كنت قد شاركت الأسبوع الماضي في نقاش مع اثنين من علماء الأزهر حول ما وصفته مقدمة برنامج الحدث على تليفزيون (LBC) فوضى الفتاوى، وعن مدى إمكانية توحيد مصادر الفتوى في الأمور الأساسية، أما أنا فقد أخفقتُ في تقديم رؤية متماسكة واضحة كانت مبيتة قبل إذاعة البرنامج، وتهتُ بإغواء من الضيوف على الضفة الأخرى في تفاصيل رأيت أنها مهمة ولكنها في الحقيقة لم تكن إلا تشتيتاً وتشويشاً للمشاهد.
كتب فريد زكريا قبل عامين عن افتقاد المسلمين إلى نظام بابوي يمكنه ضبط الفوضى التي يعيشونها، وهي فكرة تنبع من رؤية ترتكز على أن وجود مظلة توحد مرجعية مئات الملايين من المسلمين قد تساعد في قطع الطريق على تفريخ المفتين المتحدثين نيابة عن الله، وتحجم أصواتهم، وتساعد على ضبط جماعاتهم ومجتمعاتهم، وتساعد العالم الغربي على فهم الإسلام والتعامل مع جهة رسمية تمثله وتعنى بمشاكل أقليته الموزعة في أوروبا وأميركا.
الإسلام هو أصغر الديانات الكبرى عمراً، وربما يصدق في أتباعه عبارة سمعتها في نقاش على عشاء جمعني بكاتب يهودي وهو سبط أحد الحاخامات الإصلاحيين أن الإسلام يمر بفترة ‘’مراهقة’’ تجاوزها الأخوان الأكبران المسيحية واليهودية، أعتقد أن العائق الرئيس الذي يحول دون وجود فاتيكان للمسلمين هو أن الإسلام السني يتأبى في جوهره على منح أشخاص صفة التأليه: التشريع والنسخ في الأحكام وإنشاء أخرى على أنقاض ما سبقها، ومع أن الأئمة الكبار عبر تاريخ المسلمين تمتعت مذاهبهم وأشخاصهم برسوخ في وجدان الشعوب المسلمة وتعصب أعمى من قبل الأتباع، إضافة إلى إغلاق باب الاجتهاد وحصار الفقهاء المتمردين الكبار من أمثال ابن تيمية وابن حزم وغيرهم، إلا أن الباب بقي دائماً مشرعاً لكل من توفرت فيه شروط العالم ورخصة التدريس وإجازة الإفتاء، وهذه كان لها تراتبيتها المعروفة وشروطها التي أودعت في الكتب. مذهب أحمد بن حنبل حتى القرن الخامس الهجري وبعده بقليل لم يكن يصنف ضمن المذاهب الفقهية ، كان الحنابلة وإمامهم ينسبون إلى أهل الحديث والأثر، وقد أثار ابن جرير الطبري سخط الحنابلة حينما لم يدرج مذهبهم ضمن مذاهب الفقهاء، ولكن التاريخ كان في صالحهم فقد انقرضت مذاهب فقهية كانت قائمة واستطاع الحنابلة وبدعم من الخلفاء والسلاطين الحصول على الاعتراف، وهذا هو ربما السر في تعدد المذاهب والطرق والاجتهادات الفقهية مع أن شروط المجتهد وصفات المفتي بقيت خاضعة لشروط كلاسيكية توسع فيها المتأخرون بعد القرن الثاني عشر الميلادي وعَّقدوها بشكل جعل بعض الصفات المطلوب توافرها في الفقيه المجتهد أشبه بالتعجيز، حتى بلغت ذروة انحطاطها منذ القرن التاسع الهجري- الرابع عشر الميلادي حتى منتصف القرن الثالث عشر الهجري-التاسع عشر الميلادي.
حين دق الشيخ محمد بن عبدالوهاب منتصف القرن السابع عشر المسمار الأول في نعش الشروط التقليدية للمجتهد، قوبلت الوهابية بتحدٍّ كبير من قبل خصومها وتعرض محمد بن عبدالوهاب لإحراجات من معاصريه الذين طالبوه بتوفير شروط الاجتهاد لكي يكون مؤهلاً، وامتحنوه بعشرات الأسئلة المعقدة، ومع أنهم اعتبروا فكره مذهباً جديداً وهو الأمر الذي كان ينفيه الشيخ بشدة مقدماً نفسه كامتداد للسلف الصالح وفياً لإمام مذهبه الحنبلي ومعتمداً على القبول الكبير الذي كان لابن تيمية عند الحنابلة، إلا أن موجتين من التغيير أعقبتا طوفان الوهابية جاءتا كداعم لضرب الشروط الكلاسيكية للاجتهاد والافتاء، جاءت الأولى من محمد عبده ومدرسته وطلابه الذين قاموا بدورهم باستكمال ما بدأته الوهابية في تحطيم هيكل التقليد والتعصب، ومع أن الوهابية كانت تعطي إشارات خاطئة بأنها قادرة لأن تتجاوز شهرتها وانغلاقها التي صاحبت مولدها وأن تحدث تغييراً عميقاً وجذرياً في الإسلام، مشابهاً إلى حد ما الثورة اللوثرية وهو الشيء الذي منحها الإعجاب من قبل رواد النهضة، إلا أنها كانت منذ أوائل القرن الرابع عشر الهجري – نهاية القرن التاسع عشر الميلادي تتجه نحو التكلس والانغلاق بشكل لم يكن معروفاً عنها طوال القرنين الثامن عشر ومعظم عقود القرن التاسع عشر، كانت منذ البدء قد افتقدت شروط النهوض بالإسلام وكان الوسط الأمي الذي نشأت فيه وضيق عطن علمائها عن تقبل وجهات النظر الأخرى الفقهية والعقدية، وانعزالهم في قلب الجزيرة وافتقاد العالم الإسلامي لعلماء يتمتعون بأفق واسع وبعد نظر يمكنهم من خوض سجالات ومناظرات من طراز رفيع مع علماء الوهابية، بدأت الصدامات بشكل جلي وواضح مع عدد من المستشارين الذين أحاطوا بالملك عبدالعزيز ودعموه وأعجبوا به، وكان بعضهم من النهضويين الذين كان لتعاليم الشيخ محمد عبده تأثير كبير في ثقافتهم مثل حافظ وهبة، وبعضهم كانوا يتمتعون ببعد نظر سياسي وفكر إصلاحي مثل عبدالله المغيري. سأكمل الحديث في المقال القادم.
* كاتب سعودي
للحوار مع النقيدان: alngidan@yahoo.com
إسـلام بلا مفتـين
حتى أنت تتحدث عن الوهابية وتجعلها مذهبا جدبدا !!!!
الجميع يعلم أن الوهابية امتداد شرعي للحنابلة وابن تيمية
والذين يتجاهلون ذلك يتجاهلونه لأغراض سياسية أو مذهبية أو لجهلهم ( سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ) ….