من بيروت، حيث حرية التعبير سمة المجتمع اللبناني، حرص وزير الخارجية التركي داوود أوغلو على أن يقدّم، ربما للتاريخ، كشفاً سياسياً للدور الذي لعبته تركيا من أجل تفادي وصول سوريا إلى ما وصلت إليه اليوم.
حين حط «الربيع العربي» الرحال في تونس ومصر وليبيا، كان ذلك بمثابة «توجه عام يعصف بالمنطقة، على غرار ما حصل في أوروبا الشرقية ودول البلقان، إيذاناً ببدء مجرى التغيير في تاريخ المنطقة، والذي لا يمكن لأحد أن يوقفه»، حض القادة الأتراك الرئيس السوري بشار الأسد على قيادة عملية إصلاحية من الداخل. منطلق تلك النصيحة التركية أن أنقره ربطتها خلال السنوات الثماني الماضية علاقات مميزة، حيث أن أوغلو زار سوريا 62 مرة، ولعبت خلالها القيادة التركية دور المُحاور عن سوريا والمدافع عنها حين اشتدت الضغوطات عليها، من حرب تموز 2006 إلى حرب غزة 2008. راهن الأتراك أن الأسد قائد شاب وشخص محترم بنظر شعبه، قادر على القيام بأعجوبة في تحقيق تغيير ولو بطيء من الداخل، وعبر العلاقات المؤسساتية الثنائية، تقود إلى التحوّل المنشود في المجتمع السوري. فكان أن أبلغ رئيس الوزراء رجب طيب أردوعان الرئيس السوري أن تركيا تضع كل إمكاناتها في تصرف القيادة السورية لقيادة العملية الإصلاحية من الداخل، وجرى في نيسان الماضي رسم خارطة طريق مفصّلة، بناء على طلب دمشق، شملت المساهمة في إعداد قوانين لمكافحة الفساد واعتماد الشفافية وتطوير الإدارات المحلية وقانون للإعلام وقانون الأحزاب الذي يسمح بمزيد من المشاركة وقانون لتجنيس الأكراد. وطرح الأتراك على الأسد أن يعمل على إطلاق مصالحة وطنية تسمح لكل القوى المنفية بالعودة إلى سوريا وإجراء حوار.
كان جواب الأسد أن لا معارضة في بلاده، فعدّلوا الاقتراح بأن يصدر عفواً. طلب الأتراك من الأسد أمرين: عدم استخدام الأجهزة الأمنية الرصاص الحي ضد المتظاهرين، ومحاسبة من ارتكب تجاوزات في درعا، وحضوه على المشاركة في جنازات الضحايا بدلاً من دعوة الناس إلى دمشق، للتأكيد أنه إلى جانبهم وأنه لا يغطّي الأخطاء التي وقعت. كان الأسد دائماً يطلب فترة سماح من أجل أن يستعيد زمام الأمور والسيطرة على الوضع قبل أن يباشر بالإصلاح.
«“لم تكن لدينا أجندة أجنبية في مبادرتنا»… جملة كررها أوغلو أكثر من مرة خلال لقاء مع ثلة من الإعلاميين، قبل أن يغادر بيروت منتصف الليل. وفي قناعته أنه حتى شهري حزيران وتموز، لم تكن مطالب المتظاهرين إسقاط الرئيس. وهو نصح آنذاك الأسد ألا يقول إن الدولة تواجه مئات من افراد العصابات الإرهابية، لأن ذلك يعني إخفاقها وفشلها.
الدبلوماسي التركي الذي اشتهر بنظريته «صفر مشاكل»، تحدّث بمرارة عن اجتماع الساعات السبع المتواصلة التي أمضاها مع الأسد في آب في أعقاب الهجوم على حماة. في ذاك الاجتماع الذي شكّل المحاولة التركية الأخيرة قبل أن تنقطع العلاقات، جرى رسم خارطة طريق جديدة، هي شبيهة بمبادرة الجامعة العربية: الانسحاب من حماه ودير الزور، السماح للإعلام بالدخول، إعلان برنامجه في خطاب يليه استفتاء حول رفع المادة الثامنة من الدستور والشروع بانتخابات برلمانية نهاية 2011 فيُعدّ بعدها البرلمان الجديد دستوراً يخضع بدوره للاستفتاء، تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية. كان ذلك في شهر رمضان، فطلب أردوغان من الأسد من جديد ألا يتم استخدام الرصاص الحيّ واستهداف المساجد، ولا سيما أننا في هذا شهر المبارك. حين بدأ بالانسحاب في اليوم الاول، دعمنا هذه الخطوة، رغم الانتقادات من المعارضة والمتظاهرين الذين اعتبروا أن المبادرة هي إجازة لمزيد من القتل. لكن اليوم الثاني كان يوماً دموياً وجرى استهداف ثلاثة مساجد، وتضاربت أسباب الاستهداف في روايات المسؤولين السوريين. وظهر وكأن دمشق تشتري من أنقرة الوقت لمزيد من زهق الأرواح.
بعد القطيعة التركية – السورية، لم تتراجع أنقرة. عملت مع روسيا وإيران والجامعة العربية علّ الأسد يُصغي إليهم. وهي لا تزال على خطها من المساعي. بالأمس طلب أوغلو من الدبلوماسية الإيرانية إسداء «النصيحة الصائبة» إلى الاسد بأن يستمع إلى شعبه.
حركته الدبلوماسية الراهنة على خط طهران والمجتمع الدولي تهدف إلى خفض التوتر في ما خص الملف النووي. ثمة «وساطة» يقوم بها في هذا الشأن. تحدث إلى وزيرة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاترين آشتون ووافقت أن تلتقي مسؤول الملف النووي سعيد جليلي. وأبلغ الجانبين بالمسعى. وسيأتي نظيره الإيراني علي أكبر صالحي إلى تركيا لتحديد تاريخ الاجتماع.
حريص كان وزير الخارجية التركي على التأكيد أن بلاده ليس لديها مشروع طائفي سني في المنطقة. مسألة الأقليات مسألة توليها أنقره أهمية كبرى. أعطى أمثلة كيف أن أبواب تركيا كانت مفتوحة أمام شعوب عدّة اضطهدت، وأحياناً حصل ذلك على يد قادة سنّة (صدام حسين). المعيار هو الوقوف مع القيم الإنسانية في حماية المضطهدين. والربيع العربي لا يجب أن يؤول إلى معاناة الأقليات في العالم المنطقة. ولا يجب أن يُنظر إلى أي مجموعة مسيحية كمواطنين من الدرجة الثانية، سواء الأقباط في مصر أو الآشوريين في سوريا أو الموارنة والأرثوذكس في لبنان.
بدا جازماً أنه إذا حصل أي اضطهاد للأقليات في سوريا، سواء للعلويين أو الدروز أو المسيحيين، فان تركيا لن تتوانى عن حمايتهم واستقبالهم، تماماً كما فعلت مع السوريين الذين نزحوا إليها بفعل الاضطهاد، مرحباً باقتراح الرئيس أمين الجميل الذي طرح عقد اجتماع للقادة المسيحيين والمسلمين لبحث دور المسيحيين في المرحلة الجديدة في تركيا.
ولم يغفل عن دعوة اللبنانيين إلى الحفاظ على رصيدهم المتمثل بحرية التعبير وديموقراطية الانتخابات التي يأمل أن يراها يوماً في دمشق.
rmowaffak@yahoo.com
* كاتبة لبنانية