أحد شروط نجاح أي نشاط سياسي هو قدرة النخب الثقافية على التأثير في الواقع بغية توجيهه صوب أهداف ومبادئ هذا النشاط وصولا إلى تحقيق نجاحات سياسية واجتماعية.
وفي الكويت، لعبت النخب الثقافية الدينية والمحافظة، وخاصة المرتبطة بمشروع الاسلام السياسي المسمى بالمعتدل، دورا أساسيا في جعل النشاط السياسي الذي تشهده البلاد يتجه صوب أطروحاتهم ومفاهيمهم. بل العديد من هذه النخب تبنّت الدفاع عن القضايا التي من المفترض ان يتبناها الليبراليون بصورة لا لبس فيها، كقضايا حقوق الإنسان والحريات. في حين جاءت مواقف العديد من الليبراليين في ظروف عديدة مناقضة للحريات وغير مبالية بانتهاكات حقوق الإنسان، وهو ما ساهم في تعزيز هيمنة النخب الدينية والمحافظة على الساحة السياسية والاجتماعية، باعتبار أنها نجحت أولا في جعل الساحة تتجه صوب أطروحاتها ومفاهيمها، واستطاعت ثانيا أن تكذّب المزاعم بأن النخب الليبرالية تتزعّم الدفاع عن قضايا الحقوق والحريات.
فالنخب الثقافية الليبرالية لم تتبن الدور الفعّال المتأمّل منها تجاه المسائل الحقوقية وتجاه حرية الرأي والتعبير، وبدلا من ذلك ركّزت وبتطرّف على نقد الفهم الديني، وهاجمت سياسات التيار الديني للهيمنة على المجتمع، لكنها كانت ناعمة جدا أو لا مبالية تجاه التطرفات والهيمنات والانتهاكات الأخرى، كالهيمنة الحكومية وانتهاكاتها ضد الحريات وتعديها على حقوق الانسان.
وإلى جانب أن هذه النخب لم تنجح في إحداث تغييرات ثقافية واجتماعية ليبرالية في الواقع، فإنها تتحمل جزءا غير يسير من مسؤولية ابتعاد النشاط السياسي عن الأطروحات الليبرالية، ما جعل الحراك الذي تشهده البلاد يسبح في بحر التوجهات الدينية والمحافظة أكثر من سباحته في بحر التوجهات الليبرالية.
فتراجُع الدور الليبرالي في التأثير على الواقع الاجتماعي/ السياسي لجعله ينفتح على مفاهيم متعلقة بقضايا حقوق الإنسان والحريات، يعود إلى أن الثقافة التي يحملها العديد من الليبراليين هي سبب المشكلة، بمعنى أن تلك المفاهيم لم تنضج في إذهانهم إلى الحد الذي يستطيعون من خلالها أن يتبنوها بصورة مجردة، وأن يوازنوا العلاقة بينها وبين الصراع السياسي المصلحي من دون الإخلال بالمبادئ. وبدلا من أن يركّزوا على الدفاع عن قضايا تلك المفاهيم اتجهوا صوب قضايا باتت لا تشكّل همّا في الواقع الاجتماعي، وأصبحوا وكأنهم منفصلون عن واقعهم المعاش.
لم يكن المشروع السياسي للتيار الديني/ المحافظ السبب الرئيسي في تفوقه على الليبراليين في جميع الانتخابات النيابية التي جرت في الكويت منذ تحرير البلاد من الغزو العراقي عام 1991 وحتى الآن، بل هيمنة المفاهيم الدينية والمحافظة على الواقع الاجتماعي كانت الدافع الأبرز لهذا النجاح. فالمشروع السياسي لهذا التيار غير واضح المعالم، ومتباين في رؤاه وتفاصيله من جماعة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر، ويحظى بعضه بدرجة كبيرة من التشدد، ومن ثم لا يعوّل عليه بصورة رئيسية في النجاح أو الفشل الانتخابي في وسط واقع اجتماعي غير متصف بالتشدد. في المقابل، انشغل الليبراليون، ولا يزالون، في المصالح السياسية/ الاقتصادية أكثر من انشغالهم بتغيير الواقع اجتماعيا، وهذا الإنشغال أتى بمعزل عن تهيئة الأرضية الاجتماعية لقبول الأفكار والسياسات. فكانت النتيجة هي الخسارة سياسيا واجتماعيا.
وعدم “لبرلة” المجتمع الكويتي لا يعني تجاهل عوامل أخرى مؤثرة في هذا الشأن، خاصة الدور الحكومي الذي مال خلال عقود للتحالف مع التيار الديني والمحافظ ضد التوجهات العلمانية والليبرالية، السياسية والاجتماعية. لكن، يجب ألاّ يقلّل ذلك من مسؤولية النخب الليبرالية في إخفاقها باستيعاب الواقع الاجتماعي/ السياسي، ما أخّر عملية التغيّر الاجتماعي وعرقل تهيئة الأرضية الاجتماعية لقبول مختلف صور الأفكار الليبرالية، وساهم في استمرار هيمنة الافكار المحافظة.
ومن الأمثلة التي تبرهن على تجاهل الليبراليين للقضايا الاجتماعية، أن قضايا حقوق المرأة الاجتماعية أو حرية التعبير أو مسائل حقوق الإنسان لا تبدو همّاً رئيسيا لهم بل همٌّ ثانوي يأخذ حيزه من الأهمية بمقدار تحقيقه لمكاسب سياسية. وهذا الشيء عَكَس انتهازية الخطاب الليبرالي. فهم سعوا لتلك المكاسب على حساب الواقع الاجتماعي غير المتماشي مع طبيعة العديد من الأهداف، ما أدى ذلك إلى خلق فجوة كبيرة بين الهدف وبين الواقع، وصعّب عملية قبول المجتمع لذلك الهدف. وقضية غير محددي الجنسية (البدون)، على سبيل المثال، لا تُعتبر شأنا ذا أهمية لدى سياسيي التيار إذا استثنينا من ذلك الجهد الكبير الذي تقوم به مجموعة الـ29 النسائية الحقوقية. لذا لا يطرح سياسيو التيار هذه القضية بصورة تعبّر عن الجديّة في الدفاع عنها، إنما يطرحونها من باب ذر الرماد في العيون في مقابل ما يطرحه التيار الديني/ المحافظ.
فحينما يسعى التيار للدفع بمشروع سياسي/ اقتصادي ما، كمشروع الضرائب، على سبيل المثال، عليه أن يدفع به في النسيج الاجتماعي الكويتي قبل تهيئته للتداول السياسي، أي عليه أن يُثبت بأنّ المجتمع لا يمكن أن يصبح مسؤولا عن ثروته إلا إذا ساهم في المحافظة عليه، وأنّ المحافظة على الثروة هي مسؤولية فردية واجتماعية وتتحقق من خلال تبني نظام صارم ومسؤول. فحصول المشروع على قبول اجتماعي، مقدمة رئيسية ولازمة من لوازم حصوله على القبول السياسي. فالمثالية مطلوبة في الخطاب السياسي، بل قد تعكس الصورة الأخلاقية للخطاب، لكن حينما تقوم أدوات تفعيل تلك المثالية بتجاهل الواقع الاجتماعي وتسعى للقفز عليه، فإن ذلك سيعرقل استيعاب المجتمع للعديد من المشاريع.
إن مفهوم حقوق الإنسان عنصر رئيسي في الفكر الليبرالي، وإذا ما تجاهله الخطاب السياسي الليبرالي، فسيدلّل ذلك على عدم جدية التيار في تبني الفكر الحقوقي والدفاع عن القضايا الحقوقية. فهناك من الليبراليين من يزعم بأن حقوق المرأة الاجتماعية تخص المرأة قبل الرجل، وأنه بتباطؤ المرأة في الدفاع عن حقوقها، فإنها تتحمّل مسؤولية أي إخفاق في هذا الشأن. إنّ هذا التبرير هو هروب من مسؤولية نشر الفكر الحقوقي، وتقاعس في الدفاع عن القضايا الحقوقية. فاعتبار حقوق المرأة مسؤولية المرأة فقط، أو أن حل قضية البدون من مسؤولية البدون، هو محاولة لتفكيك حقوق الإنسان إلى حقوق تخص المرأة ولا تخص الرجل، أو تخص طبقة اجتماعية معينة ولا تخص المجتمع برمّته.
إن كثيرين وصفوا المجتمع الكويتي بأنه مجتمع محافظ، متعلق بمفاهيم دينية أصولية ومحافظة. وهذا الوصف يثير حفيظة الخطاب الليبرالي. فتغيير الفهم الديني الأصولي، أو السعي لتجديد الخطاب الديني، مهمة تقع على عاتق التيار الليبرالي. فالفهم الديني غير المناهض للحداثة، لابد من استثماره في سبيل تغيير الواقع وجعله قابلا للتنوع الثقافي ومستوعبا احترام حقوق الإنسان. فإنتاج ما يسمى بـ”الإسلام المستنير”، المستند إلى رؤى لا تعادي الديموقراطية والحداثة وتحترم حقوق الإنسان ويمكن من خلاله صون فكرة المواطنة الحرة دون أن تحاصرها الهوية الدينية التاريخية أو تسيطر عليها الأدلجة، هو مسؤولية الليبراليين قبل غيرهم. لأن هذا الإسلام، وبكلمات أخرى، يستطيع أن يضفي على العمل السياسي والاجتماعي استقامة أخلاقية يتبناها الفكر الليبرالي، ويتمثّل ذلك بمشروعية الاختلاف والتنوع، كما يستطيع هذا الإسلام أن يكون بديلا عن الإسلام الذي يحاكي الواقع بصورة تاريخية، أي الإسلام المصدّر للدوغما والواحدية واللاتنوّع، وتلك صور للسلوك غير الأخلاقي. فلو ساهم الخطاب الليبرالي في ذلك، يكون خطا خطوة مميزة باتجاه “لبرلة” أخلاقية مجتمعية واقعية. لكن للأسف لا يزال الخطاب بعيدا عن ذلك.
فاهتمام النخب الليبرالية لا يزال منصبّا على ممارسة النقد اللاذع والمتطرف للأصولية الدينية باعتبارها وحدة واحدة معجون فيها المتطرف والمعتدل من دون تقديم البديل المستنير. فيما التيار الديني، نخبا وسياسيين ومعتدلين ومتطرفين، يستغلون نقد الليبراليين للأصولية لتأليب الرأي العام الكويتي ضد الفكر الليبرالي بوصفه معاديا لكل الدين الإسلامي لا فحسب معاديا لفهمهم الديني، ما يساهم في صدّ الكثير من الكويتيين عن تبني الفكر الليبرالي اجتماعيا وسياسيا. فتبنّي “التجديد” في الدين، الذي يستدعي في بعض مجالاته التجديد في الفقه وفي علم أصول الفقه وفي علم الكلام، يهدف إلى طرح فكر ديني يجاري الواقع إلى أبعد الحدود. وطرح مفهوم “الإسلام صالح لكل زمان ومكان” يعني أن الدين يستجيب للتاريخ ويتطور معه، وأن الخطاب الديني إنما هو خطاب بشري لا خطابا مقدسا، وكما يقول الجزائري الراحل محمد أركون “إخضاع النص القرآني لمحك النقد التاريخي المقارن وللتحليل الألسني الحديث وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وزواله، وذلك من أجل تجاوز المرتكزات المعرفية للعصور الوسطى التي ما زالت تؤثر في تفكير البعض منا حتى اليوم”. فلا يمكن زعزعة مكانة الفكر الديني التاريخي في المجتمع إلا بمواجهته بفكر ديني آخر، يتفاعل مع الحداثة من منطلق قضاياه المعاصرة، ويهز الأركان الفقهية التاريخية المؤدلجة، ويكشف نواياها الوصائية الإلغائية التكفيرية وحلولها الماضوية التعجيزية لمشاكل الواقع.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com