في بداية العام الماضي طلبت مني مجلة نيوزويك (Newsweek) الأمريكية مقالاً، لعددها الخاص كل عام، والذي كان موضوعه “القيادة في العالم”. وطلبت المجلة الشهيرة نفس الشيء من تسعة كتاب آخرين، وكان دوري أن أقوم بإطلالة خاصة عن القيادة في العالم العربي. وبعد القيام بسمح للأحوال في الاثنتين وعشرين بلداً عربياً، خلصت إلى الحقائق التالية:
• تقدم أعمار القيادات العربية، فقد كان المتوسط العمري هو 68 سنة، بينما كان المتوسط العالمي هو 50 سنة. أي أن القيادات العربية كانت الأكثر شيخوخة، بينما هم يتربعون على السلطة في بلدان معظم سكانها من الأطفال والشباب ـ حيث أن من هم دون عمر 35 سنة (وهو الحد الأقصى لمن تطلق عليهم منظمات الأمم المتحدة مصطلح شاب ـ وهم ما بين 15 و35)، وتبلغ نسبتهم 75 في المائة ـ أي ثلاثة أرباع السكان. ويقول عالم الاجتماع الفرنسي “فليب فارج” أن هذه الهوة العميقة قد خلقت “قطيعة نفسية” بين الأجيال العربية، أو بمعنى أدق بين الآباء والأبناء، وبشكل أعمق بين الأجيال الشبابية العربية والقيادات السياسية.
• طول البقاء في السلطة، فقد كان متوسط عدد السنوات التي قضاها الرؤساء العرب في قمة السلطة هو عشرين عاماً، بينما كان المتوسط العالمي في نهاية 2005 هو عشر سنوات. أي أن القادة العرب يمكثون في السلطة ضعف أقرانهم في معظم بلدان العالم الأخرى، بل إن حرص الآخرين من غير العرب، على الإحلال والإبدال في القيادة جعلهم يضعون حدوداً زمنية قصوى لمدة البقاء في أي موقع قيادي تنفيذي، لا يتجاوز ثمان سنوات في أمريكا وروسيا. ففي هذين البلدين تم ضبط هذا الحد الأقصى، بمدتين رئاسيتين (كل منهما أربع سنوات). وفي المكسيك، ومعظم دول أمريكا اللاتينية، فإن الرئاسة هي لفترة واحدة، ومدتها ست سنوات.
• الانقلابات، وليس الانتخابات، هي الأداة للسلطة، فمعظم القيادات العربية جاءت إلى مواقعها بالطريق الانقلابي، أي اغتصاب السلطة. وحتى حينما تحاول هذه القيادة، إضفاء قشرة من الشرعية على هذا الوضع من خلال الانتخابات أو الاستفتاءات، فإن هذه الأخيرة تأتي في معظمها صورية أو يتم تزويرها أو تلفيقها. وقد كانت البلاد العربية سبّاقة في ممارسة الثلاث تسعات (99.9) كنتيجة لانتخابات الرؤساء العرب. ولأن صدام حسين، كان قد مل ممارسة الثلاث تسعات، فقد استحدث في آخر انتخابات لفقها عام 2002 وهي الحصول على 100% من الأصوات. وهو ما جعل العرب مضحكة للعالم.
• تصلب شرايين القيادات العربية، نتيجة الخصائص الثلاث المذكورة أعلاه، فإن القيادات العربية في معظمها تعاني من حزمة أمراض. ولكن أخطرها هو تيبث أو تصلب الشرايين، أي تلك التي تضخ الدماء والأكسوجين إلى العقل. هذا فضلاً عن أن معظم هذه القيادات أصبحت معتلة في صحتها العامة، وغير قادرة على أداء حتى أبسط المهام التي تتطلب أدنى لياقة بدنية.
إن هذا المشهد الكئيب، جعل الوطن العربي يبدو في عام 2005، وكأنه “رجل العالم المريض”، مثلما كانت الإمبراطورية العثمانية طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تسمى “رجل أوروبا المريض”. ومع ذلك لاحظنا ونوّهنا في مقالنا المذكور في “النيوزويك” أن أطراف الوطن العربي تتحرك، وتبدي حيوية لا تتوفر لقلب هذا الوطن. فبينما كانت دوله المركزية الكبيرة ـ مصر، وسوريا، والسعودية، والسودان ـ فاقدة للوعي في ظل أنظمتها الاستبدادية، كانت البلدان العربية الأصغر على الأطراف الجغرافية للعالم العربي تظهر حيوية سياسية ملموسة. ونقصد بالأطراف بلداناً صغيرة في أقصى الشرق العربي ـ مثل دبي وقطر والبحرين والكويت ـ أو في أقصى الغرب ـ مثل موريتانيا والمغرب. ففي العقد الأخير شهدت هذه البلدان حركة دائبة نحو التحول الديمقراطي. فالبلدان الملكية منها في الخليج مثلاً، تحولت أو تتحول إلى ملكيات دستورية، كالكويت والبحرين وقطر، وسلطنة عُمان، والإمارات العربية المتحدة. أما في الحافة العربية للوطن العربي، فإن المغرب سبقت الجميع في تطورها كملكية دستورية. ولكن الأكثر إثارة ومدعاة للإعجاب، فهو ما يحدث في موريتانيا في العامين الأخيرين، وخاصة هذا الأسبوع.
وربما لا يعرف الكثيرون عن هذا البلد إلا النذر اليسير. فإلى جانب موقعها في أقصى الحافة الغربية للوطن العربي، على المحيط الأطلنطي، فإنها من أفقر بلدانه. فرغم مساحتها الشاسعة (حوالي نصف مليون كم2) إلا أنها في معظمها صحراء قاحلة، تتخللها عدة واحات، وتعتمد على زراعات مطرية محدودة على سواحلها الأطلنطية، ويعمل معظم سكانها الذين بلغ عددهم أقل من 4 مليون رعاة للإبل والأغنام.
ورغم أن الإسلام دخل تلك البلاد من شمالها في المغرب منذ القرن الثامن الميلادي، إلا أن تعريبها كان أبطأ بكثير، وما زال مستمراً. ففي كل مناطق التماس الجغرافي والحضاري يكون الاختلاط الثقافي واللغوي بطيئاً. وفي حالة موريتانيا، كانت جاذبية الداخل الصحراوي ضئيلة أو معدومة بالنسبة للقبائل العربية الوافدة من الشمال والشرق، والذين كانوا أساساً من بني هلال وبني سليم، خلال الحكم الفاطمي. وهم لم يتزاوجوا إلا مع القبائل البربرية، من زوي البشرة البيضاء والسوداء من صهناجة. وظل تزاوجهم من القبائل الإفريقية الزنجية، زوي البشرة السوداء عبر نهر السنغال، محدوداً. ومع ذلك ما أن أتى القرن السابع عشر، حتى أصبحت الثقافة العربية الإسلامية هي الغالبة، في هذه البلاد التي ظلت إلى ذلك الوقت تُعرف باسم بلاد “شنقيط”. وظهرت فيها أسرة حاكمة من بني حسان (أحد فروع قبائل بني عقيل) بسطت نفوذها إلى جنوب نهر السنغال، حتى أصبحت لغتهم تُعرف باسم “الحسانية”، وإن كانت خليطاً من العربية واللهجات الإمازيغية. أما الأوروبيون فقد أطلقوا على بلاد “شنقيط” هذه اسم “بلاد المور”، كأنهم امتداد للعرب الأندلسيين. ومنها جاء الاسم الحالي، وهو موريتانيا. وقد غزا الفرنسيون بلاد “شنقيط” من الجنوب، حيث كانوا قد استعمروا السنغال، وأرادوا التواصل الجغرافي مع مستعمراتهم في المغرب والجزائر.
ورغم جلاء الفرنسيين واستقلال موريتانيا عام 1960، إلا أنها لم تدخل عضواً في جامعة الدول العربية، شأنها شأن الصومال، إلا بعد حرب أكتوبر عام 1973. ومثلها مثل بقية البلاد العربية والإفريقية المجاورة، شهدت موريتانيا سلسلة من “الانقلابات العسكرية”، كان أخرها قبل سنتين، بقيادة العقيد حمد ولد فال، فإن مجموعة من صغار الضباط، الذين كونوا فيما بينهم “مجلساً عسكرياً حاكما”ً. ولكنهم بعكس الانقلابات السابقة، أعلنوا وتعهدوا أن ينتقلوا ببلدهم موريتانيا إلى حكم ديمقراطي حقيقي، من خلال انتخابات نزيهة، تحت مراقبة دولية. أكثر من ذلك، أعلنوا وتعهدوا ألا يخوض أي من أعضاء المجلس العسكري الحاكم الانتخابات على أي مستوى (محلي، أو نيابي، أو رئاسي). كما أنهم لم يخلعوا الزي العسكري ويرتدون الزي المدني للتمويه، ودخول السياسة من أبواب خلفية أو جانبية.
والجدير بالذكر والتنويه والإعجاب هو أن العقيد حمد ولد فال قد أوفى بتعهده للشعب الموريتاني والعرب والعالم. فقد رفض بإصرار قاطع أن يرشح نفسه لأي منصب، وحذا حذوه بقية أعضاء المجلس العسكري الحاكم. وقد شهدت موريتانيا بالفعل ثلاث حالات انتخابية متتالية في الشهور الأخيرة ـ بلدية (محلية) ونيابية، ثم رئاسية، مع ظهور هذا المقال (10/3/2007). وهرع مراقبون دوليون، من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، ومنظمات حقوقية أخرى إلى “نواكشوط”، العاصمة الموريتانية، لمراقبة تلك التجربة النادرة عربياً. فهذه هي المرة الثانية فقط، في التاريخ العربي الحديث التي يعد فيها عسكريون إنقلابيون بالتخلي طواعية عن الحكم لحكومة مدنية، يتم انتخاباها ديمقراطياً. أما المرة الأولى والتي ظلت يتيمة إلى تاريخه، فقد كانت في السودان، حين فعل الشيء نفسه رجل عسكري نبيل هو الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، الذي قاد انقلاباً على مستبد سوداني سابق هو جعفر النميري، عام 1985، وتعهد ألا يبقى في السلطة إلا عاماً واحداً، يجري خلاله انتخابات حرة نزيهة، يسلم البلاد بعدها إلى حكومة مدنية، منتخبة ديمقراطياً. وهو ما فعله في الوقت واليوم المحدد تماماً ـ حيث ترك القصر الجمهوري عام 1986، ودخل قلوب السودانيين والعرب والأفارقة، كنموذج للشرف والإباء. وها هو نموذج ثاني من موريتانيا، وهو العقيد حمد ولد فال وزملائه. فسلام عليهم وتحية إكبار وإجلال لهم، ودعواتنا أن يبارك الله في موريتانيا، وألا تنتكس تجربتها العظيمة، كما انتكس السودان الشقيق. وحبذا لو أخذ بقية العرب الحكمة هذه المرة من موريتانيا.
saadeddinibrahim@gmail.com