على الرغم من المخاطر المحيطة بتحركات الشعوب الثائرة على الظلم والاستبداد في تحديها لرهان تحقيق إصلاحات أساسية في الحياة تشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر وغيرها، إلا أن الشعوب أثبتت قدرة كبيرة على تحدي جميع أنواع المخاطر، بما فيها إزهاق الأرواح. لقد كانت تونس ومصر ملهمة التحركات في المنطقة، بما فيها التحرك – القديم، الجديد – في إيران. فالمظاهرات التي تخرج في طهران والمدن الإيرانية الأخرى باتت تستلهم شعاراتها ضد الدكتاتورية والاستبداد وطلبا للحرية وتحسين الأوضاع المعيشية انطلاقا من انطفاء حكم زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك، حتى أفلام اليوتيوب الخاصة بالمعارضة الإيرانية باتت تستند إلى مشاهد ثورية للجماهير التونسية والمصرية.
لقد أرادت بعض الأنظمة أن تبني حائطا كبيرا بين ما حدث في تونس وفي مصر وبين ما يحدث من تمرد شعبي في مجتمعاتها. وقد قال أحد كبار المسؤولين العرب في تعليق على التحركات الشعبية التي تجري في بلاده إن “قوى أخرى تتحرك في المجتمع (…) هذه ليست مصر وليست تونس. لا نريد أن نفعل كما حدث في إيرلندا الشمالية، وهو التحول إلى حرب مليشيات أو طائفية”، حيث يشير التصريح إلى المدى الذي وصل إليه مستوى فزع الأنظمة العربية من هذا التحرك، والذي إن أشار إلى شيء فهو يشير إلى تشكُّل “الشرق الأوسط الجديد” الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عام 2001.
وفي حين سعى النظام في طهران إلى تركيب صفة “الإسلامية” على التمرد الشعبي في تونس ومصر، أصبح جليا أن ذلك لم يكن سوى مسعى لنقل معركة الداخل ضد الشعب الإيراني الثائر على أجندته الدينية المستبدة، إلى معركة في الخارج ضد القوى الإقليمية والدولية المناوئة للنظام في طهران، وهو مسعى بنظر المسؤولين في إيران قد يساهم في جعل طهران لاعبا رئيسيا في معركة التغيير الخارجية، في مقابل الدور الأمريكي – الأوروبي الذي بات داعما واضحا ومساندا شفافا لتطلعات الشعوب في الثورة، والمحصلة من ذلك هو تقليل الضغوط التغييرية على الداخل الإيراني وإنجاح مهمة استمرار نظام ولاية الفقيه وإضعاف الدور الشعبي التغييري.
وإذا كان النظام في طهران يزعم بأنه داعم للثورات الشعبية وللتغييرات الجماهيرية العربية، بات جليا ممارسته للقمع ضد تحركات مواطنيه المطالبة بحقوقهم الإنسانية والحياتية. فهو يمارس “ازدواجية في المعايير” كان باستمرار يتهم الغرب بها، ازدواجية ينتمي إليها موقف الغالبية العظمى من أنصار نظام ولاية الفقيه، الذين يزعمون دعم الثورات الشعبية العربية، لكنهم إما يسكتون أو يعارضون أي تحرك شعبي إيراني ضد النظام الديني.
لقد بدا واضحا أن المعارضة الإيرانية (الخضراء) منقسمة حول مستقبل نظام ولاية الفقيه، وحتى أولئك الذين يبحثون عن تغييرات فرعية لا التغييرات الأساسية التي تمس أصل النظام، باتوا لا يعارضون الاستغناء عن نظام ولاية الفقيه بنظام آخر شريطة أن يقرر الشعب نوع النظام الجديد، فهم مع إعادة النظر في الدستور، ومع طرح استفتاء جديد بشأن استمرار مبدأ ولاية الفقيه، وإلا، لماذا هذه الحملة القمعية الشرسة من قبل عناصر النظام ضد قيادات المعارضة ورموزها، وبالذات ضد الذين قادوا الحكومات الإيرانية ومؤسسات النظام في الأوقات الحرجة من تاريخ الجمهورية الإسلامية، مثل هاشمي رفسنجاني ومير حسين موسوي ومحمد خاتمي ومهدي كروبي، واتهامهم بخيانة الثورة والانقلاب عليها. إن السبب وراء وراء ذلك يعود إلى أن هؤلاء الرموز قرروا الرضوخ إلى ما يريده الشعب لا إلى ما يريده الرأي الديني المطلق والمقدس. فما يتفق عليه كل أطياف المعارضة في إيران هو تغيير الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن واللجوء إلى تعديلات دستورية شريطة أن تستند التغييرات إلى ما يقرره الاستفتاء الشعبي، ولا أعتقد بأن ٣٠ عاما من حكم نظام ولاية الفقيه كفيلة بأن يعيد الإيرانيون الكرّة الدستورية ويختاروا مجددا النظام نفسه.
إن أولئك الذين يدعمون استمرار نظام ولاية الفقيه في إيران على الرغم من الويلات والفظاعات المرتكبة، هم ممن لا يستطيعون إلا أن يعيشوا عبيدا للأصنام البشرية، لقد أصبحوا أسرى المطلق البشري، باتت عقولهم غير قادرة على تجاوز ما يردده هذا المطلق ولو جاء في الضد من الفطرة البشرية، أصبحوا غير قادرين على نقد النظام لأنه في ظنونهم ناطق باسم السماء، يصفون أنفسهم بالمؤمنين وبأنهم أوفياء للنظام السماوي ولو ارتكب الويلات، باتت عيونهم وعقولهم لا تميز الصواب من الخطأ إلا بما يقرره البشر المقدّس المنزّه من السماء، في حين أن كل من يخالفه سوف يوصم بأنه خالف الإمام والنبي والخالق.
إن هؤلاء، وبسبب معاييرهم المزدوجة المنتسبة إلى أيديولوجيتهم الدينية المقدسة، لا يشعرون بأي ذنب ولا يحسون بأي تأنيب للضمير ولا تقشعر أبدانهم لأي منظر غير إنساني، إلا إذا شعرت وقررت الأصنام المقدسة ذلك، فهم يتبعون الأصنام حتى في المشاعر والأحاسيس ناهيك عن المواقف المستندة إلى العقل. هم يقلبون الحقائق رأسا على عقب بكل سهولة ويسر، أو يوظفونها عن طريق الكذب والمراوغة في سبيل استمرار البشر المقدس على رأس السلطة مسلطا سيفه الديني على رقاب الناس بمبرر تنفيذ الشريعة الماضوية الساعية جورا إلى إسعادهم في الدنيا والآخرة، هم أعضاء بارزون في جمعية “الغاية تبرر الوسيلة”، أعينهم مفتوحة على مصاريعها تجاه فظاعات “العدو”، ومغلقة بإحكام أمام فظاعات النظام المقدس. فكل من يعارض حكومة القائد الإلهي هو مخرب للشريعة ومحارب للدين وعدو لله وخائن للوطن ولابد من محاكمته وتعزيره وفقا لأحكام فقهية تاريخية عفا عليها الزمن. هم يصدقون الفظاعات الواردة في تقارير منظمات حقوق الإنسان عن الدول الأخرى، مثل مصر وتونس والبحرين وغيرها، لكنهم يكذبون التقارير إذا ما فضحت فظاعات الدولة المقدسة وحكومة الولي الفقيه الجامع للشرائط، التي يكثر في معتقلاتها التعذيب المنظم والوحشي، والاعتقالات الطويلة دون أي تهم، والسجن الانفرادي لمدد طويلة جدا، ومحاكمات تفتقد أبسط شروط صحتها، وقتل للمتهمين تحت التعذيب وقبل انتهاء محاكماتهم، وتخريب المساجد على رؤوس أصحابها بمبرر الترويج للخرافة والشرك، ناهيك عن الانتهاكات المتوافرة في الحياة ضد أبسط قواعد العيش بصورة طبيعية غير قاهرة. إنها معادلة الاختيار بين ثورة كانت تلك الفظاعات من نتائجها، وبين الثورة على تلك الفظاعات التي تمارس باسم السماء..
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com