(1)
مرت العلاقات بين الأديان بمراحل وفاقية مبنية على التسامح وبمراحل تنافسية عدائية. والتاريخ الإسلامي المسيحي، على سبيل المثال، زاخر بمثل هذه المواقف السلبية والإيجابية. يقول الكاتب الشهير محمد كرد علي (1876- 1953) في كتابه (الإسلام والحضارة) بأنه وقت ظهور الإسلام كان على أحمد عمد الكعبة تمثال للسيدة مريم وفي حجْرها ابنها مزوّقاً. وكانت صور السيد المسيح والعذراء مريم على بعض جدران الكعبة. وسورة المائدة سميت هكذا بسبب الآيات 112- 114 وهو عشاء الفصح. هذا مع العلم بأن رواية الإنجيل تختلف عن القرآن.
ويتساءل عدد من المؤرخين والمفكرين عما إذا كانت الأديان قد فاقت أي سبب آخر في شن الحروب وخلق التوتر وقتل الملايين من البشر. فالتعصب الديني وعدم التسامح يعتبران من أقوى العوامل النفسية لخلق العداوات. وأي تعصب لا يسهم في خلقه العقل لا تقضي عليه العقلانية.
إن الإشكالية التي يواجهها العالم هي أن الدين يسبب التباعد بين البشر، فكيف يمكن للفكر الإنساني أن يقلب المعادلة ليصبح الدين عامل التقاء؟
يقول أستاذ التاريخ في جامعة كيمبردج باتريك كولنسن بأن جميع الأديان أخطأت هنا أو هناك بزمن أو بآخر بحق الإنسانية. وضرب أمثالاً عن الوحشية التي ارتكبت ومن ضمنها اعتبار رجل الدين الإسباني سبلفيدا سكان أمريكا الأصليين عبيداً بالطبيعة وأنهم غير مكتملي الإنسانية.
(2)
إن جميع الأديان امتدحت أو انتقدت أو أدينت بفعل تجاوزات المنتمين إليها أو المتكلمين باسمهما وليس بسبب مبادئها. فمسألة المبادئ والعبادات أمور إيمانية لا تخضع للتقييم البشري. وأي تقييم مبني على تفسير سابق أو تفسير شخصي هو عمل بشري لا ندرك مدى تقاربه أو تباعده عن المقصد الأساسي من إنزال الوحي. ولو أخذنا ظاهر الآيات في القرآن الكريم لرأينا أن الهدف من خلق الكون هو خلق الإنسان لإعماره في سبيل الإنسان نفسه. فمهمة التكليف مهمة دينية لهدف دنيوي كما العبادات ممارسة دينية لهدف دنيوي. وشرح ذلك في غاية البساطة.
فإذا ارتفعت مقاصد النفس وسمت الأخلاق وانتشرت “المناقبية” يتحقق الهدف من خلق الإنسان. وعند تحليلنا لمقاصد الشريعة نراها هادفة بوضوح لخير الإنسان في دنياه. ومن صلح في دنياه صلحت آخرته التي لا نعرف عنها الكثير، ولعله ليس هناك الكثير لنعرفه أو لا يفترض فينا أن نعرفه. لكن المهم في الأمر هو أن الإسلام، عبر تشديده على وجوب القيام بواجب النفس من لدن الفرد المسلم يعني أن الدين في خدمة الدنيا وليس العكس حيث أن الأخلاق هي الأساس، ومن حسنت أخلاقه لا يلحق الضرر بعيال الله.
(3)
تُطرح أسئلو مهمة من ضمنها سؤال طرحه رئيس أساقفة كانتربري على المؤرخ باتريك كولنسن يسأله ماذا قدّم الدين لحقوق الإنسان؟
في الواقع إنه سؤال في غاية الدقة، خاصة عندما يطرحه رجل بمستوى رئيس الكنيسة الأنجليكانية. ولم يكتف بطرحه بل قال في الرسالة التي وجهها لكولنسن بأن هذا الأمر يقلقه. ذلك ليس من المستغرب، بل المستغرب هو أن لا يدفع الإيمان النقي بالله لمثل هذه الأسئلة. فالتقبل والتعايش والتسامح المتبادل بين أبناء الأديان السماوية يجب أن تأتي في نطاق طبيعي لأن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.
وما أسئ فهمه أيام الانعزال والانكماش لم يعد جائزاً في عصر العولمة والأفق الإعلامي المفتوح (الفضائيات) والأخطار التي تهدد البيئة والسلام.
إن القراءة الصحيحة والمجردة لأي دين سماوي تثبت أن التسامح في صلب خلقية هذا الدين وأن التعددية هي من صنع الله الذي خلق البشر شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا على الخير، وأن المحبة هي أقوى رابط إنساني كما تقول المسيحية. هذا الواقع للعصر يفرض الانفتاح والحوار لجعل كوكبنا مكاناً تتأمن فيه الحياة الكريمة لسائر شعوبه.
(4)
يمكن الاسترسال في الاستشهاد بالنصوص الدينية أو المتعلقة بها أو بتاريخها، سواء كانت نصوصاً يرضى عنها المتعصبون من اليهود والمسيحيين والمسلمين أو تلك التي تساعد على التقارب مبرزة التسامح والروح الإنسانية التي من المفترض أن تكون الأديان مرتكزة إليها لأننا كلنا من نفس واحدة.
نقول من المفترض، لأن العوامل التي تحدد التسامح وتقبل الآخرين متصلة بالدين وفي الوقت نفسه منفصلة عنه. فبين المؤمنين المتشابهين في قوة الإيمان يوجد كره وتقبل وتعصب وتسامح. هذا متسامح وذاك متعصب، مما يعني أن الإيمان ليس العامل الرئيس بل نفسية الفرد هي التي تحدد المسلكية إلى حد بعيد.
وهل معنى ذلك أن الوراثة أو التربية المكتسبة وما يؤثر على نفسية الفرد هي عوامل أقوى من الدين في صقل شخصية الفرد؟
وعند البحث في أهمية التنشئة في تحديد المواقف، يجدر أن نذكر بأن الإمام مالك خالف حديثاً يقول: ((يؤم الصلاة أقْرأ القوم للقرآن))، وقال: ((لا يؤم الأعرابي وإن كان أقرأهم)). وموقف مالك يعود لتنشئته وتشبعه بالعرف الموروث من الأسلاف ونظرتهم الدونية للأعراب.
* باحث وكاتب كويتي
ayemh@hotmail.com