تجري اليوم محاولات حثيثة من قبل أطراف دولية وإقليمية عدة لمنح الشرعية لحركة طالبان التي ظننا أنها قبرتْ إلى الأبد ولم يعد لها مكان في العالم المتحضر، بعد ما ارتكبت من المجازر أبشعها، وانتهكت حقوق الإنسان على أوسع نطاق، واحتضنت جماعات إرهابية من كل صنف ولون، وتاجرت بالسموم والمخدرات من أجل تعزيز مواردها المالية، وجندت الاطفال والأمهات لتمرير أجنداتها الدموية وأفكارها البربرية.
أما السبب في هذا التطور المخزي فيكمن في الإنهاك الذي حدث للمجتمع الدولي بمؤسساته وأعضائه لجهة إعادة الأمن والاستقرار إلى أفغانستان، وعلى رأس المنهكين، بطبيعة الحال، حكومة كابول المدعومة من واشنطون والغرب. فكابول التي كانت إلى وقت قريب ترفض الإنفتاح على الطالبانيين الأشرار دون شروط صارت تستجدي التحاور معهم، بل وتتفق مع عرابهم الأول ممثلا في السلطات الباكستانية على إقناعهم بالدخول معها في مفاوضات وعلى وضع آلية لذلك، طبقا لما تمخضت عنه زيارة رئيس الحكومة الباكستانية “شاهد خاقان عباسي الأخيرة والأولى من نوعها خلال 3 سنوات إلى افغانستان. وفي السياق نفسه، من المفيد العودة إلى تصريح أدلى به الرئيس الأفغاني الشرعي “أشرف غني” في أواخر فبراير الماضي على هامش إفتتاح المؤتمر الدولي الثاني لما يسمى بـ”عملية كابول” للسلام في أفغانستان حينما أبدى إستعداد حكومته لإعتبار طالبان قوة سياسية شرعية وفتح مكتب لها في العاصمة، بل وتغيير الدستور الحالي من أجل خاطرها.
ويمكن القول أنّ معظم الأطراف التي كانت ترى في حركة طالبان شرا مستطيرا، وجماعة مهددة للأمن والسلام، ومليشيات همجية من خارج العصر، قد بدأت مغازلتها للحركة في مسعى إرتدادي ومخالف لما تبنته من قبل حول حصر تعاملاتها مع حكومة كابول الشرعية وعدم الاعتراف بمنظمة ميليشاوية هدفها القتل والتدمير.
والدليل على صحة ما نقول أن واشنطون وهي أكبر أعداء الحركة لم تنف وجود إتصالات بينها وبين زعماء طالبان، علما بأن هذه الاتصالات بدأت في ألمانيا في عام 2012 بين رجال المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وعناصر بارزة في حركة طالبان.
وينطق الشيء نفسه على روسيا التي إعترفت مؤخرا بوجود إتصالات بينها وبين الحركة المتطرفة، وكذلك الصين التي قال أحد أبرز خبراء الشان الافغاني وهو رحيم الله يوسف انها دخلتْ بقوة على مسار الاتصالات بين كابول وطالبان مؤخرا. هذا على الرغم من أن بين روسيا والصين من جهة وطالبان من جهة أخرى ما صنعه الحداد.
أما عراب الحركة الباكستاني الذي لطالما نفى ضلوعه في الشأن الأفغاني فقد صدر عن وزير خارجته “خواجه آصف” مؤخرا ما يفيد أن بلاده تقف على مسافة واحدة من كابول وطالبان على اعتبار أن كليهما “كيانان شرعيان” هكذا نصا! ويمكن القول أن حماس الحكومة الباكستانية المتزايد اليوم لإستخدام نفوذها ودالتها على طالبان لإقناع الاخيرة بحضور محادثات سلام شاملة، تمليه رغبة إسلام أباد في تقديم خدمة لواشنطون على أمل تخفيف التوتر الحاصل بينها وبين إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبالتالي إستعادة ما كان قائما بينهما من علاقات استراتيجية ودعم إقتصادي إمريكي سخي.
وأما طهران التي تلعب دورا خبيثا مزدوجا في الشان الافغاني فلا حاجة لنا للتذكير بوجود إتصالات بينها وبين الطالبانيين على أعلى المستويات منذ هزيمة الحركة الماحقة سنة 2001 بدليل أنّ مقتل زعيم طالبان السابق “الملا أختر منصور” في مايو 2016 حدث وهو عائد من لقائه بمسؤولين إيرانيين كبار عبر ضربة نفذتها طائرة درون أمريكية عند الحدود الباكستانية الإيرانية. هذا عدا أن الايرانيين يدعمون الحكومة الشرعية في كابول علنا ويصرحون أنهم مع عودة السلام الى جارتهم الافغانية، لكنهم في السر يمدون طالبان بكل أشكال الدعم إنْ لم يكن بهدف إيجاد موطيء قدم قوي في هذه البلاد اذا ما تمكنت طالبان من العودة إلى السلطة، فعلى الأقل بهدف عدم ترك القوات الأمريكية والغربية تعيش بأمان وراحة في افغانستان.
وعلى المنوال نفسه نجد أطرافا أخرى بدأت تغيير مواقفها السلبية من حركة طالبان ولعل أبرز تجليات ذلك ما حدث مؤخرا في العاصمة الأوزبكية طشقند التي إحتضنت مؤتمرا حول افغانستان كان الغائب الأكبر فيها هو حركة طالبان، بينما سجلت الدولة المضيفة حضورا بارزا من خلال تأكيد رئيسها “شوكت ميرضيائيف” على إستعداد أوزبكستان للعمل من أجل جمع أطراف النزاع الأفغاني بما فيها طالبان على طاولة المفاوضات، علما بأن طشقند عانت كثيرا في الماضي القريب من إرهاب طالبان التي دأبت على زرع خلايا إسلاموية متطرفة في أراضيها بهدف تغيير النظام القائم والإتيان ببديل مشابه لإمارة أفغانستان الإسلامية المنقرضة.
ويقول المراقبون أن موقف طشقند الجديد مرتبط أساسا بمحاولة فك عزلتها المريرة منذ زمن رئيسها السابق “إسلام كريموف” الذي كثيرا ما وجهت إليه الدوائر الغربية انتقادات حادة بسبب حكمه الديكتاتورية وسجله لجهة انتهاكات حقوق الإنسان. وموقف طشقند هذا مرتبط من ناحية أخرى بكسب ود واشنطون الساعية هي الأخرى لتحقيق السلام في افغانستان بأي ثمن حفاظا على حياة جنودها المرابطين هناك.
وقد برز في مؤتمر طشقند أيضا موقف الاتحاد الأوروبي ممثلا في ما قالته وزيرة خارجيته “فريدريكا موغريني” التي سجلت بطريقة غير مباشرة إهتمام الأوروبيين بعملية سلام أفغانية شاملة تشارك فيها فلول الطالبانيين.
*أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين