خمسونَ طائرة حربية تركية، تخترق الأجواء العراقية في الشمال، تقصف قرى في محيط جبل قنديل، نقطة تمركز بعض قيادات ومقاتلي حزب العمال الكوردستاني، وتوقعُ قتلى وجرحى بين المدنيين الكورد في إقليم كوردستان العراق، فيما كانت تصريحات ” أردوغان ” المتضمنةِ مبادرةَ حلًّ للأزمة مع العمال الكوردستاني، تتمحورُ حول إصدار قانون عفوٍ، يكون مكملاً لقانون الندم الموجود سابقاً، لا تزال تتفاعل في الإعلام التركي. وجاءت الضربات الجوية لتقلبَ الطاولةَ على رؤوس المتفائلين والمستبشرين خيراً من تصريحات رأس الوزارة التركية، كما أنَّ الضربات الجوية تلك، والعمليات العسكرية البرية في كوردستان العراق التي أعقبتها، هي بمثابة ردٍّ تركي على مشروع الحل السياسي الأخير الذي طرحه حزب العمال الكوردستاني، وتضمنَ جملة حلولٍ لإنهاء العنف الدائر، تتلخصُ في:
– استعداد الحزب لوقف إطلاق نار مشروط بعفو عام تركي عن مقاتليه، والإفراج عن جميع قيادييه في السجون التركية، وقبول مشاركتهم في الحياة السياسية التركية.
– سحب القوات التركية من كوردستان.
– الاعتراف بالهوِّية الكوردية واللغة الكوردية.
– حلُّ ميليشيات ” حراس القرى ” الموجهة ضد حزب العمال الكوردستاني.
– اعتماد التنمية الإنسانية في مناطق كوردستان تركيا، وتوسيع صلاحيات الإدارات المحلية فيها.
– تحديد جدول زمني يتم الاتفاق عليه بين الطرفين، يشهد تخلياً تدريجياً من العمال الكوردستاني عن السلاح.
حتى الأمس القريب، كنا نقرأ في الإعلام توقعاتٍ تكادُ تكونُ جازمة، عن صدور قانون عفوٍ تركي، يكونُ نقطة انطلاقٍ لقبولٍ تركي بانخراط حزب العمال الكوردستاني في العملية السياسية بداخل تركيا، كجزءٍ من تسوية شاملة للأزمة العاصفة منذ أشهرٍ ثلاثة، والتي بقي من أطرافها تركيا والعمال الكوردستاني، بعد مغادرة العراق وإقليم كوردستان العراق من البوابة الخلفية للأزمة.
تلك التوقعات، حول تسوية تُرَتِبُ على كل طرفٍ التزامات لم يكُن لها ثمة أساس عقلاني. وأية ايجابية تركية وإن في حدها الأدنى لم تكن متوقعة قطُّ. فمن اختبر العقلية التركية والممارسات التركية طيلةَ عقودٍ من الزمن، حيالَ القضية الكوردية، ولا سيما ردودَ فعلها السلبية على جملة هدنات طُرِحَتْ في السنتين الأخيرتين، كان يدركُ أنَّ أي تغير تركي وأي تخلٍ تركي عن سلة اللاءات الرافضة هو ضربٌ من المستحيل.
(مبادرة أردوغان) والتي ستصدرُ كقانون بحسبما يصرِّحُ، هي مبادرةٌ أخرى إسقاطية وتصفوية للقضية الكوردية. وهي مبادرة إقصائية وإنكارية جديدة ونصُّ تصريحه يشي بذلك. فالهدفُ من المبادرة هو تقليص أعداد الملتحقين بحزب العمال في الجبال، ومحاولةُ القضاء على ذلك، وكذلك تشجيعُ المقاتلين على النزول من الجبال وتسليم أنفسهم للسلطات التركية، وكأنَّ المقاتلين في جبال كوردستان يقضون لحظات رحلة أو نزهة أو سيران، وليس بدافع من القضية المؤرقة لحكام أنقرة، وينتظرون فرمانا أردوغانيا ليعودوا أدراجهم إلى منازلهم وأهاليهم. كما أن الجملتين الأخيرتين في تصريح أردوغان، وهما : “أن المبادرة تأتي بالتنسيق مع المؤسسة العسكرية القوية” و”أن حكومته لن تتفاوض مطلقاً مع حزب العمال الكوردستاني” هي مفاتيحٌ إضافية لنا لنفهمَ أنَّ المبادرة / الخطة هي محاولةٌ أخرى للقفز فوق الحقيقة الكوردية في تركيا، واستمرار في سياسة دس الرأس في رمال الأوهام، وهي رفضٌ لمشروع حزب العمال الكوردستاني على الطريقة التركية. وجاءت العمليات العسكرية لتُجْهِزَ على مشروع حزب العمال ومبادرة أردوغان – لم يعدْ لتشريعها أيّ مبرر أو جدوى – معاً.
هنالكَ جملة أمور في الآناء الأخيرة توضح مواقف تركيا، المُغرقة في السلبية حيال القضية الكوردية، وقضية الديمقراطية الداخلية في تركيا:
– تحالف حزب العدالة والتنمية الحاكم مع حزب الله التركي، المتورط في قضايا إرهاب، طالت شخصيات ومثقفين ونشطاء كورد وأتراك، من أجل الإعداد للانتخابات البلدية القادمة، ونفض مقاعد بلديات كوردستان تركيا من أعضاء حزب المجتمع الديمقراطي، الممثل للمكون الكوردي.
– إجراءات المحكمة العسكرية التركية بحق الجنود الثمانية المختطفين، والذين أعيدوا إلى تركيا، وسجنهم بعد عودتهم، ومنع المحكمة نشر أي خبر يتناول التحقيق أو المحاكمة أو واقعة أسرهم في “داغليجا”.
– مسودة الدستور التركي الجديد، المُعدّ من قبل كتلة حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي، والخالية من أية إشارة إلى الكورد وقضيتهم ووجودهم التاريخي على أرضهم.
– إحالة حزب المجتمع الديمقراطي إلى المحكمة الدستورية، بغية حله قضائياً، كما حدث مع أحزاب خمسة سبقته.
عاجلاً أم آجلاً ستتوقف العملية العسكرية التركية. سنسمعُ حينها حديثاً تركياً عن انتصار ساحق وإنهاء الحزب العمال الكوردستاني، ثم سينحدر الانتصار من ملكوته التركي إلى مجرد نجاحٍ جزئي في لجم وتقليص قدرات العمال الكوردستاني، ثم بعد أسابيع أو أشهر معدودة سيكتشف المواطنون الأتراك، أنَّ بالونات الانتصار تنفجر وأن الوضع على حاله، ولم يطرأ أيما تغيير يُذكرْ. فحزب العمال الكوردستاني سيكونُ في أماكنه المعهودة الوعرة، بينما الحكومة التركية والمؤسسة العسكرية تتوسلان مجدداً إلى الإدارة الأمريكية من أجل التعاون في إنهاء حزب العمال الكوردستاني. وأنا هنا لا أطرحُ توقعات، ولا أقرأ في الفنجان التركي أو الكف التركية، ولكن أكرر فقط ما حدث سابقاً، عقب كل عملية عسكرية تركية خارج حدودها الدولية.
من مصلحة تركيا استقرار وضعها الداخلي، ولكن ذلك يتطلب برنامجاً للاستقرار، محطته الأولى خلق نوايا طيبة بين الطرفين، وتبدأ من إزالة الحكومة التركية حقول الألغام في مقاربتها للقضية الكوردية، يعقبها إجراء محادثات صريحة وجدية، انطلاقاً من أن كل مواجهة عسكرية تكون مقدمة لحلٍّ سياسي، سيما وأنَّ فرص التحرر السياسي والتغيير الديمقراطي مطروحة في الشرق الأوسط. وفي حالة تركيا كقطعة من فسيفساء المنطقة، هنالك حاجة إلى ضغط أوروبي، ينحو باتجاه وضع تركيا على سكة إصلاحات شاملة، في ملفات كثيرة متخثرة، أحدها الملف الكوردي. كما يترتب على الولايات المتحدة الأمريكية المتوغلة عميقاً في تضاريس المنطقة السياسية والعسكرية النظرُ إلى القضية الكوردية في تركيا بنفس المنظار الذي تنظرُ منه إلى الكورد في العراق، وإعطاء دفعٍ للأوالية السياسية، وقطع الطريق بالتالي على الخيار العسكري الذي أثبتت تجارب كثيرة على عقمه ولاجدواه.
mbismail2@hotmail.com
* كاتب سوري