كان الملف الكوري الشمالي أحد الملفات العديدة ذات التأثير السلبي على استقرار وتعزيز العلاقات الثنائية بين واشنطون وبكين، ولاسيما في عهد الرئيس دونالد ترامب المتميز بوقوفه ضد الطموحات السياسية والاقتصادية والعسكرية للصين. إذ لطالما إتهمت واشنطون بكين بدعم نظام آل كيم الستاليني في كوريا الشمالية، وتوفير طوق النجاة له من عزلته الدولية والعقوبات الأممية المفروضة عليه.
لكن بعد الانفراجات التي حدثت مؤخرا في هذا الملف، وما قد يليها من انفراج أوسع بعد القمة المرتقبة بين الرئيس ترامب ونظيره الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” فإن الأنظار باتت مصوبة على تايوان التي قد تحل مكان كوريا الشمالية كبؤرة توتر جديدة في العلاقات الأمريكية الصينية.
يعرف الجميع أن علاقات تحالف إستراتيجية قوية كانت قائمة بين واشنطون وتايبيه قبل إعتراف واشنطون بجمهورية الصين الشعبية الشيوعية في عام 1979 كممثل للشعب الصيني، وسحب اعترافها بجمهورية الصين الوطنية وذلك على إثر اللقاء التاريخي بين الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون والزعيم الصيني ماو تسي تونغ سنة 1972.
غير أنه رغم هذا التطور ظلت تايوان هي الأقرب إلى قلوب الأمريكيين بسبب سياستها الاقتصادية الرأسمالية، ونظامها الديمقراطي اليميني، ووجود إستثمارات معتبرة لهم فيها منذ مطلع خمسينات القرن الماضي.
وربما خير دليل على صحة هذا القول هو أن العلاقات التجارية بين واشنطون وتايبيه ظلت قائمة ومتنامية، كما أن الولايات المتحدة ظلت موردا رئيسيا للسلاح والتكنولوجيا لتايوان. وإن شئت دليلا حديثا فهو أن الرئيس ترامب لم يبال بأي اعتراضات محتملة من قبل قادة بكين حينما قبل الرد على مكالمة التهنئة التي جاءته من الرئيسة التايوانية “تساي إينغ وين”، على إثر فوزه برئاسة الولايات المتحدة في نوفمبر 2016، بل وتبادل معها حديثا سياسيا أخرج قادة بكين من صوابهم.
وبينما حدث هذا في بكين كان زعماء وساسة تايبيه يرقصون فرحا مؤملين النفس بعودة صورة من صور التعاون القديم بين بلدهم الجميل الناهض (لكن المعزول دوليا) والقوة العالمية الكبرى ممثلة في الولايات المتحدة، حتى وإنْ كان الثمن إستخدام تايوان كمخلب قط في التنافس الأمريكي والصيني.
ويبدو اليوم أن بعض توقعات تايبيه في طريقها للتحقق. فالرئيس ترامب وقع مؤخرا “قانون السفر الى تايوان” الذي يشجع المسؤولين الأمريكيين من مختلف المستويات على زيارة تايوان للالتقاء بنظرائهم التايوانيين. غير أن الأهم من هذا هو موافقته على السماح لمتعاقدين أمريكيين بمساعدة تايوان على بناء غواصات قادرة على حماية هذا البلد من أي قرار لاخضاعه بالقوة وإلحاقه بالبر الصيني مثلما هددت بكين مرارا وتكرارا من منطلق أن تايوان “إقليم صيني متمرد”.
وبالنسبة للسلطات التايوانية،عــُدّ القرار الامريكي بمثابة إختراق كبير لجهة طموحاتها في إمتلاك أسطول بحري قوي تواجه به مخاوفها من التهديد الصيني المتزايد في مضيق تايوان، خصوصا وأن المضيق شهد في أواخر أبريل المنصرم مناورات عسكرية صينية ضخمة قادتها “ليواننغ” وهي حاملة الطائرات الصينية الوحيدة بمشاركة المدمرتين “جينان” و”تشانغ تشون”، إضافة إلى أكثر من 10 آلاف عنصر من البحرية الصينية.
والمعروف أن تايوان لديها عدد من الغواصات القديمة التي لا تصلح للنشر وقت الحرب. ولهذا قررت الرئيسة “تساي إينغ” منذ وصولها إلى السلطة في عام 2016 أن تبني تايوان أسلحتها بنفسها بما فيها الغواصات، خصوصا مع تذمرها من مماطلة الرئيس جورج دبليو بوش وخلفه باراك أوباما لجهة بيع تايوان عشر غواصات كانت قد طلبتها، ناهيك عن رفض ألمانيا وأسبانيا تزويد تايوان بتصاميم لبناء الغواصات خشية إثارة غضب بكين.
وعلى حين كان المسؤولون التايوانيون يشكرون واشنطون على قرارها “الشجاع” ويؤكدون أنه سوف يعزز القدرات الدفاعية لبلدهم بالشكل الذي سينعكس إيجابا على ملف الامن والإسقرار في المنطقة، كان المسؤولون في بكين يحتجون على القرار الأمريكي ويحذون من إنعكاساتها “الخطيرة” على العلاقات الأمريكية الصينية.
لقد قدر لكاتب هذه السطور زيارة تايوان أكثر من ست مرات في تواقيت مختلفة. خلال هذه الزيارات أتيحت لي فرصة التحدث إلى مختلف أطياف المجتمع التايواني باللغة الإنجليزية التي يجيدونها بطلاقة، وهذه، بطبيعة الحال، أحد المآثر التعليمية والتربوية لزعيمهم المؤسس الماريشال شيانغ كاي شيك، فاكتشفتُ مدى الإيمان العميق بهويتهم الوطنية وخصوصيتهم واستعدادهم لبذل الغالي والنفيس دفاعا عن الكيان الفريد الذي أسسه آباؤهم واجدادهم من الصفر إلى أن بزغ وسط الأمم الصناعية ضمن نمور آسيا، دعك من إجماعهم على رفض تطبيق الصيغة التي إستردت بها الصين مستعمرة هونغ كونغ البريطانية سنة 1997 على تايوان لأن تلك الصيغة أثبتت فشلها بحسب كلامهم.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
Elmadani@batelco.com.bh