إعادة تقييم المساعدة العسكرية الأمريكية للبنان (2)

0

كيف تنظر واشنطن إلى مسألة تسليح الجيش اللبناني بعد أحداث “العديسة”؟ النقاش الدائر الآن يعكسه دافيد شينكر، الباحث في “معهد واشنطن”، وكان قد عمل في البنتاغون لسنوات. في ما يلي الحلقة الثانية من دراسة دافيد شينكر. (لقراءة الحلقة الأولى)

منذ عام 2005، التزمت واشنطن بتقديم أكثر من 700 مليون دولار من المساعدات العسكرية إلى “القوات المسلحة اللبنانية” (“الجيش اللبناني”). وفي أعقاب قيام “القوات المسلحة اللبنانية” بإطلاق النار عبر الحدود على ضابطين إسرائيليين ومقتل أحدهما في 3 آب/أغسطس، أصبح هذا التمويل محل تدقيق متزايد. فليس من قبيل الصدفة أن حادث إطلاق النار قد أتى في أعقاب سلسلة من الإنتكاسات التي تعرض لها حلفاء واشنطن في بيروت، والتي بدورها غيرت بشكل جذري الظروف التي حفزت ارتفاع المعونة الأمريكية في عام 2005. ومن غير الواضح كيف تؤثر هذه الدينامية الجديدة على الجيش، إلا أن الكثيرون يستدلون من عملية إطلاق النار بأن “القوات المسلحة اللبنانية” تتحول بعيداً عن حياديتها، و[تميل] باتجاه «حزب الله». وبصورة أوسع، أحيت الحادثة تساؤلات عما إذا كان بالإمكان في النهاية تحقيق الهدف السياسي الرئيسي لواشنطن تجاه “القوات المسلحة اللبنانية” — ترسيخ سيادة الدولة على جميع الأراضي اللبنانية — أم لا.

ورغم هذه التغيرات العميقة على أرض الواقع، لم يطرأ أي تغيير على السياسة الأمريكية تجاه لبنان — والتي يعتبر تمويل “القوات المسلحة اللبنانية” حجرها الأساسي. ففي 12 آب/أغسطس، ذهب نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارك تونر إلى حد وصف التمويل بأنه جزء من “المصالح القومية…. الحيوية” للولايات المتحدة. من المحتمل أنه كان هناك ما يبرر هذا المستوى من الأولويات أثناء ذروة “ثورة الأرز”، لكن هل ما يزال الأمر كذلك حتى يومنا هذا؟

الخلفية

في عام 2005، عززت إدارة الرئيس بوش المساعدات الأمريكية إلى “الجيش اللبناني” التي كانت مسبقاً على مستويات صغيرة، استجابة لـ “ثورة الأرز” التي أنهت الإحتلال السوري للبنان الذي دام ثلاثين عاماً. وعلى الرغم من أن «حزب الله» لا يزال يهيمن على الجنوب وأجزاء كثيرة من بيروت، رأت واشنطن بأن رحيل سوريا شكل فرصة غير مسبوقة لتعزيز السيطرة الكاملة للحكومة اللبنانية على جميع أنحاء البلاد.

ومع ذلك، فقد أعادت دمشق حالياً ترسيخ نفسها كقوة في بيروت، وهو الأمر بالنسبة لـ «حزب الله» الذي أعاد سيطرته من جديد. وبإدراكه هذه التغيرات، قام رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي النائب هوارد بيرمان (ديمقراطي من ولاية كاليفورنيا) بتعليق حزمة المساعدات لعام 2011، وطلب أن تقدم الإدارة الأمريكية توضيحات حول نصوص الصفقة. وقد قام بيرمان بتلك الخطوة في 2 آب/أغسطس، وتبين أنها كانت تنبؤية، حيث فتحت قوات “الجيش اللبناني” النار على القوات الإسرائيلية في اليوم التالي.

سجل مختلط

لقد كان هناك هدفان لبرنامج واشنطن لـ “التمويل العسكري الخارجي” للبنان الذي أعيد بعثه من جديد. فعلى المدى البعيد كانت الغاية هي بناء قدرات كافية تُمكِّن “القوات المسلحة اللبنانية” من مواجهة الميليشيات وتعزيز سيادة الدولة. (ولم تعتقد إدارة الرئيس بوش بأن “الجيش اللبناني” سيكون قادراً على حل محل «حزب الله» في أي وقت قريب). وعلى المدى القريب سوف يعزز التمويل الأمريكي قدرات “القوات المسلحة اللبنانية” لمكافحة الإرهاب ومجابهة أولئك الذي يدورون في فلك تنظيم «القاعدة»، وهي حاجة ملحة نظراً لقلة سيطرة الدولة على معظم أنحاء البلاد.

لقد خطا البرنامج خطوات واسعة في وقت مبكر، في أعقاب الحرب بين «حزب الله» وإسرائيل عام 2006، عندما استطاعت “القوات المسلحة اللبنانية” أن تنشر جنودها بصورة غير مسبوقة في الجنوب. ولم تكن عملية الإنتشار المرة الأولى فقط منذ عقود التي قام فيها الجيش بوضع جنوده قرب الحدود مع إسرائيل، لكنها شكلت أيضاً أول وجود بارز للحكومة في الأراضي التي يسيطر عليها «حزب الله». كما أن التعاون لمكافحة الإرهاب كان إيجابياً أيضاً — فوفقاً لمساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان، أدت المعونة الأمريكية إلى حدوث تحسينات “مهمة” في عمليات “القوات المسلحة اللبنانية” على طول تلك الخطوط.

بيد، كانت هناك خيبات أمل أيضاً. فعلى سبيل المثال، تواطأت عناصر من “الجيش اللبناني” مع «حزب الله» خلال حرب عام 2006، مما أتاح للجماعة استخدام رادار البحرية اللبنانية لتتبع السفينة الحربية الإسرائيلية “حانيت” وكانت على وشك إغراقها. وبالمثل، قامت “القوات المسلحة اللبنانية” في عام 2008 بتنسيق [العمليات] مع «حزب الله» أثناء غزو الميليشيا لبيروت، ولم تُظهر أي تحد للهجوم الذي شنته الجماعة، وبعد ذلك قامت تلك القوات بإعفاء رجال الميليشيا عن مواقعهم وأخذها بعد الإنسحاب.

غير أن نشر الجنود في جنوب البلاد مثّل أيضاً بعض الإشكالية. ففي ذلك الوقت توقع القليلون أن تقوم “القوات المسلحة اللبنانية” بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 بالكامل وتنزع سلاح «حزب الله». غير أنه بالإضافة إلى تواجد “الجيش اللبناني” في المنطقة، أثبتت العملية بأنها كانت تجميلية في معظمها. والأسوأ من ذلك — إذا صحت المزاعم الإسرائيلية — كانت “القوات المسلحة اللبنانية” تزود «حزب الله» بمعلومات عن الزيارات الميدانية لـ “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”)، وبذلك قامت بحماية أصول الميليشيا وتقويض مهمة “اليونيفيل”.

الغرض من برامج “التمويل العسكري الخارجي”

بوجه عام إن برامج “التمويل العسكري الخارجي” معدة لتحقيق ثلاثة أهداف: بناء القدرات العسكرية للدول الصديقة، ومساعدة واشنطن على فهم وكسب نفوذ مع هذه الجيوش، وإعاقة التدخلات التي تقوم بها دول غير صديقة. وعلى الرغم من الدور السياسي المتنامي لـ «حزب الله» تستمر واشنطن في اعتبار لبنان من بين الدول الصديقة، وقد اكتسب ضباط الجيش الأمريكي نظرة متبصرة عن طريقة تفكير “القوات المسلحة اللبنانية” من خلال برامج المساعدات. غير أن ثمرة التقدم في الأهداف الأخرى كانت بطيئة.

أولاً: من الصعب تحديد مدى النفوذ الذي غذته واشنطن في صفوف “القوات المسلحة اللبنانية” منذ عام 2005. إن رد بيروت على حادثة 3 آب/أغسطس لم يكن مطمئناً. فعلى سبيل المثال، مدح الرئيس ميشيل سليمان — رئيس أركان “الجيش اللبناني” سابقاً — حادث إطلاق النار باعتباره عملاً “بطولياً”، وتعهد بأن تسعى لبنان للحصول على “المزيد من المعدات المتطورة” من الدول “الصديقة”. وبعد قيام الكونغرس الأمريكي بتجميد المعونة إلى لبنان، أدلى وزير الدفاع اللبناني إلياس المر ببيان كان على نفس الدرجة من العدائية، قال فيه: “فليحتفظوا بأموالهم أو يعطوها لإسرائيل”. وقد رفض رئيس أركان “الجيش اللبناني” جان قهوجي هو الآخر تقارير التجميد واعتبرها: “مجرد أفكار طرحها بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي [الواقعين تحت تأثير] اللوبي الموالي لإسرائيل”.

وعلاوة على ذلك، فإن المائة مليون دولار المعتمدة من “التمويل العسكري الخارجي” التي تقدمه الولايات المتحدة والمقرر لعام 2010 قد لا يمنع لبنان من قبول المساعدات العسكرية الإيرانية أو الروسية. فقد عرضت إيران منذ مدة طويلة تقديم مثل هذا الدعم، وفي عام 2008 قبل الوزير المرُّ هبة من موسكو هي عبارة عن عشر طائرات مقاتلة من طراز ميغ 29 (بيد، لم يتم تسليمها بعد). ورغم أن رفض مثل هذه الهدايا سوف يسبب — بلا شك — إحراجاً كبيراً لبيروت، إلا أن “الجيش اللبناني” ليس متحمساً لاستلامها بوجه خاص. فأفراده يعملون منذ فترة طويلة على التأقلم على المعدات الأمريكية لكن العتاد الذي يأتي من أماكن أخرى يميل إلى التعارض مع هذه الجهود. وعلاوة على ذلك، يدرك الجيش جيداً بأن المساعدة الإيرانية تأتي عادة بقائمة طويلة من الشروط المسبقة.

تسجيل ما أحرز من نقاط

بعد خمس سنوات من “ثورة الأرز”، [يعتبر] برنامج “التمويل العسكري الخارجي” آخر أثر رئيسي باق من تعهد واشنطن لحلفائها اللبنانيين. وعندما زار نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن بيروت عشية الإنتخابات العامة اللبنانية في أيار/مايو عام 2009، أعلن أن واشنطن سوف “تقوم بتقييم صيغة برنامجنا للمساعدات وفقاً لتركيبة الحكومة الجديدة والسياسات التي تنادي بها”. واليوم تشارك حركة «14 آذار» في حكومة ائتلافية جنباً إلى جنب مع «حزب الله»، كما أن “بيانها الوزاري” التوجيهي يعطي الآن الشرعية لـ “المقاومة” وأسلحتها. وفي الماضي ربما كانت تعني هذه التطورات نهاية المساعدات الأمريكية، لكن في ظل وجود سبل قليلة أخرى للتعاطي الهادف، استمر البرنامج كما هو.

ولليقين، هناك مزية في رغبة واشنطن في تجنب التخلي عن حلفائها والتي ربما يراها البعض تكراراً لـ “إعادة الإنتشار” الأمريكي خارج لبنان كما حدث في عام 1983. لكن من الواضح أيضاً أن تغيير المعايير المطلوبة لجعل الأمور أسهل كما حددها نائب الرئيس الأمريكي بايدن قد تم تخفيفها بشكل كبير خلال الأشهر الخمسة عشرة الماضية. وبدون قيام الولايات المتحدة باتخاذ بعض الإجراءات التي تدرك التغير العميق الذي حصل في الظروف منذ أن أعلن نائب الرئيس الأمريكي بأن المساعدات ستكون مشروطة بصورة فعالة بتركيب الحكومة اللبنانية وسياسات تلك الحكومة، سوف تختفي أية فوائد عالقة تجنيها واشنطن من مواصلة برنامج “التمويل العسكري الخارجي”.

إن أحد الطرق لمعالجة الوضع الحالي هو قيام وزارة الخارجية الأمريكية وأعضاء لجنة الإعتماد في الكونغرس بالعمل على إيجاد معايير شفافة وواضحة يمكن قياسها وإثباتها بحيث تستطيع جميع الأطراف — بما في ذلك اللبناني — تقييم مزية استمرار مساعدة “القوات المسلحة اللبنانية”. إن المقياس الرئيسي هو العلاقة بين “الجيش اللبناني” و «حزب الله». وفي حين من المتوقع أن يكون هناك اتصال بين عناصر من المؤسستين خاصة في ظل الأغلبية الشيعية داخل صفوف “القوات المسلحة اللبنانية”، ستوفر العديد من المؤشرات نظرة متبصرة مفيدة لعمق تلك العلاقة. وعلى وجه التحديد، من ناحية المضي قدماً، ينبغي أن يتوقف برنامج “التمويل العسكري الخارجي” على تقييم وثيق يقيس [النقاط التالية]، بين أمور أخرى:

• رد “القوات المسلحة اللبنانية” على الضباط الذين يشاطرون معلومات استخباراتية مع «حزب الله»، أو “يخادعون” أو يظهرون سلوكاً إشكالياً آخراً فيما يتعلق بالجماعة (على سبيل المثال: هل تتم معاقبتهم أم تهنأتهم ؟).

• دور “القوات المسلحة اللبنانية” في إخفاء أو حماية أسلحة «حزب الله» (على سبيل المثال: هل يلعب “الجيش اللبناني” دوراً في منع استيراد أسلحة من سوريا أو تدفقها جنوب نهر الليطاني أو تسهيلها ؟).

• تدفق الأفراد بين «حزب الله» و”القوات المسلحة اللبنانية” (على سبيل المثال، هل ينتقل مسؤولو ميليشيا «حزب الله» مباشرة إلى “الجيش اللبناني” ؟).

• تدفق الأسلحة والمواد الأخرى بين “الجيش اللبناني” و«حزب الله» (على سبيل المثال: هل ينتهي المطاف بأسلحة “القوات المسلحة اللبنانية” إلى وقوعها تحت سيطرة «حزب الله»؟).

• جودة تعاون “القوات المسلحة اللبنانية” مع “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”) (على سبيل المثال، هل يبدو أن وحدات “الجيش اللبناني” تتبع توجيهات «حزب الله» في عرقلة عمليات “اليونيفيل” ؟).

• رد “الجيش اللبناني” على قرار الإتهام المرتقب لأعضاء «حزب الله» من قبل “المحكمة الخاصة للبنان” التي ستقاضي قتلة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري (على سبيل المثال، هل ستلقي “القوات المسلحة اللبنانية” القبض على مسؤولي «حزب الله» المتهمين وتنقلهم [ليحاكموا] أم سترفض تنفيذ طلب المحكمة ؟).

الخاتمة

رغم أن مائة مليون دولار كل عام تعتبر قليلة حسب معايير برنامج “التمويل العسكري الخارجي” الأمريكي إلا أنها تشكل جزءاً مهماً من ميزانية “القوات المسلحة اللبنانية”، وتحمل معنى رمزي كبير. ونظراً للمصالح المتنافسة، فإن أفضل طريق بنَّاء للمضي قدماً هو تحديد مقاييس واضحة تتتبع العلاقة بين «حزب الله» و”الجيش اللبناني” وتحد من احتمالية الحنين إلى الماضي والتعاطف الوجداني معه لكي يتم تعتيم التقييم الحالي لـ “القوات المسلحة اللبنانية”.

في آب/أغسطس 2007، ألقى مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية جيفري فيلتمان — الذي كان في ذلك الوقت سفيراً في لبنان — خطاباً في مقر “القوات المسلحة اللبنانية” بمناسبة تسليم مائة سيارة عسكرية أمريكية من نوع همفي قال فيه: “من خلال مساعدتنا العسكرية، نحن شعب وحكومة الولايات المتحدة — بما في ذلك أعضاء الكونغرس — نُظهر ثقتنا في حكومة لبنان ووزارة الدفاع اللبنانية وقيادة وجنود ‘القوات المسلحة اللبنانية’ “. وفي حال غياب هذا النوع من الثقة — الذي يمكن أن توفره قياسات واضحة وشفافة — سيكون هناك مستقبل مظلم لبرنامج المساعدات العسكرية التي تقدمه واشنطن إلى لبنان.

ديفيد شينكر زميل أوفزين ومدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن.

“نشرة المرصد السياسي رقم 1693 هي الثانية في سلسلة مكونة من جزأين تناقش المساعدة العسكرية الأمريكية إلى “القوات المسلحة اللبنانية”. وتعالج هذه المقالة الإتجاه المستقبلي للبرنامج بينما تناولت نشرة”المرصد السياسي #1692″ سياق برنامج المعونة الأمريكي”.

تسليح «حزب الله»؟: المساعدات العسكرية الأمريكية إلى لبنان

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading