هل من يستطيع القول اين نجح الإتحاد السوفياتي او روسيا في الشرق الأوسط؟ قد يكون النجاح الوحيد في تاريخ العلاقات العربية مع موسكو أن سوريا صارت الآن، بفضل السلاح الروسي والدعم الإيراني تحت وصايات عدّة. هل تقسيم سوريا نجاح بحدّ ذاته؟
لم يعد في الإمكان انقاذ النظام العلوي الذي لجأ اخيرا إلى تسليم قسم من الساحل السوري إلى الجيش الروسي. إنّها الورقة الأخيرة للنظام الذي يقف على رأسه بشّار الأسد. هذه الورقة تثبت أن روسيا ستفشل مرّة أخرى، على غرار ما حصل في الماضي… أي منذ قيام دولة اسرائيل في العام 1948؟
يذكّر الوجود العسكري لروسيا في اللاذقية وطرطوس ومحيطهما بالوجود السوفياتي في مصر الذي زاد بعد هزيمة حرب الأيآم الستة في العام 1967. لم ينته ذلك الوجود وقتذاك، إلّا بالقرار الشجاع الذي اتخذه الرئيس الراحل انور السادات في العام 1972، وذلك في اثناء الإعداد لحرب تشرين ـ اكتوبر 1973. مهّدت تلك الحرب، من وجهة نظر مصر، لتحريك الوضع السياسي في المنطقة وصولا إلى اتفاقي كامب ديفيد في خريف 1978 ثم معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية في آذار ـ مارس 1979. تلك المعاهدة التي لم يفهم معناها ويستوعب ابعادها النظامان البعثيان في العراق وسوريا. الملفت أنّ النظام في العراق كان مرتبطا بمعاهدة صداقة وتعاون مع الإتحاد السوفياتي منذ العام 1972، في حين أن النظام السوري لم يجد حاجة إلى مثل هذه المعاهدة إلّا بعد توقيع مصر لمعاهدة السلام مع اسرائيل وبداية ظهور اشارات إلى توتّر داخلي، ذي طابع مذهبي وطائفي، في سوريا نفسها، بما يهدّد النظام الأقلّوي لحافظ الأسد.
ادرك انور السادات باكرا معنى الوجود العسكري السوفياتي في مصر وخطورته. ادرك خصوصا أنّه لن يستطيع شنّ حرب من أي نوع كان على اسرائيل في ظل هذا الوجود، فكان قراره بطرد الخبراء العسكريين السوفيات الذين لم يكن لديهم من هدف سوى تكريس حال اللاحرب واللاسلم التي صبّت دائما في مصلحة اسرائيل التي تسلّحت دائما بمرور الوقت لفرض امر واقع على الأرض، اكان ذلك في الضفّة الغربية المحتلة أو في الجولان.
كانت هذه الحال، حال اللاحرب واللاسلم، في اساس وجود النظام السوري. كانت فلسفة الحكم لدى حافظ الأسد منذ حرب العام 1967 التي لعب دورا اساسيا في جرّ مصر إليها، عندما كان وزيرا للدفاع. كانت تلك الفلسفة القاسم المشترك الدائم بينه وبين اسرائيل.
متى استعرضنا السياسة التي اعتمدتها موسكو في المنطقة العربية، وحتّى في مناطق الجوار العربي، نجد أن الكرملين لم يستطع يوما لعب دور ايجابي على أي صعيد كان. كان السلاح السوفياتي والروسي الذي رافقه ارسال خبراء عسكريين في كلّ وقت في خدمة امرين. الأوّل تشجيع الأنظمة على قمع شعوبها، والآخر ضمان عدم حصول أيّ تفوق على اسرائيل التي كانت إلى ما قبل فترة قصيرة رأس الحربة للسياسة الأميركية في المنطقة.
ثمّة من سيقول أنّ الإتحاد السوفياتي دعم القضية الفلسطينية. هذا الكلام غير صحيح بأيّ شكل. الصحيح، إلى حدّ كبير أنّ الإتحاد السوفياتي قدّم كلّ ما يستطيع من أجل بقاء الفلسطينيين في اسر الشعارات التي رفعوها وكي يغرقوا في اسر بيروت وازقتها ووحول الحروب الداخلية التي عادت على لبنان بالويلات. لم يقف الكرملين في أيّ يوم موقفا يستشفّ منه أنّه يعمل من أجل كسر الحلقة المغلقة التي بقيت القضية الفلسطينية تدور فيها في ظلّ الحرب الباردة التي انتهت في تشرين الثاني من العام 1989، عندما سقط حائط برلين.
ما الذي يمكن توقّعه الآن من التدخل الروسي في سوريا، وهو تدخّل بدأ يأخذ في الأسابيع القليلة الماضية منحى جديدا؟ الجواب أنّ لا هدف آخر لموسكو سوى تمديد الحروب المختلفة الدائرة على الأرض السورية. ولكن، إذا كان من جديد، فهذا الجديد هو التنسيق مع ايران واسرائيل في هذا الشأن. الهدف أن لا تقوم لسوريا قيامة في يوم من الأيّام. في كلّ مكان تدخّلت فيه موسكو عسكريا وسياسيا في المنطقة، نجد الخراب. ماذا كانت نتيجة الوجود العسكري السوفياتي في الصومال أيّام محمّد سياد بري؟ ماذا كانت نتيجة الدعم السوفياتي لمنغيستو هايلي مريم في اثيوبيا في مرحلة لاحقة؟
هل هناك من يريد أن يتذكّر الدور السلبي للإتحاد السوفياتي في مجال دعم التحولات الكارثية التي شهدها اليمن الجنوبي منذ استقلاله في العام 1967 وحتّى انهيار النظام في مطلع العام 1986 اثر الأحداث المأساوية المعروفة بـ”احداث الثالث عشر من يناير” التي انتهت بابعاد علي ناصر محمّد عن السلطة؟
تكفّل الإتحاد السوفياتي بتخريب التركيبة الإجتماعية والإقتصادية في كلّ المحافظات التي كان يتألّف منها اليمن الجنوبي. قضى على كلّ ما هو حضاري في عدن التي كانت منارة من منارات شبه الجزيرة العربية. هجّر كلّ الثروة البشرية التي كانت في محافظات الجنوب والوسط. تتحمّل موسكو، بكلّ راحة ضمير، جزءا من المسؤولية عمّا يشهده اليمن كلّه اليوم.
في تاريخ التعاطي مع سوريا، لم يأت الإتحاد السوفياتي، الذي ورثته روسيا الإتّحادية، بجديد في العام 2015. في العام 1958، ابان الوحدة المصرية ـ السورية، نكّل جمال عبد الناصر، عن طريق الضابط السوري عبد الحميد السرّاج بالشيوعيين السوريين. دفع الشيوعيون اللبنانيون ايضا ثمن هذا التنكيل. جثة الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، التي اذابها السرّاج بالأسيد، خير دليل على المدى الذي بلغه هذا التنكيل الذي انحازت موسكو إلى جانبه.
التاريخ يكرّر نفسه في كلّ مكان من المنطقة. الجديد في عهد فلاديمير بوتين هو ان الكرملين يلعب الدور المعهود منه ان يلعبه مع آخرين في دعم نظام مرفوض من شعبه.
كلّ ما يستطيع عمله من خلال هذا التدخل الذي لا افق سياسيا له والذي يبرّره بالحرب على “داعش”، هو اطالة عمر نظام ميّت لم يرد يوما استعادة ارضه المحتلة منذ ثمانية واربعين عاما، بل اعتبر دائما أن الإنتصار على لبنان وشعبه بديل من الإنتصار على اسرائيل. لن يوفّق بوتين حيث فشل اسلافه. حنينه إلى استعادة عظمة روسيا سيظلّ حنينا، على الرغم من ان لروسيا مصالح في الساحل السوري مرتبطة بالغاز أوّلا واخيرا.
لا يمكن للسياسة الروسية في سوريا ان تنجح، على الرغم من الدعم الإيراني والإسرائيلي، والتواطؤ التركي. لا يمكن لهذه السياسة النجاح في ظلّ الضعف الذي يعاني منه الإقتصاد الروسي، خصوصا أنّ اسعار النفط والغاز مستمرة في الهبوط. تكمن نقطة الضعف الكبرى لدى بوتين في أنّه بنى آلة عسكرية كبيرة على قاعدة اقتصادية بالغة الهشاشة. لم يستطع تطوير اقتصاد بلاده واخراجه، ولو جزئيا، من اسر عائدات النفط والغاز.
الأهمّ من ذلك كلّه، أن حصانه في سوريا ليس حصانا، حتّى لو كان هذا الحصان دمية ايرانية… في حين أنّ كلّ ما يهمّ اسرائيل، اضافة إلى تحييد صواريخ “حزب الله” الإيرانية طبعا، هو التأكّد من أنّه لن يكون في سوريا من يرفع صوته ويطالب بالجولان يوما.