من ينظر، ولو من بعيد، إلى ما تشهده الجزائر هذه الأيّام من أحداث متلاحقة يجد نفسه مضطرّا لأن يطرح على نفسه السؤال الآتي: أين عبد العزيز بوتفليقة؟
قبل أكثر من شهر أعيد إنتخاب بوتفليقة رئيسا للجزائر لولاية رابعة. في مرحلة سبقت انتخابه، أي بعد ترشّحه وهو في الحال الصحيّة التي يعاني منها، كان السؤال هل الجزائر تشبه بوتفليقة أم بوتفليقة يشبه الجزائر؟ بعد فوزه في الإنتخابات، تبيّن أن لا حاجة لمثل هذا النوع من الأسئلة بعدما ظهر أن الجزائر تشبه بوتفليقة وبوتفليقة يشبه الجزائر. الآن أين بوتفليقة، بل إلى أين تبدو الجزائر ذاهبة؟
حكم الرجل الجزائر منذ العام ١٩٩٩ بعدما نجحت المؤسسة العسكرية في اجتثاث الإرهاب والإرهابيين. خاض الجيش الجزائري، عن حقّ، حربا لا هوادة فيها مع المجموعات الإرهابية التي تلطّت بالدين.
كان ثمن الإنتصار باهظا في فترة امتدت نحو عقد من الزمن غاب فيها العقل السياسي عن المشهد الجزائري. لم يكن من مكان سوى للحرب على الإرهاب التي لا بدّ من الإعتراف بأن الجيش خرج منها منتصرا ونجح إلى حدّ كبير في إنقاذ الجمهورية ومؤسساتها.
أُعيد انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا في وقت لم يتغيّر شيء في الجزائر. يبدو واضحا أنّ الهدف من إبقاء الرجل في قصر المرادية، على الرغم من عجزه عن الوقوف على رجليه أو النطق بشكل واضح، يستهدف توفير الحماية لمجموعة معيّنة، محيطة برئيس الجمهورية. تخشى هذه المجموعة، بكلّ بساطة، الملاحقة القضائية في حال وصول بديل منه إلى الرئاسة.
صحيح أن العسكر استطاعوا القضاء على الإرهاب والإرهابيين، لكن الصحيح أيضا أن مشاكل الجزائر ما زالت تراوح مكانها، بل أنّها زادت مع مرور الوقت وتدهور الأوضاع علي الصعيد الداخلي وفي كل المناطق الحدودية باستثناء المغرب في طبيعة الحال.
أكثر من ذلك، عاد الإرهاب ليطلّ برأسه في الجزائر نفسها وليس في منطقة الساحل الصحراوي فقط. كانت عملية عين اميناس التي نفّذتها مجموعة إرهابية قبل سنة تقريبا دليلا على أن أبواب الجزائر باتت مشرّعة أمام كلّ أنواع الإرهاب في غياب العقل السياسي من جهة والقدرة على استيعاب الحاجة إلى التغيير وكسر القوالب الجامدة من جهة أخرى. ما حصل في الأسابيع القليلة الماضية في غير منطقة جزائرية يدلّ على ذلك.
لم يعد سرّا أنّ الجزائر تعاني من عودة الإرهاب ومن مشاكل ذات طابع طائفي وعرقي في الوقت ذاته. تضاف إلى ذلك الأزمة المعيشية المتفاقمة مع زيادة البطالة في صفوف الشباب وبقاء الإقتصاد الجزائري أسير أسعار النفط والغاز.
ما لا مفرّ من الإعتراف به أنّ هناك في المقابل وعيا شعبيا لأهمّية المحافظة على السلم الإجتماعي نظرا إلى أن المواطن العادي يخشى من أي نوع من الإضطرابات في المدن، اضطرابات تذكّر بما حدث في خريف العام ١٩٨٨. وقتذاك، في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، انفجر الوضع في الجزائر وفقدت السلطة سيطرتها على الشارع وبدأت موجة اضطرابات أخذت منحى دمويا سافرا استمرّت ما يزيد على عشر سنوات.
لا يريد الجزائريون العودة الى تلك المرحلة. هذا واقع، لكنّ هذا العنصر الإيجابي الذي يضاف إليه توافر احتياط كبير من العملات الصعبة لا يعني في أي شكل أن كلّ شيء على ما يرام في الجزائر. هناك جمود لا يشبه الّا الجمود الذي ساد في الإتحاد السوفياتي في السنوات الأخيرة من عهد ليونيد بريجنيف الذي توفّى في العام ١٩٨٢. كان هذا الجمود، العائد الى اصرار بريجنيف على البقاء في السلطة، على الرغم من مرضه، من بين الأسباب التي أدّت إلى انهيار الإتحاد السوفياتي الذي لم يعد قادرا على تجديد نفسه على أي صعيد كان. ولما جاء ميخائيل غورباتشوف واراد أن يجدّد ويغيّر، اكتشف أن النظام اسير قوالب معيّنة لا تسمح لا بالتغيير والتطوير والتجديد بغية انقاذ ما يمكن انقاذه…فكان الإنهيار الكبير مطلع العام ١٩٩٢.
كان بريجنيف غائبا عن السلطة بسسب مرضه. كانت هناك مجموعة محيطة به تحكم من خلف الستار الذي يمثله رجل مريض. كانت هذه المجموعة اسيرة قوالب معيّنة، تماما مثلما أنّ المجموعة المحيطة بعبد العزيز بوتفليقة هي التي تحكم، وهي في الوقت ذاته اسيرة قوالب تجاوزها الزمن وتجاوزتها خصوصا الأحداث في المنطقة. في مقدّم الأحداث انتشار الإرهاب في الساحل الصحراوي وتحوّل جبهة “بوليساريو”، التي ليست سوى أداة جزائرية، جزءا من المشكلة الإقليمية التي سترتد عاجلا أم آجلا على الجزائر.
لا يمكن لهذه المشكلة إلّا أن تتفاعل على نحو خطير في ضوء ما تشهده ليبيا التي التي يُخشى آن تتحوّل إلى قاعدة لـ”القاعدة” ومخزن سلاح كبير لها وللمجموعات الإرهابية في شمال افريقيا في حال عدم القضاء على المتطرفين المنتشرين في كلّ آنحاء البلد.
في غياب العقل السياسي الخلّاق في الجزائر، أي العقل الذي يكسر القوالب الجاهزة، ليس ما يشير ألى أن الجزائر يمكن أن تخرج من أزمتها. ليست في وضع يسمح لها بالخروج من سياسة قائمة على تحقيق إنتصارات تقوم على مجرّد الحاق الضرر بالآخر، حتّى لو كان هذا الضرر ستكون له آثار سلبية على الجزائر نفسها.
مثل هذا النوع من الإنتصارات ليس سوى الطريق الأقرب إلى الكارثة القادمة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، لا يمكن معالجة مشكلة الإرهاب من دون تعاون إقليمي واسع لا يستثني احدا. لا يمكن للجزائر الإستفادة من الإرهاب والإستثمار فيه لمجرّد أنّه خارج أراضيها. لا بدّ من كسر هذا القالب القائم على فكرة الإستثمار في كلّ ما من شأنه الإضرار بالمغرب مثلا.
بكلام أوضح، ثمة حاجة إلى قيادة سياسية واعية في الجزائر تنتهي من حال الجمود ومن عقدة اسمها المغرب. ففي الصحراء مثلا حيث لا يمكن للمغرب الذي يدافع عن ترابه الوطني سوى أن ينتصر. في استطاعة الجزائر المشاركة في هذا الإنتصار بدل اعتباره هزيمة لها. يمكن لكل من البلدين الخروج منتصرا. ولكن أين عبد العزيز بوتفليقة وسط كل هذا النقاش الذي يتناول مستقبل الجزائر نفسها؟ هل عزّ الرجال في الجزائر التي فيها بعض أفضل الرجال…أو هكذا يفترض؟