تقدّم جمانة حداد لكتابها المعنون بما يلفت “عودة ليليت” (الطبعة الثامنة، منشورات اختلاف، والدار العربية للعلوم ناشرون) بكلمات أشد إلفاتاً: “إلى النساء السبع اللواتي يُقمن فيّ”.
لا أعرف لمَ تذكّرت “عبّاد عشتار” الطائفة السرية التي قيل انها تنتشر بين سورية ولبنان، حالما وقعت على كتاب ” عودة ليليلت”، ربما من خلال مقارنة بين أناشيد هؤلاء والنشيد “الجماني” المحتفي بليليت التي ليست سوى أم عشتار القديمة.
الرقم سبعة المقدّس في الحضارات الشرقية، يرتبط في العقل المعاصر بأساطير عديدة أشهرها أنه (رقم-علاقة) لحركة أثارت العقل البشري قروناً عديدة (الحركة الماسونية) وما ارتبط بها من أفكار وأفكار مضادة. ليس هذا الملفت الوحيد في التقديم، لأن الملفت الآخر أن الكاتبة تنهل من أسطورة أخرى عن القطة ذات الأرواح السبعة، متقمصة روح القطة أو جسدها، في روحها سبعة أرواح او سبع نساء، وهي أسطورة أخرى غذّتها الدراما.
أن تحلم امرأة أنها بسبعة أرواح أمر غير عادي، إلا لامرأة شاعرة تتخطّى الممكنات لتصل إلى الأقصى، رغبةً في تحطيم العادي الطبيعي، حيث تجد ليليت نفسها في مكانها الأحب (الخراب)، بعد تحوّل السلطة وانقراض الممالك، في “مأوى بنات آوى… والنعام تلاقي وحوش القفر والضباع هناك تقر ليليت وتجد لنفسها مكاناً مريحاً”.
هكذا أيضاً قدّمت جمانا حداد مستعيرة من سفر أشعيا (34: 14) إنها ليليت المتمردة المخلوقة من التراب كآدم وليس من ضلعه، رفضت الخضوع لأحد فهربت من الجنة رافضة العودة إليها. إنها ليليت وليس حواء، هنا الفرق. نحن أمام كائن جديد في الأسطورة، كائن غائب عن ثقافتنا العربية، غائب حتى عن أساطيرنا. رمز ممنوع عن الوعي البشري، سُجن آلاف السنين، تنبشه جمانا حداد من بين براثن الغياب، من بين التابوات المغيّبة في اعماق التاريخ والأسطورة الذكوريتين، لتقدمه لنا فنقف أمامه مذهولين. كوكب جديد في أعماق ماضينا نبصره لأول مرة .
تتقمص الشاعرة شخصية ليليت، فتعود من لاوعينا إلى الحاضر لتخبرنا عنها، هذه التي تتحدث عن نفسها: “لن يحصيني تفسير ولن أرضخ لمعنى”.
هي جنس ثالث ضائع بين جنسين أو جامع لجنسين، مجمع الجنسين: “انا الجنسان ليليت، أنا الجنس المنشود”.
في ” مبتدأ أول” تخبرنا ليليت عن نفسها، فتقع في مطب السرد والمعلومة. في “مبتدأ ثان” وصف لليليت كآخر، وصف خارجي.
في عودة ليليت تروي سالومي “نشيد سالومي في إبنة ليليت” فنجد أثر ليليت المتمردة حتى في تشاوفها، يتدخّل ليل الورق (فكرة إخراجية بصرية يراعي فيها مخرج الكتاب لون الصفحة تبعاً لمضمون الكتابة فوقها، مثلاً عند الحديث عن الليل يكون لون الصفحة كحلي، عند الحديث عن الغابة تصبح الصفحة خضراء) فتكتب ليليت فوق ليله “أنا ليليت إلهة الليلين العائدة من منفاها”.
في أماكن كثيرة نعثر على عشتار، المقطع الخالد الذي تُرجم إلى كل اللغات، تستعيده ليليت: “لأني الأولى الأخيرة المومس العذراء”. نجد أسلوب ليليت مشابهاً لأسلوب العهد القديم.
” كل ما يسمعني يستحق القتل” رغبة إنتحار، رغبة بنحر الأصدقاء أيضاُ.
ترتكب ليليت-جمانا النبؤة والحكمة معاً بلسان الكتب المقدسة، لطالما ترددت أسطورة أخرى حول امرأة خفيّة كتبت الكاتب المقدس، ستؤكد جمانة حداد ذلك، فلا يمكن أن تجتمع الحكمة والشعر والقسوة والنبوءة إلا في قلب امرأة. “تسرق الذين سيصيرون شعراء، فهؤلاء شعبها”.
ليست “عودة ليليت” كتاباً عابراً، محاولة كتابة مقدسة في فرارها من المقدس، في تقديس ماكان دوماً في الثقافة العربية مُدنّساً. إعادة اعتبار للمتروك المرذول، إعادة اعتبار لفكرة الرفض، وتحويلها إلى مجسّد في ليليت القوة الشريرة الثائرة، المرفوضة الرافضة لكل شيء.
تحاول جمانة حداد عبر ليليت جمع التضاد، خياطة الداعر بالطاهر، مزج المتناقض ” أنا الملاك الماجن”، “الحيية وأكمن في كلمات داعرة”.
في عودة ليليت (مشهد درامي بتوزيع مسرحي) حيث “الرجل يروي ليليت” سبع حالات هي سبعة أدوار لرجال في حياة إمرأة (العشيق، الأخ، الأب، الإبن، الزوج، المعلم، الصديق)، يُظهرهم المشهد متحلّقين حول حفرة يخرج منها لهيب، كناية عن جهنم أو بيت ليليت؟
يتبارى الرجال السبعة في تعداد فضائل ليليت الفاضلة، وفي تعداد المثالب التي هي دوماً مع ليليت ليست سوى فضائل “هي سبع نساء في امرأة، واحدة لكل منا” يقول الزوج، يرد العشيق” بل سبع لكلّ منّا”. ينتهي المشهد بترنيمة “الجوع خطيئة الشبع خطيئة والجمر أولى الوصايا”، هي وصية ليليت العائدة: “من الجنة أعود لأني رسولة الجحيم”.
في هذا الفصل تصل العبارة الشعرية إلى أقصى كثافة ممكنة، تشبه الحكمة الشعرية منطوقة بألسنة الرجال السبعة…
في “عودة ليليت، نص “( الله يروي ليليت) الله يروي ذاته في سأمه أنه صار إنساناً ثم عاد فصار” هو “. كتابة تذكّر من جديد بأسلوب الترجمات العربية للكتاب المقدس لاسيما في عهده القديم، يتمنى الإله البشرية والكائنية المجسّدة في الكائنات، و”يعترف” مسرّاً للشاعرة أنه الأشياء والأفعال لكنه يائس من الإنسان ثم ها هو يشعر بالذنب لنفيه ليليت:”واخترعت لها آدم فملّته ورحلت”، وأرسل ملائكته لها لكنها رفضت: “فقالت هل أترك الملذات الناقصة من أجل حياة برفقة الكامل”، بل فوق ذلك تواجه ليليت منطق الإله وتقدم رؤيتها للخلاص: “لن يكون خلاص لأي ملاك إلا بالسقوط”، ويعلن أنه ندم وفكّر بالإنتحار، ويعلن أنه ندم أيضاً لأنه اخترع البديل عن ليليت وسمّاها حواء، ويعلن أنه يحسد الشيطان لأنه يوسوس للبشر، يقول الإله أيضاً كاشفاً :”وسوف أنهم اخترعوني وصدقوني ونعتوني بالجنون لأنهم صدقوني وأنسى أولئك الذين أنكروا وجودي والذين انكروني اني خلقت الكون في السبعة أيام” ويتابع معلّلاً : “لأني في أحد الأيام سوف أستيقظ وقد نسيت أني الإله ال هو” مبشراً أن ليليت سوف تعود في النهاية مظفّرةً … هكذا تنهي جمانة حداد مغامرتها الأسطورية في إعادة الخلق أنثوياً، في إعادة خلق الأسطورة شعراً منتصرةً على الإله الذكري رافعة ليليت إلى مصاف الإلهة.
الكتابة بنفس واحد كشهقة واحدة تذكّر بالمتصوفة في سردهم السماوي الصاعد إلى مافوق الخيال والحلم، بهكذا كتابة تكتب حداد لتصل إلى سقف اللاوعي الصاخب اللازوردي، ولعلّ غياب علامات الترقيم لاسيما الفاصلة والنقطة مسألة مقصودة في تقنية الكتابة الأمر الذي يشعر القارئ كأنه أمام نص كطلقة مسدس تعبره وتصيب منه القلب فيفوح خياله ليستطيع مجاراة هذه الملحمة المصاغة بشعرية عالية …..
هكذا
ستنتهي من قراءة عودة ليليت لتعيد القراءة مرة تلو الأخرى،
لا أرتوي حتى أخالني أمسكت قلماً ورحت أعيد كتابة ما قرأت مما كتبته ليليت، أمّنا القديمة، حلمنا التي نعيد اكتشافها فتعيد اكتشافنا، اكتشاف الذوات والنزوات، أتذكر نزواتنا معاً، مثلما قرّاء كثيرون سينتهون إلى نزواتهم وذكرياتهم، كل منهم مع “ليليته” الخاصة ؟!
“أوغار” شاعر سوري
إعادة الخلق أنثوياً بالشعر: عن “عودة ليليت”
(عاهرتي العزيزة ليليت)..أعرف أنّي اله ينزف بالهوى فيك ؛ ايّاك أشفع ان أخطأت عناويني ؛ لا يعيب ذوق اله يسبح في هواك ، وأخال حالك حالي بخلقي فكونيني ؛أعطيك كلّي لتحيا مدفونتي فيك ؛ اني أحبّها فيك؛ انّي أحبها لتقتليني .30/9/2012 (عابرسبيل)albacha