“يوم استقلال إسرائيل ” صار منذ سنوات يوم حساب للنفس، جماعياً، يوم كشف الحقيقة حول زوايا مظلمة في الماضي، سياسية، وبالأساس عسكرية ومخابراتية. ولكنه، أيضاً يوم مناقشة نقدية حادة للواقع، لأزمة المجتمع وأزمة الأخلاق، وتفشي الفساد والرشوات والسرقات بين قادة الدولة، حتى أصبح من الأسهل أن نَعِّد الذين لم يتلطخوا بالفضائح، بدل أن نَعِّد الذين تلطخوا بالفضائح. فالمسؤول “النظيف” هو النشاز والمسؤول الفاسد هو القاعدة، هو “النورما”!
عشية يوم الاستقلال نشرت جريدة “يديعوت أحرونوت” (23/4/2007) مقالاً تحليلياً انتقادياً سوداوياً بالغ القوة للمؤرخ والكاتب البارز الدكتور جادي طاوب تحت عنوان “زوارق إنقاذ شخصية في اليوم العاصف”. يقول طاوب، ما قاله كثير من المؤرخين والباحثين الاجتماعيين الصهيونيين، بأن المرحلة قبل قيام إسرائيل وفي العقد الأول بعد قيامها كانت “المرحلة البطولية” حيث “كان المجتمع اليهودي في فلسطين وعالمياً مجنداً جماعياً، في سبيل هدف جماعي أكبر من أية أهداف شخصية”.
ولكن مع الوقت تطورت إسرائيل تطوراً صناعياً واقتصادياً رأسمالياً سريعاً، ونكاد نقول عاصفاً، مما جعل الشعب لا يحس أنه بعد “في سفينة واحدة، بل انتصرت الفردية الرأسمالية والأنانية، وصار كل واحد يفضل أن يفكر بزورق خاص له شخصياً، ينقذه ساعة المحنة”.
ويقول الدكتور طاوب”الناس بدأوا يفكرون تفكيراً مختلفاً حول الواجبات المدنية، حول المواطنة، حول الاحترام والإذعان للقانون، وكفوا عن التفكير بأن الدولة مُلْك لكل الجمهور. ولذلك كف الناس من التفكير بأن الدولة سفينة يقف عليها الجميع، وكل مواطن يحتاج إلى زورق خاص لإنقاذه في وقت المحنة”. ويلخص هذه الفكرة بشكل حاد ومذهل: “إن الدولة التي تدير ظهرها للضعفاء تعلِّم الجميع أن الدولة ليست شراكة ليست تعاوناً بين المواطنين، بل هي حرب الكل ضد الكل”!!
ويقول المؤرخ الاجتماعي الناقد إن “التعاونية”و”التكافل المتبادل” سنة بعد أخرى كانا يتقلصان لتتسع وتنتصر العقلية الرأسمالية الفردية الوحشية حيث الغاية تبرر الواسطة. ويقول إن المجتمع اليهودي كان “تعاونياً” “اشتراكياً جداً في البداية في الصناعة والزراعة، أما الآن فالقطاع العام في إسرائيل صار أصغر منه في أوروبا الغربية.
ويقول إنه بينما كانت الدولة تكفل الحد الأدنى للضعفاء والفقراء فقد صار “المحسنون” المليونيريون الكبار يأخذون دور الدولة، لا حباً بالفقراء بل لتجنيد الفقراء قطيعاً تابعاً لهم في المعارك الانتخابية. وآخر تقليعة في هذا المجال الملياردير (من أصل روسي) أركادي غايداماك الذي بدأ بإقامة حركة سياسية اعتماداً على توظيفاته في الفقراء. وتعطيه الاستطلاعات في الانتخابات القادمة بين 15-20 مقعداً في البرلمان!!
وهنا ينتفض المؤرخ الباحث الاجتماعي الدكتور طاوب، فيقول إن الأحزاب السياسية تتحول أكثر فأكثر إلى أطريقودها “مقاولو الأصوات” بلا شراكة حقيقية، بلا أيديولوجيا، بلا “حلم اجتماعي مشترك”. ويشير إلى أن عدداً كبيراً جداً من الساسة والوزراء إما حوكموا على “جرائم فساد” وإما “ينتظرون المحاكمة”. إن وزير المالية أبراهام هرشزون استقال مؤقتاً من منصبه لثلاثة أشهر، حتّى يتفرغ للجلوس مع الشرطة للتحقيقات في تهم فساد لا أوّل لها ولا آخر.
لم تكن الحكومة في يوم من الأيام، منذ قيام دولة إسرائيل، مشكوكاً في مصداقيتها، مشكوكاً في أكثر أعضائها، غارقة في صراعها للإنقاذ الذاتي، بعيدة كل البعد عن أن تكون حكومة تمثل الشعب وتخدم الشعب ” ربان السفينة” الذي يحظى بثقة ركاب السفينة!
وبعقلية علمية –اجتماعية حقيقية يقول هذا المؤرخ الذي هو “نبي غضب” إن الفساد تفشى واتسع إلى درجة صار معها خطر أن يصير الفساد والسرقة والكسب غير المشروع- أدوات مشروعة، الأدوات المشروعة الوحيدة للكسب وللحياة.
وهو يشير إلى أن حلم إسرائيل كان صياغة”شعب عادي” يعمل ويربح ويعيش، ولكن النظام يحوِّل نفسه إلى نظام يشجع الطفيليين ويشجِّع الأنانية مما يقود إلى تعمق مقلق للهوة الاقتصادية بين الأغنياء (الأغنياء جداً) وبين مَن يفتشون عن فضلات الخبز والطعام في أكوام القمامة!
إننا إزاء تحليل-تشريح علمي دقيق لتحول إسرائيل من “دولة نامية” في الخمسينات إلى دولة رأسمالية احتكارية يعيش فيها مليارديرون مصالحهم منتشرة في القارات الخمس، وتعيش فيها نسبة متزايدة سنة بعد أخرى ، تحت خط الفقر.
تعوّد اليهود أن يقولوا خلال مئات السنين “اليهودي أخ لكل يهودي” وربما كان تكافل كهذا في السابق، أما الآن، في إسرائيل، فإن “الإله المقدس” ليس “إله إسرائيل” بل المال، المال الملوَّث في أغلب الأحيان!
يجب القول، بكل يقين سياسي، إن النظام السياسي الحاكم في إسرائيل هو “ضعيف ومفكك وعاجز عن كسب الثقة الشعبية”. وهذا من الممكن أن يقود إلى ظهور وازدهار نظريات سياسية دكتاتورية وعرقية تحلم “بقائد قوي وحازم وعادل”. ونحن نلاحظ، بقلق ازدياد قوة اليمين حيث صار الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو الأكثر شعبية في الاستطلاعات، يليه حزب “إسرائيل بيتنا” برئاسة أفيغدور ليبرمان المهاجر من أصل روسي الذي يعتقد أن ترحيل الفلسطينيين الذين لم يرحلوا عام 1948 إلى “الدول العربية الواسعة” هو مصلحة قومية مصيرية للدولة اليهودية!
إن هزال النظام السياسي الإسرائيلي يزيد من وزن وقوة المؤسسة العسكرية-المخابراتية ومن قوة الصناعات العسكرية في دولة إسرائيل.
ورغم كل ما قلناه أعلاه، يجب القول إن الديمقراطية السياسية والحزبية وحرية الصحافة تشكِّل عاملاً هاماً في الصراع داخل إسرائيل وأيضاً في كشف الفضائح وجر المتهمين إلى المحاكم. والنظام الاقتصادي والسياسي في إسرائيل هو نظام نشيط، ديناميكي وقادر على التغيير والعمل لإصلاح الأخطاء، بعكس الأنظمة الدكتاتورية التسلطية التي تقوم على الإرهاب وخنق إرادة الشعب. إن الصراع العالمي والمنطقي لحل النزاع القومي بين الفلسطينيين (ومعهم العالم العربي) وبين اليهود الإسرائيليين هو صراع إنساني يضع الأسس لوقف الحروب في المنطقة. ولكن السلام يمكن أن يقود إلى ثورة داخلية سياسية اقتصادية اجتماعية في إسرائيل، في الدولة الفلسطينية العتيدة، وفي العالم العربي المحيط كله. وهناك قوى عقلانية متزايدة بين اليهود تفكر بهذا الاتجاه، بالبعد الإنساني والبعد الاجتماعي بعيد المدى، نتيجة، تحقيق السلام.
salim_jubran@yahoo.com