حركة ضباط يوليو لم يكن لها من اختبار حقيقي إلا في الخامس من يونيو 67 من جانب إسرائيل في الساعة التاسعة إلا الربع مع أول غارة فوضعت الحرب أوزارها في التاسعة. فنتائج الحرب ليست أحلاما بالنصر أو إيمانا به إنما حقائق ووقائع ما علي الأرض وما في السماء. وظل المصريون مبتهجون بما يتمنوه كأضغاث أحلام أو أوهام يقظة حتى تسائلوا في نهاية اليوم التالي عن معني خط الدفاع الثاني، وأين موقعه؟ فإذا كانت هزيمة 1967 نهاية لحركة 23 يوليو وفلسفاتها وعروبتها واشتراكيتها ونظامها السياسي والاقتصادي فكيف نصف ما حدث منذ تلك الساعة التاسعة وحتى الآن؟
بعد أن حسمت إسرائيل الحرب في 15 عشرة دقيقة ما زلنا نحن المصريون بعد أربعين عاما منها غير قادرين علي التخلص من آثارها أو تصحيح للروح المصرية. تجليات الهزيمة تبدو في اعتلاء أهل العمائم والفتوى منبر القول فأصبح الخطاب بكل أنواعه ملغما بكل ما هو ديني من آيات وأحاديث. فخطاب يوليو كان ملغما بالأكاذيب والخطاب الحالي بعد 55 عاما يمتلئ بالغيبيات وأحاديث الفساد. كانت المهرجانات بعيد العلم تسلم فيه الجوائز علي الأوائل لكننا لم نسال أين ذهب هؤلاء المتفوقين عندما كتبت صحف الدولة بالخط العريض قبل الحرب مباشرة أننا نملك سلاح طيران يمكنه التحليق بلا انقطاع بدون وقود. والآن فأحاديث المعجزات والخوارق تطل علينا أيضا. كانت الصحف عند لحظة اختبار المعرفة والعلم علي ارض المعركة تضرب العلم في مقتل. فقوانين الطاقة بكل أنواعها تقول بأنها لا تفني ولا تستحدث. فكيف يمكن إدارة محركات الطائرات لاكتساب طاقة وضع وحركة للتغلب علي الجاذبية الأرضية بدون وقود؟ كان نظام يوليو وإعلامه العربي صاحب الأساطير القومية يناقض ما تقوله المدرسة والجامعة بعلومهم الطبيعية والنظرية وكان علي استعداد للقول بأشياء أخري لم تصمد في ربع ساعة فقط. في المذكرات الإسرائيلية كان الطيارون الإسرائيليون يتعجبون كيف لا تنفجر الطائرات المصرية بعد ضربها. فمن المفترض أنها ممتلئة بالوقود استعدادا للإقلاع خاصة وان المعلومة المحددة لموعد المعركة أعلنها زعيم الأمة في خطبه عصماء قبلها بأيام. أعلمه بها الرئيس الفرنسي شارل ديجول محذرا إياه. فالعالم كان صادقا فيما يقول وفيما يستخدم من أسلحة ونحن نخدع أنفسنا بما هو غيبي ولا عقلاني. فهل نفتح أيضا سؤال فساد الأسلحة عام 1948؟
كان عجب الاسرائيلين مرده خلو الطائرات من الوقود لان امن النظام وحرصه علي تحييد الجيش من التدخل الداخلي أهم من تحركه للدفاع عن الوطن. بهذا تحققت الأسطورة علي الأرض بينما الواقع بات لصالح إسرائيل في السماء بامتلاك القوانين، فعرفت كيف تسخرها دون أي غش في العلم بجوائز لتبرئه الذمم وحصدا للهتاف وتعميما لصورة الزعيم. بعد أربعين عاما تدني وضع العلم ومعارفه وتتم أسلمته من ارض العرب وساد الفكر الخرافي باعتباره علما ودينا في وقت واحد يقوم به فرق وكتائب من الجهلة في كل العلوم مع صبغة دينية لتحسين الصورة.
تضافرت الأسطورة مع الكذب ليس فقط قبل الحرب لكن علي مدي 55 عاما مع واقع السياسات الغير معلنه من رجال يوليو. فالمعلن هو الحرب ضد العدو، التحرير، عوده الحقوق، أمة عربية واحده، اشتراكية عربية … الخ الشعارات التي ملأت وجدان أجيال الثورة بأعمارها الحالية التي فوق الستين عاما. كثيرين منهم ظهرت عليه سيماهم التي في وجوههم من اثر السجود. وكأنه تتقاذفهم الأوهام بين عسكرة يوليو وتدينها. حرمانهم الطويل من إبداء الرأي أوصلهم للدفاع عن الشورى، أي تكريس ابتعادهم عن صنع القرار. فالشورى ضمن صلاحية أهل الحل والعقد وليس الجمهور والشعب. فكلاهما مستبعد تحت حكم العسكر أو العمائم.
40 عاما علي هزيمة يوليو وهزيمة المصريين لم تحقق شيئا سوي المعايشة بانحدار وبمزيد من الاستبعاد للعقل. والتجلي الأكبر لها في حال المراة التي توارت كما تواري الرجال وراء جدران المساجد. فمظهر التقوى المفتعل في الأزياء وكثرة ممارسة الشعائر والتمتمة بالآيات ليست أكثر من دفاعات عن الذات المستباحة في كلا الزمنين قبل وبعد الهزيمة. فحركة الناس في الشارع لم يعد يحكمها الصلاحية والصواب والخطأ إنما علي قاعدة السؤال عن حلالها من حرامها. فالفعل لا حكم عليه من نتائجه إنما له صلاحية سابقة مفروضة له وعليه. وهو ذات الأمر بان الانتصار كان من نصيبنا شاءت إسرائيل أم أبت، السنا اكبر قوه ضاربه في الشرق الأوسط دون اختبار؟ بهذا أصبح العمل بكل أشكاله مقيدا بإطار لا حرية فيه ولا اختبار له. إنما تصدر له الأحكام قبل فعله ويحكم عليه قبل وقوعه. ولم يسال أي عاقل نفسه، ممن عاصروا المد والانكسار، وما فائدة الوجود إذن إذا كانت الأمور سابقة التجهيز والحكم؟ وما فائدتنا نحن إذا كان كل شئ لصالحنا مقدما؟ بينما يحصد الطرف الآخر كل ما نتمناه؟
دعوة عروبة مصر من رجال يوليو تكفلت بهزيمة المصريين وتبديد ثروتهم ووضعهم اسري نظام اقرب إلي القبيلة، فليس في العروبة من سواها. مع طاعة لأولي الأمر ولو كانوا من الكذبة الدجالين. ولم تكن تجليات العروبة في الواقع المصري الغزير والممتلئ بعناصر ثقافية من الشرق والغرب إلا بتآكل لتلك المكتسبات الحضارية الموروثة أو الوافدة علينا وتفاعلنا معها وامتصتها الروح المصرية فأصبحت جزءا منها. فكراهية الغرب بحجه فلسطين والأمة العربية المزعومة أفقدت المصريين ما يميزهم عن باقي المجتمعات المغلقة. الآن خسرنا كل تلك الإضافات الحضارية المنفتحة ولم نكسب إلا تفتت قضية الفلسطينيين بين فساد السلطة وإرهاب حماس. كلاهما شر. فحيثما وليت وجهك شطر من يتحدث بلغة الضاد فهناك انقسام بين فصيلين علي نفس المنوال. فالعروبة منقسمة علي ذاتها وتورط كل من تبناها بين الهزيمة أو الإرهاب. أي بين القومية والاسلمة. فانهيار القضية المركزية التي رهن نظام يوليو نفسه عليها كانت هي سببا في انهياره كتكامل حتمي بينهما.
كانت مشاريع الهزيمة تقدم علي طريقة الهدايا في أعياد الميلاد، بالحرص علي المفاجأة والإبهار حتى ولو كانت الهدية مغشوشة. فمجرد إعلان الاشتراكية كإيديولوجية رسمية للدولة كانت توجه الضربات الساحقة للرأسمالية باعتبارها جريمة ينبغي لها العقاب. رغم أن النظام رفل في نعيمها لتسع سنوات كاملة قبل الانقلاب عليها ومع ذلك لم يحدث أي تعديل في ميزان القوى لصالح اليسار. إنما نشأت طبقة من طالبي المزيد من التأميم كلما نضبت الأصول وتآكلت الثروة. أنهت الاشتراكية البطالة في المجتمع لان المواطنين احتلوا مقرات الحكومة والمصانع والحقول ببطالة مقنعة. لم يسال احد عن العائد وعن مردود كل هذه العمالة بينما حسابات الاستهلاك تقول بارتفاعها دون تعويض ومع تدني في مستوي الخدمة وقيمة السلع بكل أنواعها. كانت المجمعات الاستهلاكية المنافس الاشتراكي لمحل البقالة باعتباره رأسمالية مستغلة رغم تساوي الأسعار!! ومع ذلك كانت صورة الجمعيات الاستهلاكية مقرونة بالطوابير وندرة السلع.
لم تقتصر الندرة علي السلع بل علي الكلمة والأشكال السياسية التي ألغيت منذ سنوات. يقول كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم ” الأحزاب لا مكان لها لأنها عميلة وتتعاون لبيع الوطن “. وقال الزعيم “خالد الذكر” عبد الناصر بعد قرار حل الأحزاب ” إن الاستعمار لن يجد بيننا خائن بعد اليوم “. زعيم الأمة أقر بالحياة الحزبية كمؤامرة استعمارية. وقال إن الإنجليز قسموا الشعب إلي شيع وأحزاب. فالنظام السياسي المتعدد الأحزاب وسيلة لتغلغل الأجنبي ليهدم القاعدة التي نبنيها. وفي العام 1968 كان الألم يعتصر خالد الذكر عندما ابدي تبرمه في خطبة طويلة من حالة اللامبالاة لدي الجماهير التي حشدها وعبأها بدون أحزاب علي مدي خمسة عشر عاما. هكذا وضع نظام يوليو نفسه أمام خيارين. جماهير حزبية من الخونة أو شعب واحد لا يبالي. فاستدرك في اللجنة المركزية بحاجته لحزب معارض مع طناش متعمد للخيانة التي ستأتي عبر الحزب المزمع إنشاؤه ..! كان خالد الذكر في حاجة لصوت الخونة ليصلح مؤسسته الشريفة.
ولم تكن مأساة النظام بقيادته التاريخية أن زمن اختباره لم يتجاوز الربع ساعة فقط إنما رؤيته لذاته بكونه ديموقراطي من نوع فريد. فالنظام كان يردد، كما يتردد الآن، بان ديموقراطيتا ذات طابع خاص، ونابعة من ظروفنا وخصوصيتنا الثقافية. فهي ديموقراطية لم تختبر إلا بتمني وجود معارضه أي خيانة وعماله للاستعمار. تماما مثلما كنا اكبر قوه ضاربة من نوع غير معروف وفي حاجة لربع ساعة فقط لإثباتها كذبها. وكان وطني وهو يدافع عن العروبة الوافدة بقوة السلاح وصلافة التكفير. ويصادق السوفييت وهو يحارب أيديولوجيتهم. في هذا الوقت كان يأخذ معونة من الاستعمار الأمريكي فقال في احد خطبه مهيجا الجماهير الخالية من الأشكال الحزبية وكعقل مفكر بديل لها قائلا: ” إذا كان الأمريكان بيدونا معونة علشان يتحكموا فينا … أنا باقولهم متأسفين. وإذا لزم الأمر هنوفر 50 مليون جنية. وعلي الجزمة المعونة ولا بيهمنا والله العظيم. واللي مش عاجبه يشرب من البحر. وإذا ما يقضهوش البحر الأبيض يشرب من الأحمر. إحنا ما بنقبلش كلمة من أي حد، واللي يكلمنا أي كلمة نقطع له لسانه، الكلام واضح..”
ورفض الكونجرس قطع المعونة في ذلك العام، اعتبارا لحالة الصحة النفسية للزعيم ورؤيته المتضخمة لذاته، فكتب احد كبار الصحافيين في الصحف القومية تعليقا وشرحا للجماهير ” إن هذا دليل علي الخوف مما يمكن أن يصيب أمريكا إذا قطعت المعونة. صحيح ناس تخاف ولا تختشيش”.
هكذا أصبحت ثورة يوليو بين خطبة وضحاها اقوي من أمريكا فحسمت ربيبتها الأمر في خمسه عشر دقيقة من صباح الخامس من يونيو. فحسابات الزعيم ورجاله العظام هي نفسها حسابات ابن الحارة وفتوة الحته واجدع ناس. فالتراجع عند رجال يوليو ليس من الشهامة بل عمل من أعمال النسوان حتى ولو كانت حسابات القوه في غير صالحه. لهذا صمت عن الانسحاب الارتجالي علي مدي ستة أيام، اختفي أثنائها الزعيم وراء حجاب فلم يكلم يومها انسيا ثم عاد واستوي أمام الميكروفون ليتنحى. فسميت الحرب بزمنها والتي دخل بعدها الزعيم منتصرا في نهايتها إلي غرفة الإنعاش الأمريكي فقبل مبادرة روجرز واسلم الروح وسلم المصريين إلي مصير انتهي بحكم المفتي في نهايته بجواز شرب بول الإبل ورضاعة الموظف الحكومي الذي يرفل في نعيم بطالة التأميم الاشتراكي من زميلته في العمل البيروقراطي كأحد المكاسب الاشتراكية المؤجلة إلي زمن المشايخ ورجال الدين.
elbadryk@gmail.com
أين أصبح المصريون بعد 55 عاما من الثورة؟ ثورة يوليو كانت ثورة عظيمة استطاعت أن تحدث نقلة هائلة في مصر والوطن العربي ،ففي مصر بالتحديد من حيث معدلات التنمية والاقتصاد الصناعي والعدالة الاجتماعية وحدثت نهضة ثقافية في الستينيات من حيث غزارة الانتاج في كل من السينما والمسرح والدراما والانتاج الأدبي في القصة والرواية والمسرحية ، وفي الوطن العربي تم التخلص من براثن الاستعمار نتيجة دعم ثورة يوليو للعديد من حركات التحرر في العالم الثالث . ولكن أعتقد أن مأساة عبدالناصر لم تكن في عدم ديمقراطية نظامه فهناك العديد من البلدان التي استطاعت احداث تنمية حقيقية بدون نظام ديمقراطي سواء في… قراءة المزيد ..