“يمكن للولايات المتحدة — من خلال استهداف قطاع الطاقة السوري — أن تصيب الرئيس بشار الأسد بضربات تؤلمه حقاً، وذلك بالحد من موارده المالية.”
بعد مرور أربعة أشهر على الانتفاضة السورية، لا يزال العنف الذي يعصف بالبلاد سيئاً ويزداد سوءاً. وقد شهدت مدينة حمص الجامحة مصادمات طائفية في نهاية الأسبوع الماضي، قالت التقارير إنها خلّفت عشرات القتلى، بينما تجمعت القوات الموالية للرئيس السوري بشار الأسد في مدينة “البوكمال” الشرقية. ومع استمرار فشل منهج “القبضة الحديدية داخل القفاز المخملي” الذي يتّبعه نظام الأسد، تتجه جميع الأنظار نحو بداية شهر آب/أغسطس الموافقة لغرة شهر رمضان الكريم لدى المسلمين، حيث قد يؤدي قيام نظام الأقلية العلوية بقتل المحتجين ذوي الأغلبية السنية إلى تحويل الانتفاضة إلى حمام دم طائفي.
كما أن إراقة الدماء هذه، التي هي مأساوية في حد ذاتها، تسبب أيضاً إبطاء عجلة الاقتصاد السوري المترنح إلى درجة التوقف التام. وسوف ينطوي ذلك التطور على مخاطر محددة لا سيما للأسد، حيث قد يسبب في النهاية إلى انهيار روابط نخبة رجال الأعمال — في المراكز التجارية في دمشق وحلب — مع النظام، والانضمام الى صفوف المعارضة. كما أن إيران، الحليف القوي للأسد، تُدرك هذا التهديد بدون ريب، فقد أوردت التقارير أن طهران تدرس تقديم حزمة معونات اقتصادية إلى سوريا تبلغ 5.8 مليار دولار إلى جانب تقديم إمدادات يومية تبلغ 290,000 برميل من النفط للشهر القادم. ولحسن الحظ، لا تمتلك إيران التي تواجه ضائقة مالية، الموارد الكافية لإنقاذ الأسد إلى ما لا نهاية إذا قامت الولايات المتحدة بتنظيم الجهود الغربية لإصابة سوريا في نقطة ضعفها — وتحديداً عائداتها من الطاقة.
وكلما طالت فترة ترنح نظام الأسد، أصبحت سوريا أكثر عنفاً ودموية. ومن ثم تربط الشعب السوري والولايات المتحدة والمجتمع الدولي مصلحة مشتركة تدعو إلى قيام فترة انتقالية قصيرة قدر الإمكان. وللمساعدة على إنهاء سفك الدماء والتعجيل برحيل نظام الأسد، ينبغي على واشنطن أن تكون أيضاً أكثر قسوة مع نظام الأسد.
وتنتج سوريا نحو 390,000 برميل من النفط يومياً — وهذا معدل منخفض عما كانت تنتجه في عام 1996 حيث بلغ الإنتاج حينها 600,000 برميل يومياً — ونحو 6 مليارات مكعبة من الغاز سنوياً. وتصدّر سوريا من ذلك الإنتاج نحو 148,000 برميل يومياً من الخام الثقيل والحامض “سويدي”، حيث تؤول العائدات مباشرة إلى الدولة، أما الغاز فيجري استهلاكه بأجمعه على المستوى الداخلي. ووفق تقديرات “صندوق النقد الدولي” والحكومة الأمريكية، تمثل مبيعات النفط نحو ثلث عائدات الدولة، حيث تأتي النسبة المتبقية بشكل متزايد من ضرائب الموظفين في الشركات والقطاع العام.
إلا أن الاحتجاجات أصابت الاقتصاد السوري وعملته بقوة، وهي حقيقة من المتوقع أن تخفض إيرادات الضرائب بشكل كبير. وبالتالي، فمن المرجح أن تصبح سوريا معتمدة بصورة متزايدة على عائدات النفط. وهذا بدوره سيحد من قدرة النظام على تمويل أجهزته الأمنية والجيش (وهما الهيئتان الرئيسيتان المسؤولتان عن القمع الوحشي)، والحفاظ على دعم السوق (على سبيل المثال، لوقود الديزل والبنزين)، وسداد رسوم شبكات المحسوبية الحيوية للنظام.
كما أن تراجع العائدات سوف يُرغم النظام إلى اللجوء إلى المزيد من الإنفاق لسد العجز. ويمكنه أن يقترض مقابل احتياطياته البالغة 17 مليار دولار في “مصرف سوريا المركزي”، لكن سيكون ذلك بصفة أساسية عن طريق طباعة النقود، مما يؤدي إلى حدوث تضخم يضعف الليرة السورية والثقة في النظام المصرفي. وبإمكان النظام أن يقترض أكثر من المصارف المملوكة للدولة والقطاع الخاص، والتي تضع فيها نخبة رجال الأعمال في دمشق وحلب مدخراتها. لكن مع استمرار تصاعد المظاهرات وتزايد تكلفة التعامل مع نظام الأسد بشكل كبير، فمن المرجح أن يسحب التجار ورجال الأعمال السوريين ودائعهم. إن أياً من السيناريوهين سيقوض شريان الحياة الاقتصادية للنظام ويساعد على تحفيز انشقاقات النخبة — التي هي عنصر هام في تطوير نظام سياسي جديد.
وفيما يتجاوز العقوبات المستهدفة على المسؤولين السوريين المفروضة بالفعل من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما، لدى واشنطن أدوات للاستفادة من الطاقة السورية وحرمان نظام الأسد من أرباح جوهرية من عائدات النقد الأجنبي.
وفيما يلي ست طرق لزيادة الضغط:
1- الضغط على مشتري النفط الخام السوري: تستطيع إدارة أوباما أن تحفز المشترين الرئيسيين للنفط السوري — الشركات في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا — من أجل التوقف عن شراء النفط الذي يبيعه النظام. ويُباع النفط السوري في السوق الفورية ومن خلال عقود طويلة الأجل بسعر يقل بنحو 10 دولارات عن سعر خام برنت المعياري. ويمكن إلغاء هذه العقود إذا فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على بيع النفط السوري في أوروبا. وبالنظر إلى موقف أوروبا القوي بشأن حقوق الإنسان والمسار الدموي للقمع حتى الآن، فمن المحتمل أن يزداد الدعم لاتخاذ إجراء من هذا القبيل.
ومع ذلك، فقد أوردت التقارير أن البعض في أوروبا قلقون من أن إيقاف شحنات النفط قد يمثل نوعاً من العقاب الجماعي بما يماثل عقوبات الأمم المتحدة النفطية على العراق في عهد صدام حسين. ورغم أن المقارنة تنطوي على بعض المعضلات — إلا أن العقوبات العراقية نشأت من واقع قرار مجلس الأمن الدولي، وهو الذي لم يُنظر بعد حتى الآن في حالة سوريا — ومن المهم الإشارة إلى أن عائدات النفط في العراق كانت تمثل نسبة أعلى بكثير من النقد الأجنبي وعائدات الميزانية. وفي حين لا يزال السوريون يعتمدون على القطاع العام للتوظيف والإعانات، إلا أن العديد من السوريين قد شغلوا بشكل متزايد أعمالاً في القطاع الخاص — بنظام الدوام الكامل أو الجزئي — للوفاء باحتياجاتهم. وبمعنى آخر، فإن فرض عقوبات على النفط السوري سوف يؤثر على تمويل النظام أكثر بكثير من تأثيره على الشعب.
أجل، يستطيع النظام السوري أن يشحن نفطه الخام الثقيل إلى الصين والهند، اللتين لديهما مصافٍ تم إعدادها بحيث تستطيع معالجة النفط السوري الخام والحامض. لكن القيام بذلك سوف يزيد من تكلفة الشحن بشكل كبير، لا سيما أن محطات النفط السورية لا تستطيع استيعاب ناقلات النفط الضخمة التي تجعل الشحنات لمسافات طويلة أكثر ربحية بكثير.
2- الضغط على شركات النفط الأجنبية في سوريا لتصفية استثماراتها: تستطيع إدارة أوباما، جنباً إلى جنب مع الاتحاد الأوروبي، أن يضغطا على شركات الطاقة الغربية متعددة الجنسيات العاملة في مجال الطاقة في سوريا — مثل” رويال داتش شيل”، و”توتال”، وشركة “نافتا INA الكرواتية” و”بيترو كندا” — لتصفية استثماراتها في سوريا. والأهم من ذلك، يجب على الإدارة الأمريكية أن تطلب من بريطانيا إيقاف عمليات “جالف ساندز بتروليوم”، الشركة التي كان مقرها في هيوستن وانتقلت إلى بريطانيا في عام 2008 لكي تتجنب العقوبات الأمريكية المفروضة على ابن خال بشار الأسد والشريك التجاري السوري لشركة “جالف ساندز”، رامي مخلوف.
والميزة التي ينطوي عليها هذا المنهج هي خروج الشركات الغربية متعددة الجنسيات والتكنولوجيا الغربية من البلاد، تلك التكنولوجيا الأكثر فعالية في زيادة الإنتاج المميز للخام السويدي السوري والقيام بأعمال تنقيب جديدة. إلا أن الأمر سيستغرق بعض الوقت لكي تستطيع هذه الشركات تصفية استثماراتها، ويكاد يكون من المؤكد أن تقوم شركات غير غربية عاملة في سوريا بالاستيلاء على عملياتها، بما فيها “شركة النفط والغاز الطبيعي” الهندية و”شركة النفط الوطنية الصينية” وشركة “تاتنيفت” الروسية.
3- عرقلة آليات سداد رسوم ناقلات النفط: إن “المصرف التجاري السوري” المملوك للدولة هو المسؤول إلى درجة كبيرة عن معالجة مبيعات النفط السورية، وهو المصرف الأكبر في سوريا من حيث الأصول. وفي عام 2004، فرضت واشنطن عقوبات على “المصرف التجاري السوري” بسبب الإجراءات غير الكافية لمكافحة غسل الأموال، مما أرغم المصرف على إغلاق حسابات المراسلات الخاصة به في الولايات المتحدة. وقد قامت العديد من المصارف الأوروبية أيضاً بإغلاق حساباتها للمراسلات مع هذا “المصرف” لحماية أنفسها من انتهاكات العقوبات الأمريكية المحتملة، لكن هناك عدداً من المصارف الأوروبية التي لم تفعل ذلك. وإذا استطاعت إدارة أوباما الضغط على الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على “المصرف التجاري السوري” — أو مجرد إقناع مصارف أوروبية فردية بأن توقف مباشرة تعاملاتها مع هذا “المصرف” — فقد تغلق الطريق فعلياً أمام قيام النظام بتحويل النفط إلى أموال نقدية. ويمكن اتخاذ خطوات مماثلة لاستهداف تمويل شحنات ناقلات النفط وآليات التأمين.
وتتمثل ميزة هذا المنهج في إمكانية تطبيقه بسرعة نسبية. أما الجانب السلبي فهو أنه قد يضغط لمرور المدفوعات السورية عبر قنوات سرية من خلال مصارف في دبي ولبنان. ومن المرجح أن يتم توجيه مثل هذه المعاملات من خلال مصارف القطاع الخاص الجديدة في سوريا، والعديد منها أقام مشروعات مشتركة مع عمالقة المؤسسات المصرفية في لبنان.
4- فرض عقوبات على الناقلات التي تحمل النفط السوري: في الماضي، استهدفت الولايات المتحدة سفن الشحن كجزء من تشديد العقوبات على خصومها، بما في ذلك من خلال “قانون هيلمز – بيرتون” على كوبا، فضلاً عن “قانون العقوبات الشاملة على إيران”، والمحاسبة، و “قانون تصفية الاستثمار”. وتستطيع واشنطن، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، إصدار قرار يمكن بموجبه منع أي سفينة تنقل النفط السوري من أي عمل مستقبلي في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. وتتمثل ميزة هذا التحرك في أنه سيجعل هذه الشركات الملاحية تفكر في قيمة مزاولة أعمالها التجارية مع سوريا مقابل تلك التي تزاولها مع الولايات المتحدة وأوربا. كما أنه سيزيد من التكلفة التي يدفعها النظام لشحن النفط، مما يخفض من هوامش الربح. وسوف يزيد هذا التحرك من صعوبة وصول النفط الخام السوري إلى الأسواق الغربية والعالمية. وبإمكان خطوط الشحن التي لا تزاول حالياً أعمالاً مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أن تتقدم من أجل نقل النفط، لكن من المرجح أن يؤدي ضعف المنافسة إلى زيادة تكاليف الشحن التي يدفعها النظام.
5- الضغط على بلدان الشرق الأوسط من أجل حجب دعم النفط والأموال النفطية: غالباً ما تلجأ سوريا إلى حلفائها الإقليميين للحصول على النفط الخام أو المنتجات المكررة أو التبرعات عندما تكون في محنة، وأبرز هؤلاء الحلفاء هم العراق والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران. فعلى سبيل المثال، في السنوات التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق خالفت سوريا العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق في عهد صدام حسين إلى حد استيراد 200,000 برميل يومياً، حصلت عليها بسعر مخفض للغاية (وقد دُفع مقابلها في حسابات عدي وقصي حسين لدى “المصرف التجاري السوري”). وفي التسعينيات من القرن الماضي، استثمرت المملكة العربية السعودية أيضاً أموال النفط في سوريا للمساعدة على إنقاذ النظام، وهي جهود استولت عليها إيران وقطر في السنوات الأخيرة.
وفي وجه حملة القمع الوحشية المتزايدة من جانب النظام، ينبغي على الولايات المتحدة أن تقنع بغداد والرياض والدوحة بالامتناع عن دعم الأسد. كما ينبغي عليها الضغط على مصر والأردن لقطع إمدادات الغاز من خلال “خط الغاز العربي”، الذي ينتهي في سوريا. وتتمثل ميزة هذه التحركات في تضييق خيارات دعم النظام. أما جانبها السلبي فإنها بالطبع قد تدفع الأسد بشكل أكبر إلى أحضان طهران، التي تتمتع واشنطن بنفوذ ضئيل عليها، في حين توجد لسوريا بالفعل علاقات قوية معها.
6- استهداف المنتجات المستوردة من الديزل والبنزين المكرر: منذ أربع سنوات، أصبحت سوريا مستورداً خالصاً للنفط — أي قبل سنوات من تقديرات القطاع. فالمصفتان اللتان تملكهما الدولة لا تستطيعان معالجة النفط الخام المحلي الثقيل في سوريا لإنتاج ما يكفي من وقود الديزل والبنزين للوفاء بالطلب المحلي المتزايد بشكل سريع. وهكذا، فإن الديزل هو كعب أخيل [أو نقطة ضعف] في سوريا. فكل شيء بدءاً من مضخات الري وحتى الأفران المنزلية والشاحنات يستخدم الديزل المدعوم بشكل كبير من قبل الدولة. وفي غضون ذلك، تعتمد الطبقات العليا والمتوسطة في سوريا بشكل أكبر على البنزين، لتزويد الوقود لسياراتها. وإذا ما سُحبت هذه الواردات من الوقود المكرر فسيؤدي ذلك إلى غضب الشعب.
أجل، إن استهداف الوقود هو أداة ثقيلة وتعتبر بشكل عام “خياراً نووياً”. فهو أسلوب ينبغي عدم استخدامه إلا في اللحظات الحرجة، لا سيما رداً على وقوع مجزرة ما. فإذا ما استخدم بصورة أسرع من اللازم، فقد ينتهي الأمر باستهداف الشعب السوري ككل، الأمر الذي يصب في مصلحة النظام عن طريق إلقاء اللوم على “التدخل الأجنبي” الأمريكي، وهو ما فعلته سوريا قبل أسبوعين رداً على الزيارة الليلية التي قام بها لسفير الأمريكي روبرت فورد إلى حماة وكلمات وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون حول الأسد في الأسبوع الماضي.
وحتى الآن، عبّر بعض الحلفاء الأوروبيين عن “الإرهاق من العقوبات” نتيجة جهود واشنطن السابقة لفرض إجراءات على إيران من أجل تغيير سلوكها — وهي عملية حققت حتى الآن نتائج متباينة. وعلى مدى الشهور القليلة الماضية، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على عدد من مسؤولي النظام والتابعين له المسؤولين عن القمع. ورغم أن هذه التدابير مفيدة، إلا أنها لن تذهب إلى حد بعيد لمعالجة تمويل النظام بشكل إجمالي.
وللتغلب على الصمت الأوروبي، تستطيع الولايات المتحدة أن تبدأ بإجراءات محددة للحد من تأثير العقوبات على الشعب السوري، مع توسيع نطاقها بشكل مترادف حسب الاقتضاء أو وفقاً لمسار القمع من جانب النظام. وليس من الضروري أن تبقى ثابتة بدون تغيير. ينبغي على واشنطن وبروكسل إقرار إجراءات يمكن التراجع عنها بسهولة في حالة انهيار نظام الأسد، بما يسمح بمكافأة سريعة للحكومة الانتقالية في دمشق.
ورغم أن عائدات الطاقة لا تلعب دوراً كبيراً في الاقتصاد السوري كما كان عليه الحال قبل عقد من الزمن، إلا أن النفط لا يزال يشكل عاملاً حاسماً في سياسات الشرق الأوسط. وبغض النظر عن السياسة التي تختارها واشنطن وحلفاؤها، فإن استهداف قطاع الطاقة السوري سوف يقطع خط نجاة حيوي عن الأسد ويساعد على تحفيز عملية التحول إلى حكومة تكون أكثر إنسانية في تعاملها مع الشعب السوري.
أندرو جيه. تابلر هو زميل الجيل التالي في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً، “في عرين الأسد: رواية شاهد عيان على الصدام بين واشنطن وسوريا”.