لقد شهد افتتاح حصون خيبر
قتالاً شديدًا بين محمّد وأتباعه وبين اليهود الذين تصفهم الرّواية الإسلاميّة بالمشركين: “فقاتل رسول الله صلعم المشركين، قاتلوه أشدّ القتال وقتلوا من أصحابه عدة، وقُتل منهم جماعة كثيرة، وفتحها حصنًا حصنًا.” (طبقات ابن سعد: ج 2، 106). وكان ابتداء افتتاح حصون خيبر بفتح حصن ناعم من حصون النّطاة: “وبدأ رسول الله صلعم بالأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتتحها حصنًا حصنًا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم.” (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 300؛ سيرة ابن حبان: ج 1، 293؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 278؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 179؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10). وبعد أن أفتتح محمّد حصن ناعم وقسم الغنائم على أصحابه، جاءه بنو سهم من بني أسلم وطلبوا منه أن يعطيهم شيئًا من تلك الغنائم، فلم يجدوا عنده شيئًا، إذ كان قد وزّعها على أصحابه. فوعدهم بأن تكون غنائم حصن الصعب بن معاذ لهم عند افتتاحه، كما يروي عبد الله بن أبي بكر: “أنّه حدّثَه بعضُ أسلم أنّ بني سهم مِنْ أسلمَ أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا رسول الله، والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله شيئًا يعطيهم إياه فقال النبي: اللهمّ إنّك قد عرفتَ حالَهم وأنْ ليست بهم قوة، وأنْ ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتحْ عليهم أعظمَ حصونها أكثرَها طعامًا وودكًا.” (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277). وكان اليهود الذين سلموا من فتح حصن ناعم قد انتقلوا إلى حصن الصّعب بن معاذ، فلاحقهم المسلمون وفتحوا حصن الصّعب قبل مغيب الشمس: “وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتح الله حصن الصعب قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم.” (عون المعبود: ج 6، 492)، ويُعدّ حصن الصعب هذا من أغنى حصون خيبر، حيث تذكر الرّوايات: “وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع.” (مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 319؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366)، وذكرت أنّه: “لم يكن بخيبر حصن أكثر طعامًا وودكًا وماشية ومتاعًا منه.” (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 121؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 306؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 425؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 137).
ثمّ تحوّل من نجا من اليهود إلى حصن قلّة المنيع، وهو: “حصن بقلة جبل… وهو آخر حصون النطاة.” (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). فحاصرهم الرسول ثلاثة أيّام حتّى جاء إليه أحد اليهود ووشى له بمكان مصدر مياههم لكي يقطع الماء عنهم بشرط أن يؤمنّه على حياته وأهله وماله: “فجاء رجل من اليهود يقال له غزال، فقال: يا أبا القاسم، تؤمنني على أن أدلّك على ما تستريح من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشقّ… قال: فأمّنه رسول الله صلعم على أهله وماله، فقال اليهودي: إنّك لو أقمت شهرًا ما بالوا، لهم دبول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك. فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فسار رسول الله صلعم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا فقاتلوا أشدّ القتال وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من يهود ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله صلعم.” (دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 307؛ أنظر أيضًا: زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 376؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 122-123). وبعد أن افتتحت حصون النّطاة انتقل المسلمون إلى حصار منطقة الشقّ وحصونها: “ثم صار المسلمون إلى حصار حصون الشقّ فكان أول حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي، فقاتل أهله قتالاً شديدًا، وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال له حصن البريء وهو الحصن الثاني من حصني الشقّ. فحصون الشق اثنان حصن أبي وحصن البريء.” (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 308).
صلح خيبر:
بعد افتتاح حصون النطاة والشق التجأ من سلم من اليهود من هذه الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي القموص والوطيح والسلالم. فانتقل المسلمون إلى حصارها فافتتحوا القموص وهناك وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب في السبي، كما أسلفنا من قبل. فانتقل من نجا من اليهود إلى الوطيح والسلالم وتحصّنوا هناك أشدّ التحصّن، فأطبق المسلمون الحصار على الوطيح والسّلالم أيّامًا وليالي: “ولمّا افتتح رسول الله صلعم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم.” (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 333؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 211؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492).
وبعد أن أُطبق الحصار على الوطيح والسلالم وأيقن اليهود، بعد أن استمرّ الحصار بضعة عشر يومًا، أنّهم لن يصمدوا أمام حصار المسلمين لهم، أرسل ابن أبي الحُقيق إلى الرسول طالبًا الصّلح: “وحاصر رسول الله صلعم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيّرهم ويحقن لهم دماءهم، ففعل.” (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 337؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 139؛ الروض المعطار للحميري: ج 1، 490؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283). لقد تمّ ذلك بعد أن أرسل زعيمهم ابن أبي الحقيق إلى محمّد طالبًا أن يكلّمه: “وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلعم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلعم: نعم. فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلعم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم.” (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 342).
وبالإضافة إلى الجلاء
عن أرضهم ومنازلهم فقد أضاف محمّد شرطًا آخر، وهو أن لا يُخفوا شيئًا من أموالهم عنه. إذ أنّه، على ما يبدو، كان يبحث عن شيء ما: “فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم… فاشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عصمة.” (صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 110؛ صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 12، 29؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). لقد كان يبحث، كما يُستشفّ من الرّوايات، عن كنز حيي بن أخطب. وهو كنز يحتوي على الأموال والحلي التي كان حيي حملها معه عندما تمّ إجلاء بني النّضير إلى خيبر: “فغيّبوا مسكًا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه الى خيبر حين أُجليت النضير.”(صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 377؛ فتح الباري لابن حجر: ج 12، 31؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). لقد حاول محمّد الاستفسار عن كنز حيي: “فقال رسول الله صلعم لعمّ حيي: ما فعل مسْكُ حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهَبَتْه النفقات والحروب، فقال صلعم: العهدُ قريبٌ والمالُ أكثر من ذلك.” (صحيح ابن حبان: ج 11، 562-563؛ أنظر أيضًا: جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). أي أنّه يعني أنّ الكنز يحتوي على الكثير من الأموال ولم يمض وقت طويل منذ الجلاء فمن غير المعقول أن يكون المال قد نفد.
تعذيب زوج صفيّة:
كما تذكر الرّوايات كيف تمّ اقتياد كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، زوج صفيّة، إلى محمّد للتّحقيق معه حول الكنز: “قال ابن إسحاق: وأُتي رسول الله صلعم بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وكان عنده كنز بني النّضير، فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه. فأُتي رسول الله صلعم برجل من يهود فقال لرسول الله صلعم: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة: أرأيتَ إنْ وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر رسول الله صلعم بالخربة فحُفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي، فأبَى أن يؤدّيه.” (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبعد أن رفض كنانة الإفصاح عن مخبأ سائر الكنز فقد دفع به محمّد إلى الزّبير بن العوام قائلاً له: “عَذّبْهُ حتّى تستأصلَ ما عنده! فكان الزبير يقدحُ بزنده في صدره حتى أشرفَ على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضربَ عنقَه بأخيه محمود بن مسلمة. (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبرواية أخرى ذُكر أنّ ابن عمّ كنانة كشف عن مكان الكنز: “فاعترف ابن عمّ كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلعم إلى الزبير يُعذّبه. فدفع رسول الله صلعم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله.” (زاد المعاد لابن قيم الجوزية:ج 3، 283).
بعد ذلك أراد أن يجلي اليهود عن ديارهم فطلبوا منه أن يبقيهم في أرضهم قائلين له إنّهم أعلمُ وأكثر دربة من أصحابه برعاية الأرض والنّخل: “وقالوا: نحن أعْلَمُ بها منكم، وأعْمَرُ لها.” (معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البلدان لياقوت: ج 2، 195؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283)، فأقرّهم على أن أن يدفعوا له النّصف من ثمر الأرض، كما ورد في الرّوايات: “وأراد ان يجليهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلعم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها فكانوا لا يتفرغون أن يقوموا. فأعطاهم خيبر على أنّ لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلعم.” (صحيح ابن حبان: ج 11، 563؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 6، 114؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 124؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 8، 132؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10)، فوافق محمّد على الاقتراح وأقرّهم على ذلك.
***
يهود فدك
في ذات الوقت الذي خرج فيه محمّد وأتباعه إلى غزو خيبر، قام أيضًا بإرسال محيصة بن مسعود إلى أهل فدك لدعوتهم إلى الإسلام، مهدّدًا إيّاهم، أنّهم سيكونون هم أيضًا عرضة للغزو مثل أهل خيبر إذا لم يستجيبوا لدعوته: “لما أقبل رسول الله صلعم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحلّ بساحتهم.” (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). لقد حاولوا في البداية رفض ما يُعرض عليهم ظنًّا منهم أنّهم يستطيعون الصمود أمام هذا الغزو: “قال محيصة جئتهم فأقمتُ عندهم يومين وجعلوا يتربّصون ويقولون: بالنّطاة عامر وياسر وأسير والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمّدًا يقرب حرّاهم، إنّ بها عشرة آلاف مقاتل.” (مغازي الواقدي: ج 1، 706).
غير أنّ الأخبار التي وصلت بشأن القتل والسبي وما جرى في حصون خيبر، كما تذكر الروايات، قد فتّت من عزائمهم: “حتى جاءهم قتلُ أهل حصن ناعم وأهل النّجدة منهم، ففَتّ ذلك أعضادهم.” (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). وعلى أثر أخبار الغزو والقتل هذه قرّروا أن يرسلوا مع محيصة رجالاً منهم يطلبون الصّلح: ” قال محيصة: وقدم معي رجل من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع، في نفر من اليهود… ويقال عرضوا على النبي صلعم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلعم عليهم من الأموال شيء، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذّوها. فأبى النبي صلعم أن يقبل ذلك.” (مغازي الواقدي: ج 1، 706). وقد استقرّ الصلح في نهاية المطاف على مثل صلح خيبر: “وقع الصلح بينهم أنّ لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلعم نصفها. فقبل رسول الله صلعم ذلك… فأقرّهم رسولُ الله صلعم على ذلك ولم يبلّغهم.” (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 140؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149).
***
يهود وادي القرى
بعد الانتهاء من خيبر تحوّل محمّد وأتباعه إلى وادي القرى، حيث حلّوا على مقربة من منازل لليهود فاستقبلهم اليهود برمي السّهام من حصونهم، حسبما روى أبو هريرة، قال: “خرجنا مع رسول الله صلعم من خيبر إلى وادي القرى…. فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضَوَى إليها أناسٌ من العرب… وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم.” (مغازي الواقدي: ج 1، 289؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 254). فأسرع محمّد إلى إجراء الاستعدادات لقتال اليهود ودعوتهم إلى الإسلام لأجل حقن دمائهم: “فعبّى رسول الله أصحابه للقتال وصفّهم،… ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم إنْ أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلّما قتل منهم رجلاً دُعي من بقي منهم إلى الإسلام… وقاتلهم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتّى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً وغنّمهم الله أموالَهم وأصابوا أثاثًا ومتاعًا كثيرًا. وأقام رسول الله صلعم بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الأرض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها.” (سيرة ابن كثير: ج 3، 412-413؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 710-711؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ سبل الهدى وارشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).
وعندما علم يهود تيماء بما جرى مع سائر اليهود فقد أيقنوا أن لا سبيل أمامهم وقرّروا طلب الصّلح من الرّسول على الجزية: “فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلعم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلعم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم.” (مغازي الواقدي: ج 1، 711؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3 313)، وقد ذكرت الرّواية أنّ محمّدًا كتب لهم كتابًا بذلك: “هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أنّ لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء.” (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 351؛ طبقات ابن سعد: ج 1، 279).
***
تسميم محمّد:
وبعد أن انتهى محمّد وأتباعه من إخضاع اليهود في خيبر وفي سائر أماكن تواجدهم في فدك ووادي القرى وتيماء والاستيلاء على أموال المواقع التي كان افتتاحها حربًا وتوزيعها على المسلمين وإقرار بعضها على النصف صلحًا وإبقاء بعضهم يعملون في الأرض، عاد إلى المدينة: “ثم انصرف رسول الله صلعم راجعًا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى وغنّمه الله عزوجل.” (سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).
وكان من بين اليهود من أسلم، ومنهم من بقي في أرضه، يعمل في الأرض ويدفع للمسلمين نصف ثمر الأرض. ومن بين السبايا اللّواتي أسلمن، على ما ذكرت الرّوايات، زينب بنت الحارث اليهوديّة، ابنة أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم. وبعد أن اطمأنّ الرّسول إلى إخضاع اليهود، جاءت إليه زينب هذه وقدّمت له شاةً مسمومة: “عن جابر وأبي هريرة وغيرهما أن رسول الله صلعم لمّا افتتح خيبر واطمأنّ جعلت زينب بنت الحارث وهي بنت أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم سمًّا قاتلاً في عنز لها، ذَبحَتْها وصَلَتْها وأكثرت السمّ في الذراعين والكتف. فلمّا صلّى النبي صلعم المغرب انصرفَ وهي جالسة عند رحله، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك، فأمر بها النبي صلعم. فأُخذت منها، ثم وُضعت بين يديه وأصحابه حضور، منهم بشر بن البراء بن معرور، وتناول رسول الله فانتهشَ من الذراع وتناول بشر عظمًا آخر فانتهش منه، وأكل القوم منها. فلما أكل رسول الله صلعم لقمةً قال: ارفعوا أيديكم، فإنّ هذه الذّراع تخبرني أنها مسمومة”. وتذكر الرّوايات أنّ بشر بن البراء قد مات من تلك الأكلة الّتي أكلها من الشاة المسمومة الّتي أهدتها زينب: “فلم يقم بشر حتّى تغيّر لونُه وماطله وَجَعُهُ سنةً ومات. وقال بعضهم: لم يرمْ بشر من مكانه حتّى توفي.” (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 13؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39).
سبب التّسميم:
ولمعرفة ملابسات التّسميم، تذكر الرّوايات أنّ محمّدًا طلب أن يتمّ إحضار اليهود أمامه وسؤالهم عن ذلك: “فقال رسول الله صلعم: اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود. فجمعوا له، فقال النبي صلعم: … هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه؟ قالوا: نعم … فقال رسول الله صلعم: مَنْ أهلُ النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلعم: والله لا نخلفكم فيها أبدًا. ثم قال لهم:… هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟ فقالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا، إنْ كنتَ كاذبًا أن نستريح منك، وإنْ كنتَ نبيًّا لم يَضُرّك.” (سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 11، 291؛ شرح السنّة للبغوي: ج 7، 40-41؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 5، 435؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 354؛ مشكاة المصابيح للتبريزي: ج 3، 290؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 430).
كما تذكر الرّوايات إنّه دعا زينب بنت الحارث، المرأة اليهودية ذاتها، الّتي وضعت السمّ في الشّاة واستجوبها حول الموضوع: “فدعاها فقال: ما حملك؟ قالت: نلتَ من قومي وقتلتَ أبي وعمّي وزوجي، فقلت: إنْ كان نبيًّا فستخبره الذراع وإن كان ملكًا أسترحنا منه.” (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير ابن كثير: ج 7، 211). أمّا بخصوص مصير زينب هذه فهنالك اختلاف بما آل إليه مصيرها: “واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أوّلا، فلما مات بشر قتلها قصاصا.” (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 347؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155). أو أنّه “لم يقتلها لإسلامها حينئذ، على ما قيل.” (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تاريخ الطبري: ج 2، 303؛ )، غير أنّ هنالك روايات تؤكّد على أنّه أمر أولياء بشر بقتلها: “فدفعها إلى أولياء بشر يقتلونها. وهو الثبت.” (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ طبقات ابن سعد: ج 2، 107؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 10، 32؛ سمط النجوم للعصامي: ج 1، 328؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155).
محمّد يشير إلى مفعول السمّ:
ويروى أنّ الرّسول ذكر ذلك السمّ، الّذي وضعته له زينب بنت الحارث، في مرضه الّذي توفّي فيه مشيرًا إلى سريان مفعوله فيه: “عن محمد بن إسحاق عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال، وقد كان رسول الله صلعم قال في مرضه الذي توفي فيه، ودخلت عليه أم بشر بن البراء تعوده: يا أم بشر، إن هذا الأوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من الأكلة التي أكلتُ مع ابنك بخيبر.” (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير البغوي: ج 7، 312). ويروى أيضًا عن عائشة أنّها قالت: “كان النبي صلعم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجد ألَم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السمّ.” (تفسير البغوي: ج 7، 310؛ أنظر أيضًا: شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213)، وبرواية أخرى فيها إقرار بمفعول السمّ: “ما زالت أكلة خيبر يعاودني ألَمُ سمّها.” (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تفسير النيسابوري: ج 1، 265؛ تفسير الرازي: ج 2، 212؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 19، 27؛ فيض القدير للمناوي: ج 5، 572).
إجلاء اليهود من جزيرة العرب:
بعد أن توفّي الرسول ووقع الاختيار على أبي بكر أن يكون خليفة للمسلمين بعد محمّد واصل أبو بكر التّعامل مع اليهود الباقين في جزيرة العرب بحسب المبادئ التي كان أقرّها الرسول عليهم في اتّفاقيّات الصّلح التي عقدوها معه: “فلما توفّى الله نبيه صلعم أقرّها أبو بكر رض بعد رسول الله صلعم بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلعم حتى توفي.” (سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415). وبعد أن توفّي أبو بكر وخلفه عمر بن الخطّاب استمرّ عمر على ذات النّهج فترة من الزّمن حتّى وصل إلى مسامعه قولٌ منسوب إلى الرّسول في مرضه الّذي قُبض فيه: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان: “ففحص عمر عن ذلك حتّى بلغه الثبت. فأرسل إلى يهود، أنّ الله قد أذن في اجلائكم، فقد بلغني أن رسول الله صلعم قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء.” (تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 356؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415).
غير أنّه، وعلى ما يبدو، فإنّ ثمّة أسبابًا أخرى لإجلاء اليهود. فمثلما أشرنا من قبل فقد أُبقي اليهود في البداية لمعرفتهم وعلمهم في تدبير وعمارة الأرض، ولم يكن المسلمون آنئذ على دراية بهذه الأمور. فلمّا كثرت الأموال في أيدي المسلمين، وتعلّموا أمور الزّراعة والاعتناء بالأرض والنّخيل قرّروا الاستيلاء على أراضي اليهود. كذا يُستشفّ من الرّواية التالية بهذا الشأن: “حتّى كان عمر، فكثر المال في أيدي المسلمين، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم.” (الأموال للهروي: ج 1، 144؛ البلدان لياقوت: ج 2، 410). وعلى كلّ حال، لقد أجلى عمر يهود خيبر وفدك، ولم يخرج يهود تيماء ووادي القرى لأنّ مناطق تيماء ووادي القرى تعتبر من بلاد الشام وليست داخلة في جزيرة العرب، على ما روي: “فلما كان زمن عمر بن الخطاب رض أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وأن ما وراء ذلك من الشام” (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213).
وعلى ما يبدو فقد بقي هناك من أسلم من اليهود في جزيرة العرب وفي المدينة، وظلّوا يعملون في الأرض ويهتمّون بالنّخيل: “بيت الخيبري – نسبة إلى خيبر بلدة قديمة مشهورة. وإليها ينسب كثير بالمدينة المنورة. وحرفتهم حفر الآبار وضرب اللبن. ويقال: إن أصلهم من يهود خيبر الذين أجلاهم النبي صلعم من المدينة. وقيل: إنهم مواليد لعبيد عنزة، لأن خيبر أملاك لهم إلى اليوم. ويحضرون فيها أيام الصيف مقدار عشرين يومًا ويجذّونها قبل استواء ثمارها. وهذا دأبهم في كل عام.” (تحفة المدنيين لابن الفقيه: ج 1، 52).
كما أنّ ثمّة من اليهود الّذين أجلاهم عمر إلى الشّام قد ظلّوا يحنّون إلى ديارهم في جزيرة العرب، وفي أقوالهم تُسمع أصداء ما جرى لليهود في الحجاز:”عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر. قتله يوم خيبر رجل من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة، يوم نزل محمد خيبر. وكنا ممّن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنّه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أُعيّر. تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابنُ سيّد اليهود، لم يترك اليهودية، قُتل عليها أبوك وتخالفه؟” (مغازي الواقدي: ج 1، 265).
***
في المقالة القادمة سنتطرق إلى قصّة الإسراء والمسجد الأقصى.
والعقل ولي التوفيق.
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: “هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟”
المقالة الثانية: “لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟”
المقالة الثالثة: “لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟”
المقالة الرابعة: “من هو النّبي الأمّي؟”
المقالة الخامسة: “لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟”
المقالة السادسة: “المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب”
المقالة السابعة: إكسودوس بني النضير
المقالة الثامنة: “محرقة بني قريظة 1”