خرجت من منزلي في جبشيت بعيد صلاة الفجر، وبعد ليلة لم يذق الجنوبيون فيها طعم النوم، لأن حركة الطيران المروحي في سماء القرية والمنطقة كانت غير اعتيادية. في أعقاب عملية اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، وكنت قد سمعت ذلك من الراديو على جسر القائمقامية، لدى عودتي من قرية شحور حيث شاركت في تأبين الكادر الفتحاوي المثقف سعد أرزوني الذي توفي في باريس بحادث مرور، وتكلمت وقتها عن الأخطاء المتبادلة بين المقاومة الفلسطينية وحركة أمل، ما وضع الجنوب على حافة انفجار، وركزت، بحضور قيادات فتحوية، في مقدمتها الشهيد بلال قائد القطاع الأوسط في فتح وقتها والمميز نضالياً، على مسؤولية فتح التي لا يجوز لها بأي حال أن تنجر الى مسلكيات التنظيمات الأخرى، ولم أوفر أمل من ملاحظاتي، وتكلم بعدي بلال داوود داوود موافقين مع وعد بمزيد من الحذر والتدقيق.. ودّعت زوجتي ووالدي وأولادي بكلمات قليلة، وعندما أغلقت باب السيارة صحبني عبد الحليم عطوي فقلت له قد لا نعود أو قد لا أعود على الأقل، قال لماذا؟ قلت لأن هناك احتمالا قويا في أن يتم اجتياح إسرائيلي للجنوب، وهناك معلومات أنه قد يصل الى حدود الدامور، والغاية هي إخراج منظمة التحرير من الجنوب، بعدما عجز الجميع عن إدامة الفتنة بين أهل الجنوب والمقاومة الفلسطينية، أملا بإيصال الأمر الى حد المطالبة الجنوبية بإخراجها، ما كان يعني للإمام الصدر ولجميع العقلاء في الجنوب، أن المطلوب من الشيعة ارتكاب هذا الأمر، تلبية لإرادات دولية، ليكون سببا ملموسا لاتهامهم ـ الشيعة ـ بالخيانة ومعاقبتهم بتجريدهم من تاريخ تضحياتهم واحتضانهم للمقاومة في الظروف الصعبة. ولعل هذا ما كان من أسباب معاقبة الإمام الصدر بإخفائه بعد اغتيال كمال جنبلاط. لأنهما حرصا على الجمع بين الحفاظ على المقاومة والنقد الصريح والمخلص لها حفاظا على السلم الأهلي والدولة اللبنانية. كان المرحوم الشهيد الشيخ راغب حرب ضد انتظرنا في منزل صديق له في دير الزهراني، فاصطحبناه من هناك ومن صيدا عكفنا على منزل الدكتور علي الشامي لسبب لم يعرفه الشيخ راغب إلا لاحقاً… وهو أن الرئيس نبيه بري.. لم يكن قد أصبح وزيرا ولا رئيساً وقتها، قد طلب أن نلتقي في منزله في بربور، وكان الوسيط هو الدكتور الشامي. فتركنا الشيخ في منزل الدكتور نجيب عيسى، وذهبت بصحبة الدكتور الشامي إلى لقاء الأستاذ بري، الذي أغلق الباب واعتذر عن عدم استقبال أحد وجلسنا ساعة ونصف أصغيت خلالها إلى رسالة شفوية حملني إياها إلى طهران، وبلغته ما عاد السيد محمد حسين فضل الله أن كلفني إبلاغه إياه أكثر من مرة، بأنه، أي السيد، متحمس جدا لأن يكون الأستاذ بري زعيما سياسيا للطائفة، بكل ما يقتضي ذلك من التأييد والتسديد والتفاهم على كل شيء… ودعته وتكفل الدكتور الشامي بنقلي مع الشيخ راغب الى منطقة (الكولا) حيث حملتنا سيارة أجرة، وحدنا باتجاه دمشق قبيل المغرب، حيث كانت شوارع بيروت تخلو تدريجيا من الناس على إيقاع الطائرات الحربية التي استباحت سماءها بشكل غير مسبوق. قضينا ليلتنا في حي السيدة زينب. من دون أن يكون لدينا علم بما يجري في لبنان.. واتجهنا ظهرا الى مطار دمشق لنجد أنفسنا بين عدد كبير من الشخصيات اللبنانية المدعوة الى أسبوع الوحدة ـ ومناسبة مولد الرسول الأعظم ـ ويوم المستضعفين الذي كانت تعده وتديره وحدة حركات التحرر في الحرس بتوجيه من الشيخ المنتظري.
كان الجميع يحتملون أسوأ الاحتمالات ومن دون تحديد.. وعلى سلم الطائرة، في الثانية بعد ظهر يوم الأحد، أخبرنا الأستاذ وليد نويهض الذي كان ينصت إلى إذاعة (المرابطون) من راديو صغير في حوزته، ان الجيش الاسرائيلي قد وصل إلى قريتنا جبشيت. من دون أن تنسى إذاعة «المرابطون» ان تضاعف أعداد الشهداء وأن تؤكد أن مقاتليها يتصدون للعدو ويكبدونه خسائر فادحة ويعيقون تقدمه… ولكنه كان يتقدم.. ولكن عدد المتصدين قليل… كانوا أفرادا من حركة المحرومين وحركة فتح، استشهد عدد منهم ونجا آخرون، ما جعل جيش العدو يطلق النار على أي أحد أو شيء يتحرك.. فاستشهد الفتحاوي أحمد حرب الذي أعطب دبابة على مدخل جبشيت، واستشهد حسن بدر الدين والحاج خليل أخضر والحاجة فهدة فحص في جبشيت والأخوان بيروتي اللذان كمنا لأرتال العدو في سيارتهما التي احترقت وهما داخلها بفعل قذيفة مدفعية من جهة العدو ليتبين أن السيارة كانت تحتوي على ذخائر وألغام ومواد متفجرة.. وفي حاروف استشهد علي الملقب بالأفريقي بعدما شوهد كامنا على الطريق العام.. وبعد هذا لم تحدث إلا مواجهة واحدة، وان كانت أقوى المواجهات التي حصلت خلال الاجتياح في قلعة الشقيف (بوفور) التي أصبحت على مدى سنوات من تمركز الكتيبة الطلابية المميزة من فتح فيها، بقيادة عدد من القيادات العسكرية المميزة بدرجة التسييس العالية التي أحرزتها وبتجربة في القتال والحياة مع الناس لم يسبق لها مثيل.. وقد جرح قائد الكتيبة (معين الطاهر) وقطعت رجله، ولكن الشباب استمروا في المواجهة الشرسة التي كبدت العدو خسائر كبيرة، وأجبرته على استخدام قوة إضافية أكثر من مرة، وجعلت المعركة تستمر ثلاثة أيام بلياليها، وجعلت جيش العدو يصدر كتاباً خاصاً اعترف فيه بصعوبة المعركة واستبسال الشباب وطريقة إعدادهم للقلعة انتظارا للمعركة… ويذكر الأهالي من هؤلاء الشباب من تفرقت بهم السبل لاحقا، وان بقي أكثرهم على وضعهم وقناعاتهم ومسلكهم النضالي المميز، الى أن استشهد قسم منهم في معارك لاحقة، منها ما كان خالياً من التعقيد (مروان كيالي) ومنها ما كان فيه تعقيدات سوف يوضحها المستقبل (علي أبو طوق) وقد كانوا قد خاضوا معاً معارك نظيفة وظافرة سابقاً ضد العدو والعملاء في مارون الراس وصف الهوا وتلة شلعبون ورب ثلاثين والطيبة، وكان مناضلون من حركة أمل يشاركونهم بثقة واطمئنان الى الهدف والوسيلة معاً.
أصبح اهتمام المؤتمر محصورا بلبنان والسؤال: ماذا بعد؟ أو ما العمل؟
لاحظت أن هناك نية في محاصرتي أنا والسيد محمد حسن الأمين عقوبة لنا على انحيازنا وشغلنا في موضوع المقاومة. والذين تصدوا لذلك هم عدد من كوادر حركة أمل من ذوي الجذور التنظيمية الإسلامية والذين يبدو أنهم قد استطاعوا بناء علاقات خاصة وأشد عمقا وتفاهما من علاقات حركة أمل بالقيادات الإيرانية في الحرس الثوري ـ علي شامخاني تحديداً ـ وبعيدا عن مهدي هاشمي الذي كان القرار قد اتخذ بإبعاده وقد ظهر ذلك من ارتباكه في إدارة المؤتمر وارتباك المؤتمر الى حد ان مسؤول أمن المؤتمر (قلهكي) ـ طرد لاحقا من الحرس ـ قد تصدى بقرار فردي منه إلى مضايقة الصحافي التركي صديق ايران (جنكيز شندار) وصديقه صديق إيران ومرافق الإمام الخميني على الطائرة في باريس إلى طهران ـ ميشال نوفل ـ وأبلغهما بمنعهما من المشاركة ولوح لهما بالاعتقال!… وعندما تدخلت في الأمر احمرت عين الرجل عليّ، ولكن الأمر انقضى بسلام، وأنصف الرجلان.. وكانت حادثة مماثلة قد سبقت حيث كان الشيخ محمد مهدي شمس الدين في زيارة لطهران وقرر أن يزور المؤتمرين في فندق «استقلال» فمُنع من الدخول مع مرافقيه، بعدما كان الشيخ الخلخالي، قد فاجأ الحضور أمام الإمام الخميني في زيارتهم له في حسينية جمران، وصرخ بأعلى صوته متهماً الشيخ شمس الدين بالعمالة للسافاك… كما تعرض السيد محمد حسين فضل الله لاحقا إلى مضايقات من هذا النوع حيث قطعت الكهرباء عنه أثناء إلقائه خطابه في فندق (أنتركونتننتال ـ لاله لاحقاً) وأجريت معه مقابلات صحافية وإذاعية تعمدت إحراجه واتهامه بمعاداة إيران والإمام. وقد اتصل بي السيد شاكيا من أنه منع من مقابلة الإمام، وقد نجحت مساعي في تأمين اللقاء بعد أيام.. وكان صادق قطب زادة وفريقه قد حاصروني في مؤتمر التدخلات الأميركية لما يعلم قطب زاده عن كثب من علاقتي بحركة «فتح» وأبي عمار بعدما كان تنكر مبكرا لعلاقاته التاريخية مع القيادة الفلسطينية وتحول إلى مضايقتها في طهران لأسباب حقيقية أو مبالغ فيها أو مفتعلة.. وكان قطب زاده يدير المؤتمر باعتباره وزيرا للخارجية في أول رئاسة بني صدر الذي ظهر أثناء إلقائه خطابه في افتتاح ذلك المؤتمر وكأنه ثانوي جداً.
ربما كانت ممارستي للسياسة بمعناها اليومي هي التي مكنتني من الخروج النسبي من الحصار الذي ضرب حولي، بينما احتدمت المعركة بين السيد محمد حسن الأمين وأحد الشباب الذين كانوا على علاقة بسيطة بعملنا معا في إطار المقاومة في السابق، والذي أصبح من أوائل الأعضاء في الهيئات القيادية لحزب الله… والمضايقة الأشد لي وللسيد الأمين أتت من الشيخ عبد المنعم مهنا الذي وضعنا على حد الكفر لتعاطينا مع المقاومة، وأشد منه كان ذلك الحاج الذي ناضل نضالا عميقا وشريفا في صفوف حركة فتح، ولكنه ما لبث أن أصبح من أهل التكفير ودعاة الدولة الإسلامية في لبنان.. كان الشيخ راغب حرب أقرب الناس إلينا، إلى حد أنه قبل باقتراحي على المشايخ أن يلقي كلمة لبنان في المؤتمر، ومن دون أن أستشيره، كتبت نصا اقترحت عليه أن يلقيه وأنا عارف بمكوناته وعقله وعواطفه، فتحمس له كثيرا، وعندما تلاه على المشايخ اللبنانيين، وكان بينهم الشيخ صبحي الطفيلي والسيد إبراهيم الأمين، وافقوا عليه برضى تام ما عدا بعض المشايخ الذين رأوا جرعة المقاومة فيه كبيرة ولا داعي لها، وقد فسر البعض هذا الموقف السلبي من بعض المشايخ المعروفين الآن بأنه ربما كان يرغب في أن يكون هو خطيب الوفد اللبناني.. ولا أدري كيف وافق المشايخ على تكليفي بكتابة نص بيان تأسيسي للتجمع اللبناني لعلماء المسلمين، وكان أكثرهم حماسة الشيخ أحمد الزين الذي كنت أتواصل معه مع بداية الثورة وقبل انتصارها وقد شارك في تظاهرة عاشوراء شتاء 1979 في بيروت تأييدا للثورة في ايران وقد سار في طليعتها عدد من علماء السنة والشيعة. وعندما حملت صور التظاهرة الى فرنسا وقدمتها للإمام ابتسم وقال: كل هذا ضد الشاه؟ ثم عد المشايخ المشاركين ولاحظ أن عدد السنّة يزيد على عدد الشيعة بواحد.
كتبت البيان وألقاه الشيخ الزين وقبله الآخرون واتفقنا على العمل معا لمواجهة استحقاقات ما بعد الاحتلال.. وقد بقيت في طهران وقتها وكان تواصلي مع التجمع محدودا عبر الشهيد الشيخ راغب رحمه الله (في سنة 2007 م ذهبت إلى فندق استقلال لزيارة الوفود العربية المشاركة في أحد المؤتمرات فالتقيت الشيخ أحمد الزين مع عدد من أعضاء الوفود خارجا لزيارة مسؤول في طهران، فأخذني من يدي ودعا المشايخ لمتابعته ووقف في إحدى زوايا الفندق وقال لهم: هنا كتب السيد هاني بيان التأسيس الذي ألقيته).
أوراق من دفتر ذكريات طويلة.. إلى طهران في أول أيام العدوان (1 ـ 2)
حاجه غريبه الدنيا لها طعم جديد حاجه غريبه انا حاسس انو دا يم عيد وانا حاسه الدنيا هربانه ويانا بليل كلو سعاده ليله فرحه حلوه