني، مطلع العام 2001، تغاضت أجهزة السلطة عن خطاب إعلامي رسمي أخذ يبشّر بالتغيير، ويضطرّ في سياق التغنّي بالتغيير إلى توجيه بعض النقد المبطّن لتجربة الماضي، ويقتبس «خطاب القسم» على نحو انتقائي واتكائي وغائيّ زائف غالباً. ذلك أجبر السلطة على ما يشبه السكوت، وإنْ بنفاد صبر أقلّ، أمام جرأة رجال من أمثال رياض الترك والراحل أنطون مقدسي في صياغة نقد حقيقي صريح يتناول المسائل الحقيقية الصريحة، وأمام بيان الـ 99، ونشاطات «أصدقاء المجتمع المدني»، والمنتديات الثقافية.
غير أنّ صبر السلطة (وهي هنا جماع تمثيل نُخَب الأجهزة الأمنية والعسكرية والسياسية ـ الإقتصادية، إلى وكلاء الفساد والنهب والتجارة القذرة) أخذ ينفد سريعاً، وكان لا بدّ أن ينفد قبل استفحال الأمور واستقرار النقاش في الشارع والوجدان. وكان لا مناص من وقوع التطوّر الوحيد المنطقي في سياقات مثل هذه: اتّحاد مراكز السلطة الأمنية والعسكرية والمدنية، الحرس القديم مثل الحرس الجديد، في المطالبة بوضع حدّ «فوري» و«حازم» لما يجري في المنتديات الثقافية، ولما يُكتب في الصحف المحلية والعربية. الإقتراح الأوّل كان «إغراق» المنتديات الثقافية بالأعضاء البعثيين، الأمر الذي يجرّد هذه المنتديات من سلاح تمثيلها لـ «الرأي الآخر» في المجتمع السوري. الإقتراح الثاني كان العودة (بعد غياب طويل!) إلى قواعد الحزب الحاكم، واستنهاض عقلية العُصبة والتعصّب، والتحريض على النزول إلى الشارع لمواجهة المارقين من دعاة المجتمع المدني. أمّا الإقتراح الثالث فقد كان يخصّ القيادة السياسية نفسها، والرئيس بصفة خاصة: إنّ للصبر حدوداً، ولا بدّ من العودة إلى قبضة البطش! كلّ هذا تكشّف، دفعة واحدة، في أعقاب إطلالة «ربيع دمشق» التي لا يعقل أنّ النظام رأى فيها أزمة تهدّد وجوده، فكيف لا تكون الحال اليوم أدهى والنظام لا يخرج من مأزق حتى يدخل في سواه، على النقيض ممّا يفيد السطح الظاهر، حول راحة بيت السلطة واستقرار النظام؟
استطراداً، تشير سيرورة حملة الإعتقالات الأخيرة (من التأخر في تنفيذها تسعة أيام أعقبت انعقاد مجلس “إعلان دمشق”، إلى إطلاق سراح البعض والعودة إلى اعتقال البعض الآخر، إلى الوعد الذي قطعه الأسد أمام السناتور أرلين سبكتر والنائب باتريك كنيدي بالإفراج عن المعتقلين خلال وجود الزائرَين الأمريكيين في سورية، إلى هجاء هذا الوعد ذاته واعتبار التصريح به تدخلاً في الشؤون السورية الداخلية، وصولاً إلى التخبط طيلة أسابيع بين خيار الإبقاء على المعتقلين في عهدة جهاز أمن الدولة أو إحالتهم إلى القضاء، دون إغفال استخدام “تقنيات” جديدة في التعذيب والتحقيق واستخلاص الأدلة القانونية الكاريكاتورية، مثل تزوير إقرارات من بعض الموقّعين تؤكد ارتباط رياض الترك بقوى خارجية!)، تشير هذه السيرورة إلى مزيد من الإستقطابات داخل رؤوس النظام، حول السياسات الأمنية الواجب اتباعها ازاء المعارضة الداخلية.
وليس الأمر أنّ أياً من الرؤوس يمكن أن يعترض على استخدام قبضة البطش ضدّ أيّ مستوى جدّي من أنساق عمل المعارضة، ولكن من الواضح أنّ وعد الإفراج عن المعتقلين أمام سبكتر وكنيدي كان يصدر عن حاجة إلى تجميل وجه النظام أمام الزائرَين (وهما، في الأغلب، آخر مَن تبقّى من المستعدّين لمحاورة الأسد من قيادات الحزب الديمقراطي)، وإلى الإعراب في الآن ذاته عن قوّة النظام في وجه حفنة من المثقفين “هواة الإحتجاج الدائم” حسب تعبيره. من غير الواضح، منطقياً، ما إذا كان هذا التقدير يحظى بإجماع كافٍ داخل بيت السلطة، ليس بدليل الإنقلاب على الوعد فحسب، بل بدليل الإنقلاب إلى ضدّه الأشدّ! ما هو واضح، بل شديد الوضوح في الواقع، هو أنّ رجل الأمن الأقوى في العائلة، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية اللواء آصف شوكت، متفرّغ لتلك القضايا الاخرى الخافية الخفية، التي قد يصحّ بالفعل القول إنها تنال من هيبة النظام، بدليل أنها تستدعي استخدام وسائل ردع قاطعة قاتلة لا تُقارَن البتة بما يمارسه قاضي التحقيق الثالث في القصر العدلي بدمشق!
وفي مثل هذه الأيام، قبل ثلاث سنوات، كتب جو كلاين، الصحافي في أسبوعية «تايم» الأمريكية، أنه خلال التحضير للحوار الذي أجراه بعدئذ مع الأسد، كان قد تحدّث مع كمال اللبواني (أحد ناشطي «ربيع دمشق» الذين قضوا حكماً بالسجن، قبل اعتقاله مجدداً)، وأنّ اللبواني الطبيب طلب منه أن يسأل بشار الأسد الطبيب عن سبب اعتقاله. «لستُ أنا الذي زجّ به في السجن. لستُ أنا الذي يقوم بكلّ شيء في هذا البلد»… كان جواب الرئيس!
وكيف، إذاً، يستقيم ذلك الهتاف الهستيري: «الله، سورية، بشار، وبسّ»؟
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري- باريس