ذكرنا أن منتجي ومستهلكي خطاب الإسلاموفوبيا، في الغرب، وهم اليمين الديني والقومي المتطرّف، أقرب إلى الإسلاميين، في العالمين العربي والإسلامي، منهم إلى مواطنيهم الغربيين من الليبراليين والاشتراكيين الديمقراطيين واليساريين الجدد، وأحزاب المسيحية الديمقراطية (وهي علمانية بالمناسبة).
ولعل أوجه القرب أبلغ ما تكون في النظرة المشتركة إلى مركزية الدين والعائلة في الحياة الاجتماعية. وهذا ما يُترجم في محاولة حصار وحصر الجنس في مؤسسة الزواج، ورفض الإجهاض، والجنسية المثلية، والتعددية الثقافية، وفوبيا الأجنبي والمختلف والغريب الديني والقومي.
وبهذا المعنى، فإن الفرق بين اليمين الديني والقومي المتطرّف، في الغرب، والإسلاميين في العالمين العربي والإسلامي، (والحريديم اليهود، أيضاً) في الدرجة لا في النوع، وفي اختلاف المرجعيات، والتجربة التاريخية، والإحساس الذاتي بقرب أو بعد زمن “التمكين”، والوسائل الكفيلة بتحقيقه.
فقدَ اليمين الديني والقومي المتطرّف، في الغرب، مكانته الاجتماعية، ومركزيته في الحقلين الثقافي والسياسي، بعد الحرب العالمية الثانية. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، قدّمت له الحرب الباردة، وأيديولوجيا مكافحة الشيوعية، طوق النجاة. واليوم، يقدّم له الإسلاميون طوق النجاة، بالمعنى السياسي والأيديولوجي، وإذا استمر الإرهاب على ما هو عليه، فلا ينبغي شطب وصول اليمين القومي والديني إلى سدة الحكم، في الغرب، من قائمة الاحتمالات.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالمرافعات الأيديولوجية، في ترسانة اليمين الديني والقومي الغربيين، ثمة فكرة شائعة في الثقافة الغربية، ومفادها تحلل الغرب وانهياره نتيجة فقدان البوصلة، واضمحلال القيم التقليدية، وتآكل الهويات القومية والدينية، وتحدي الفلسفة للدين بتعبير شبنغلر، وظهور المدن الكبرى المعولمة، والموات الروحي.
وإذا أضفنا إلى هذا القدر من السوداوية، التاريخية، حقائق من نوع: تزايد حجم المهاجرين من بلدان غير أوروبية، ولا مسيحية، وتدني معدلات الزيادة الطبيعية مقارنة بآسيا وأفريقيا، ونجاح الإرهاب في اختراق جاليات مسلمة في الغرب، وتكوين بيئات حاضنة، فإن مرافعة كهذه لن تشكو ندرة التداول، وتآكل الغواية والنفوذ، خاصة في وقت الأزمات.
يبدو كل ما تقدّم ضرورياً للكلام عن “خضوع” وصاحبها، فما تقدّم يصلح خلفية ثقافية وسياسية عامة للرواية، ويُسهم في تفسير حبكتها، التي تعالج أزمة وجودية لأستاذ في أواسط العمر، متوّسط القيمة بالمعنى الأكاديمي، في السوربون. ففرانسوا، وهذا اسمه، يعيش في باريس، ويحظى بكل ما في الحداثة الأوروبية من حقوق وامتيازات، ولكنه يعاني من حياة يصدق عليها كلام البريطاني كولن ويلسون: “لا شيئية، لا بطولية، ولا مجدية”.
لذا، يعاني من الملل، والوحدة، وفقدان الهدف، واضطراب النوم. يفشل في إقامة علاقات ثابتة، فيكتفي بالعابر منها مع طالبات، أو بائعات الهوى. يفرط في الشراب، أحياناً، ويعيش بلا أصدقاء، ولا معارف، خارج دائرة الزملاء في الجامعة، وبحكم تخصصه في حياة وأدب أحد الشعراء الرمزيين، في القرن التاسع عشر، يحاول تكرار تجربته في العودة إلى حضن الكنيسة، لكنه يفقد الإحساس بالجدوى، بعد المغامرة الروحية الفاشلة، بأيام قليلة.
وفي الأثناء تشهد فرنسا انتخابات رئاسية يفوز فيها اليمين، بزعامة مارين لوبين، في الجولة الأولى، وللحيلولة دون وصولها إلى سدة الحكم، يتحالف اليساريون والليبراليون والاشتراكيون، في الجولة الثانية، مع حزب الإخوان المسلمين الفرنسي، الذي تشكّل حديثاً، ويحظى بأصوات المهاجرين، وتكون النتيجة وصول أوّل فرنسي مسلم إلى رئاسة الجمهورية.
يتكلّم زعيم الإخوان الفرنسيين، ويتصرّف، على طريقة طارق رمضان صاحب فكرة الإسلام الأوروبي، ويبدو مزيجاً من الأوّل، والداعية عمرو خالد، مع فارق أنه يتكلّم فرنسية طليقة، ويتبنى فلسفة ليبرالية، ويعد بعودة فرنسا إلى سابق مجدها، ويمكّن شركائه، في التحالف، من كل الوزارات، ما عدا وزارة التربية والتعليم، التي احتفظ بها لحزبه.
للوهلة الأولى لا يتغيّر شيء في الحياة العامة، فالحريات الفردية المنصوص عليها في الدستور مكفولة، ونتيجة تخصيص الحكومة لموارد مالية للعائلات، وامتيازات خاصة للنساء، يصبح العائد المالي لبقاء المرأة في البيت، ورعاية الأسرة، أكثر فائدة من العمل في الخارج. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالسوربون تعرض الجامعة على العاملين فيها إمكانية التقاعد برواتب مغرية تفوق رواتبهم السابقة. (تلقت الجامعة هبات مالية هائلة من السعودية والخليج). وهذا ما يحاول فرانسوا الاستفادة منه. وشيئاً فشيئاً يزداد عدد المحجبات بين الطالبات.
يلاحظ فرانسوا هذا كله بنوع من عدم الاهتمام، فالسياسة لا تعنيه، بل ويبدو حكم الإخوان، في نظره، أفضل طالما أنهم نجحوا في ضبط الفوضى الأمنية، التي سادت البلاد قبل وصولهم إلى سدة الحكم (نحن، هنا، في العام 2022). ولكن التحوّل الأهم في حياته يتمثل في لقاء جمعه برئيس جامعة السوربون الجديد، وهو أكاديمي اعتنق الإسلام قبل عقود قليلة، وتخصص في الفلسفة والدراسات الإسلامية.
يعرض رئيس الجامعة على فرانسوا اعتناق الإسلام، والعودة إلى سلك التدريس، وتمثل مرافعته في هذا الشأن إعادة إنتاج لفكرة اضمحلال الغرب نتيجة الخواء الروحي، والتحلل الثقافي، وتلتقي في جانب منها مع القوميين حول إنشاء إمبراطورية تضم شاطئي المتوسط، ولكن بحيوية الإسلام طالما أن المسيحية فقدت طاقتها الروحية.
يفكر فرانسوا أنه سيتخلى عن الشراب، ويمكن تعويض الأمر بالتدخين، وإمكانية الزواج من أربع نساء، إذا شاء، وإنشاء عائلة، وقضاء ما تبقى من العمر مع أولاد، وعائلة، وحب غير مشروط، مقابل الخضوع المطلق، (في التصوّر الإسلامي)، وحكم التاريخ، (في تصوّر السوداوية الثقافية للغرب)، الذي قضى بفناء أوروبا ما لم تتمكن من تجديد روحها، حتى وإن جاء المدد من خارجها.
هذه هي حكاية “خضوع”: نقد للحاضر بمزيج من التشاؤم التاريخي، والتراجيديا الإغريقية، التي لا تخلو، كالعادة، من كوميديا سوداء.
khaderhas1@hotmail.com