متابعة الاضطرابات المسلحة ما بين الجيش الباكستاني من جهة وعناصر طالبان باكستان وحلفائها من جهة أخرى في المقاطعات القبلية الشمالية الغربية من هذه البلاد الغارقة في الفوضى والدماء والإرهاب والاقتتال الطائفي، أبعدتنا عن تحليل ومناقشة حدث لا يقل أهمية على الساحة السياسية الباكستانية. ونعني بهذا الحدث التغييرات التي حدثت مؤخرا في القيادة العليا لحزب “جماعت إسلامي” أو حزب الجماعة الإسلامية الذي يعتبر المبشر الفعلي لفكر الحركة الدينية/السياسية التي أسسها أبو الأعلى المودودي قبل تقسيم شبه القارة الهندية بستة أعوام، والتي تشربت منها حركة الأخوان المسلمين المصرية لاحقا مفاهيم الحاكمية والولاء والبراء وإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الحدود الشرعية.
منور حسن يفوز على لياقت بلوش وسراج الحق
ففي الثامن والعشرين من مارس/ آذار المنصرم، وعلى اثر إصرار أمير الجماعة رجل الدين المتشدد “قاضي أحمد حسين” على التنحي عن منصبه لكبر سنه واعتلال صحته، انتخب مجلس شورى الجماعة المكون من 30 ألف عضو من مختلف أنحاء باكستان نائبه “سيد منور حسن” كأمير جديد، فائزا بذلك على منافسيه الآخرين وهما لياقت بلوش وسراج الحق.
السلف والخلف ينتميان الى اسرتين اسلاميتين عريقتين
والأمير المنتخب لا يشبه سلفه من حيث الشكل والمظهر فحسب، وإنما يشبهه أيضا من حيث التشدد الفكري كما سنتبين لاحقا، بل أن هناك تقاطعات كثيرة في سيرتهما الذاتية. فكلا الرجلين ينتميان إلى أسرتين إسلاميتين عريقتين في إقليم الحدود الشمالية الغربية من باكستان، وان كان الأمير المنتخب حديثا ينحدر من أسرة من نيودلهي اختارت العيش في باكستان بعد تقسيم شبه القارة الهندية. وكلا الرجلين يحملان شهادات عليا في الآداب، مع فارق أن الأمير السابق أكمل تعليمه العالي في جامعة بيشاور التي نال منها ماجستير الجغرافيا، فيما أكمل الأمير الجديد تحصيله الجامعي في جامعة كراتشي في حقل علم الاجتماع. وكلا الرجلين عرف عنهما نشاطهما منذ سنوات شبابهما في صفوف الطلبة المناهضين، أولا لحكم الماريشال محمد أيوب خان العسكري، وثانيا لحكم ذوالفقار علي بوتو الديمقراطي العلماني، بل دخلا من خلال تنظيمات الجماعة الإسلامية الطلابية في صراع مع نظام الديكتاتور الأسبق الجنرال محمد ضياء الحق بسبب حظره وتقييده للأنشطة السياسية الطلابية، رغم ما أضفاه ضياء الحق من صورة إيمانية على المجتمع، وما طبقه من تشريعات إسلامية.
التدرج في مناصب الاخوان القيادية
الأمر المشترك الأخر في سيرتهما الذاتية هو تدرجهما في المناصب القيادية للجماعة الإسلامية ابتداء من مجرد عضو عادي فمدير لمكتب الجماعة في إحدى المدن فأمين عام وأخيرا كأمير. ومما يجدر ذكره هنا أن “قاضي احمد حسين” انتخب أول مرة كأمير للجماعة الإسلامية في عام 1987 ، من بعد أن كان قد انتخب كأمين عام لها في عام 1978 . ثم أعيد انتخابه كأمير في الأعوام 1992 و 1994 و 1999 ، لست سنوات في كل مرة الأمر الذي يعني أنه قضى في منصبه نحو ثلاث عقود، جرت خلالها مياه كثيرة، لكن دون أن يستطيع منح أي شي لباكستان أو شعبها سوى بيعهما الأوهام.
ترك الامور للتمنيات ولمشيئة الخالق
فهذه الجماعة، شأنها في ذلك شأن كل الحركات الاسلاموية، ليست لها برامج سياسية أو اقتصادية مفصلة وواضحة تلامس كل القضايا والمعضلات بطريقة علمية، وإنما تترك الأمور للتمنيات و لمشيئة وبركة الخالق عز وجل، على نحو ما فعله قاضي احمد حسين في العام الماضي، حينما قال: “أنه بعون الله تعالى سوف تنتهي كافة مشاكل باكستان في عام 2009”.
ممنوع من دخول اكثر من 25 بلدا
في الأمور غير المشتركة بين الرجلين تبرز أولا انتماء الأمير الجديد في وقت من الأوقات إلى الحركة اليسارية، فيما مقابل مقت سلفه لليسار واليساريين منذ نعومة أظفاره. وتبرز ثانيا سعة إطلاع الأمير السابق على الشئون الخارجية بسبب رحلاته وجولاته في أرجاء المعمورة وتأسيسه لشبكة من العلاقات مع رموز الدول الاجنبية قبل أن تتوقف هذه الجولات جزئيا في عام 2004 كنتيجة لوضع اسمه على قائمة الممنوعين من الدخول إلى أكثر من 25 بلدا أوروبيا السوداء بسبب دفاعه عن تنظيم القاعدة وارتباطاته المشبوهة بحركة طالبان الأفغانية ومناصريها.
فشل داخلي وشهرة اعلامية خارجية
ولعله من المهم في سياق الحديث عن الجماعة الإسلامية في باكستان الاعتراف بأنها نالت مقابل فشلها الداخلي في وضع تصورات ومعالجات حاسمة لأزمات باكستان المتفاقمة، تأييدا خارجيا إسلاميا ميليشاويا واسعا من الجماعات الجهادية العاملة في كشمير و وأفغانستان وآسيا الوسطى والشيشان، بل أن بعض التقارير المخابراتية الاجنبية تطرقت ذات مرة إلى وجود علاقات سرية بينها وبين جهاز المخابرات الباكستاني، وان الأخير استفاد كثيرا من امتداداتها في بلدان أخرى ولا سيما بنغلاديش التي انفصلت عن باكستان في عام 1971 وبالتالي انشق حزب الجماعة الإسلامية فيهما إلى قسمين – وان ظلت اتصالاتهما وتعاونهما قائما مثلما فصلنا في مقال سابق عن القوى الإسلامية في هذا البلد الفقير الذي لم يسلم هو الآخر من ظاهرة التطرف والإرهاب .
تحقيق نتائج انتخابية ملفتة للنظر في عام 2002
والأمر الآخر المهم هو الاعتراف بأن الجماعة أثناء قيادة ” قاضي احمد حسين” الطويلة لها استطاعت أن تتحرك بقوة على ثلاثة أصعدة هي الدعوة والتربية الإسلامية والتنظيم، فحققت لنفسها حضورا قويا غير مسبوق في كل ولاية ومدينة وبلدة وقرية، بل أوجدت لنفسها قواعد صلبة داخل التجمعات النقابية مثل نقابة الأطباء والمحامين و الاتحادات النسائية التي تطلق الجماعة عليها اسم ” حلقات الخواتين”. وقد ثبت ذلك بالدليل القاطع، حينما ارتفع رصيد الجماعة في البرلمان المركزي من 3 مقاعد في انتخابات عام 1993 إلى 53 مقعدا في انتخابات عام 2002 .
الاجابة على الاسئلة الصعبة والحرجة
ولا يتوقع المراقبون أي تغيير في سياسات الجماعة باختيار الأمير الجديد، كيلا نقول جنوحها إلى المزيد من التشدد سواء تجاه الحكومة المركزية في إسلام آباد أو تجاه حلفاء باكستان الغربيين. وقد أفصح الرجل عن شيء من ذلك في تصريحات صحفية أدلى بها مؤخرا وجاء فيها الكثير مما يردده رموز حركة الأخوان المسلمين حينما يواجهون بالأسئلة الصعبة و الحرجة. فعلى سبيل المثال ذكر الأمير ” سيد منور حسن”:
– إن الجماعة لئن كانت حزبا سياسيا، فإنها قبل كل شيء حركة فكرية دعوية تتخذ من الإسلام دينا وعقيدة ونظام حياة وتحارب البدع والربا و العلمانية والليبرالية وحقوق المرأة دون ضوابط، وبالتالي فهي ليست في وارد تغيير نفسها أو نهجها، وان كانت تقبل تغيير تكتيكاتها للوصول إلى أهدافها وعلى رأسها إقامة دولة الأمة الإسلامية.
– إننا نعتبر أنفسنا جزءا من الحركات الإسلامية العالمية الهادفة إلى إعلاء كلمة الله – وليس فقط امتدادا لحركة الإخوان المسلمين في مصر.
– إن وسائلنا لتحقيق أهدافنا سلمية، لكننا لا نستطيع إسقاط الجهاد ضد الغزاة والكفار من قاموسنا حينما نرى إخوتنا المسلمين في الهند و كشمير وفلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان و ناغورني كاراباخ يذبحون.
– إن الجماعة لا تؤمن بالانقسامات المذهبية والطائفية والعرقية وتحاربها أينما وجدت، وتدعو إلى الابتعاد عنها، وقد قمنا بجهود ناجحة لتوحيد الجماعات والأحزاب الدينية المختلفة، وذلك في إشارة إلى “مجلس العمل الموحد” الذي قادته الجماعة الإسلامية لإسقاط نظام الرئيس السابق برويز مشرف، وتمثلت فيه بعض الجماعات الإسلامية الشيعية الصغيرة.
– إن الانقسام والاحتراب المذهبي في باكستان دخيل على بلادنا، ولم نعرفه إلا مع قيام الثورة الإيرانية واندلاع الحرب العراقية – الإيرانية. أما ما يجري اليوم من تصاعد لهذه الظاهرة فسببه حملات التغريب والعلمنة التي تشنها الحكومة والمنظمات غير الحكومية بدعم من الدول الغربية وبعض القوى المحلية ذات المصلحة في تفتيت وحدة الشعب، ناهيك عن وجود معظم مفاصل الأجهزة التنفيذية والبروقراطية في أيدي ساسة إقطاعيين وفاسدين.
– إننا لسنا مسئولين عن تراجع أوضاع باكستان على مختلف الأصعدة، لأنه لم تتح لنا منذ الاستقلال أية فرصة لحكمها وتطبيق برامجنا عليها، وبالتالي فان المسئولية تقع على الإقطاعيين والفاسدين من العلمانيين والليبراليين، أذناب الغرب والاستعمار والصهيونية الذين تناوبوا على إدارتها.
– إننا لا نزال ضد قانون حماية المرأة الذي أقرته حكومة مشرف، فسمح لأول مرة في تاريخ باكستان بوقف تطبيق الحدود الشرعية، ونتمسك بقوة بالمواد رقم 2 و227 من الدستور التي تقول بأن الإسلام هو دين الدولة وأن لا قانون يمكن تمريره إن كان مخالفا للقرآن والسنة النبوية المطهرة. والجدير بالذكر أن قانون حماية المرأة المذكور قد مرر في البرلمان رغم المعارضة الشديدة من الجماعة الإسلامية وحلفائها من القوى الدينية المتشددة وتصريحات النائبة “سامية راحيل قاضي” ابنة قاضي حسين بأن الخلل لا يكمن في الحدود الشرعية فهي فوق أي انتقاد، وإنما يكمن في القضاة والعلماء الذين يجب أن يكونوا على درجة عالية من التأهيل والإطلاع والخبرة. ومما يجدر ذكره أيضا أن هذه الخطوة الحاسمة من قبل الجنرال مشرف بالوقوف خلف نساء بلاده جاءت بعدما زادت انتهاكات حقوق المرأة وحوادث الاغتصاب والتعذيب على أيدي الذكور، ولا سيما في المناطق القبلية المعزولة، وبعدما تعرضت باكستان للوم دولي جراء تهاونها مع تلك الجرائم.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh