ظهرت الحركة النقابية المصرية مع بداية القرن العشرين، وقطعت مسيرة شاقة، وكانت تعمل بطريق الخطأ والتجربة، ورزقت في العشرينيات تأييد محمد فريد، رئيس الحزب الوطني، الذي عُنى أيضًا بتكوين مدارس الشعب، واستطاعت في الأربعينيات أن تؤسس عددًا صغيرًا من النقابات الكبيرة وعددًا كبيرًا من النقابات الصغيرة.
وفي شبرا الخيمة استطاعت نقابة عمال النسيج بقيادة طه سعد عثمان أن تكبح جماح الاستغلال وأن تحمي حقوق العمال، وأن تمارس إضرابات ناجحة، وفى السويس استطاعت نقابة البترول أن تمارس نوعًا من المفاوضة الجماعية مع شركات البترول بفضل رئاسة أنور سلامة، وكان أنور سلامة عضوًا في الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، كما لم يكن طه سعد بعيدًا عنها، وقد لقيته أول مرة في أواخر الثلاثينيات في دار الإخوان، كما رزقت شركة السكر رئيسًا مكافحًا، وكان عضوًا بالجمعية الشرعية.
ولما تنبه العمال إلى أن تأسيس النقابات على أساس المصانع حتى لو كانت كبيرة لا يمكنها من معالجة شروط العمل التي تحدد على مستوى الصناعة وليس على مستوى المصنع، أسسوا اتحادات مهنية مثل اتحاد عمال النسيج واتحاد عمال النقل.
وكان يمكن لهذه المسيرة أن تتقدم لولا أن قطعتها حركة ٢٣ يوليو التي بدأت عهدها بفض مظاهرة كانت قد قامت تأييدًا للحركة، ولكن الحركة ظنتها إضرابًا قام به عمال النسيج بمصنع كفر الدوار، فشكلت محكمة أعادت إلى الأذهان محكمة دنشواي التي أقامها كرومر وأصدرت حكمها بالإعدام على زعيمي العمال خميس والبقرى، وحاولت حركة ٢٣ يوليو أن توجد بديلاً عن النقابات في شكل اللجان القومية للعمل والعمال بالاتحاد القومي التي رأسها الضابط طعيمة، ولكن العمال تمسكوا بنقاباتهم فسقطت هذه اللجان.
وجاءت الساعة الحاسمة عندما قرر النظام التحول للاشتراكية، وكان مما يتطلبه ذلك أن يأخذ التنظيم النقابي بالدور الذي وضعه لينين للنقابات في المجتمع السوفيتي، وهو استلحاق النقابات بالحزب الحاكم بحيث تكون بمثابة «السير ناقل القوى» من الحزب الذي هو الدينامو والمحرك إلى الجماهير العريضة، وكان هذا الوضع يحرم الحركة النقابية من حرية العمل ويجعلها مجرد سير ناقل يتخذه الحزب، كما كان الاتحاد السوفيتي يأخذ بمبدأ «النقابات الصناعية»، أي أن كل الذين يعملون في صناعة واحدة يكونون نقابة واحدة فحسب،
وهكذا فعندما صدر القانون رقم ٦٢ لسنة ١٩٦٢ أوجب العضوية في الاتحاد الاشتراكي كشرط للترشيح في القيادات النقابية فارتبطت القيادات النقابية بالحزب، ولو غضب عليها الحزب لحرمها من عضويته ولسقطت صفتها النقابية أيضًا، كما كان من مقتضيات هذا التنظيم تركيز السلطة في الهيئات العليا أي في النقابات العامة والاتحاد العام، مع تجريد القاعدة من حرية العمل، وعندما طبق هذا التنظيم تذبذب عدد النقابات العامة ما بين ١٦ و٢٣ حيث هو الآن.
وفى التنظيم النقابي الصناعي يمكن لنقابة مثل نقابة عمال النقل أو نقابة عمال الزراعة أو نقابة عمال الصناعات الغذائية أن تصل العضوية فيها إلى مليون عضو، وبداهة فإن تنظيم هذا العدد وتوثيق الاتصال به يتطلبان كادرا يتفرغ ويتخصص في هذا، وفى الدول الأوروبية يطلق على هذا الكادر «المنظمون» وهم نقابيون يُفرّغون لتوثيق العلاقات ما بين فروع النقابة العامة وقيادتها وعادة ما يزود هؤلاء بثقافة عن هذا النوع من النشاط، ولم يُعن المسؤولون المصريون الذين وضعوا هذا النظام، ولا القيادات النقابية التي أخذت بالتنظيم النقابي بهذه المشكلة، لأنها لم تكن تهم المسؤولين في الحزب، ولا المسؤولين في القيادة النقابية، وإنما المهم أن تكون القيادة النقابية مطيعة وملتزمة وتُسيّر جميع الأعضاء طبقًا لما يريده الحزب، ولما كان القانون يجعل الإدارات تخصم الاشتراك وترسله للنقابة العامة، فلم تجد النقابة العامة ما يجعلها تتحرك لاستدراك هذا النقص الشنيع في التنظيم النقابي.
وطوال ثلاثين عامًا من العمل في الثقافة العمالية على أعلى المستويات، حاولت أن أوجد شعبة للمنظمين النقابيين في معهد الدراسات النقابية بالدقي، وبعد مطاولات عديدة قدمت صورة من برنامج «المنظمين»، وكان القادة النقابيون في النقابات العامة هم أول من رفضوه، وقال لي أحدهم – عبد اللطيف بلطية – «أنا أول واحد لن يرسل لك دارسًا»، وكان الذي حمل هؤلاء السادة على ذلك هو خوفهم من أن تصبح النقابة قوة حقيقية، وأن يكون للقاعدة كيان، في حين أن كل ما كانوا يريدون هو تطبيق سياسة الحزب الحاكم الذي جاء بهم والذي يمكن أن يقتلعهم بحرمانهم من عضويته فتسقط عضويتهم النقابية.
والحقيقة أن الحكومة كانت سخية مع القيادات النقابية، وكان لابد أن تصطنعهم تمامًا حتى يحققوا سياستها بصرف النظر، بل حتى لو كانت معارضة لمصلحة العمال، فإنها قدمت لهم منحًا عديدة، فأقامت مبنى الاتحاد العام للعمال بشارع الجلاء وقدمته هدية، ومنح الرئيس السادات الاتحاد العام القرية السياحية التي تبلغ مساحتها ثلاثمائة ألف متر على الشاطئ الشمالي بعد مطروح،
وكان سعد محمد أحمد، رئيس الاتحاد يريد أن تكون في الشتاء «مصيفًا» للسائحين وفى الصيف «مصيفًا» للقيادات العامة، واشترت الحركة النقابية أربعين ألف متر في مدينة نصر في أثمن موقع، قاعدة شارع عباس العقاد مع التقائه بشارع النهضة، بخمسة جنيهات للمتر لتقيم عليه الجامعة العمالية، كما منح الاتحاد «المؤسسة الاجتماعية» بشبرا الخيمة، وقد كانت أحد قصور محمد على، وكانت وزارة العمل تقدم للاتحاد مليوني جنيه دعمًا له،
وفى الفترة الأخيرة قدمت مؤسسة “فريدريش إيبرت” الألمانية معونات بمئات الألوف ليمكن بناء الجامعة العمالية، كما كان القسم الخاص بأفريقيا في اتحاد النقابات الأمريكية يمول دورات عديدة، فأصبحت الثروات تنهال على القيادات من كل حدب وصوب، وأصبحت الخدمة العامة «يغمة» و«أرزقية» بمستوى عال، مستوى الملايين.
أصبحت الحركة النقابية عقيمة، بقدر ما أصبحت القيادات النقابية متخمة، وأصبحت هذه القيادات لا تعمل للعمال ولكن للحكومة ولأصحاب الأعمال ضد العمال، وقالت صحيفة «الدستور» عن حسين مجاور «حاول إخماد الحركة النقابية بشتى الطرق ووقف في صف أصحاب الأعمال، ولكن جهوده باءت بالفشل وامتدت عدوى الإضراب إلى الحركة النقابية».
وصورت جريدة «البديل» شيكًا بمليون جنيه من شيكات عديدة أخرى – أرسلت لحسين مجاور – مكافأة مالية لعضوية مجلس إدارة بعض الشركات، وليس هذا بكثير عليه، فالحقيقة أنه كان المهندس الأول لكل القوانين التي سنتها الحكومة لتحقيق سياستها الاقتصادية التي كانت تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرًا، وتعلى يد الإدارات على يد العمال.
لا يمكن تقدير جريرة ذلك ليس فحسب على العمال، ولكن على البلاد ككل.
إن العمال المنظمين في نقابات هم الجيش المدني للشعب، وما نقاباتهم إلا ثكنات هذا الجيش الذي يتحرك إذا أصيب الشعب بما يهدد تماسكه، أو بما يستبعد العدالة، وهم بعد القوامون على الإنتاج.
فلو كانت الحركة النقابية حرة، لما نهبت البنوك، ولما زيفت الانتخابات، ولما أصبح التعذيب في أقسام البوليس طبيعيًا يمارس على كل من يدخل قسمًا أو نقطة بوليس.
لو كانت الحركة النقابية حرة لما حدثت حرب ١٩٦٧ المخزية.
لو كانت الحركة النقابية حرة لما بيعت الشركات والمصانع والبنوك لمستثمرين أجانب، بحيث عاد الاقتصاد المصري إلى ما كان قبل طلعت حرب «كل شيء للأجانب».
لو كانت الحركة النقابية حرة لما استشرى الفساد، لأن العمال قوامون على العمل ويعلمون أسراره، وكان يمكن أن يكشفوا الفساد أولاً بأول، وبذلك يضعون نهاية له.
لو كانت الحركة النقابية حرة لما سمح بدخول المبيدات المسرطنة، والأسمدة الفاسدة، والمواد الغذائية التي تصيب المواطنين بالأمراض.
إن النقابات «الأرزقية» ضحت بمصلحة الوطن وبمصلحة العمال لأنهم أرادوا أن يكونوا جزءاً من النظام الحاكم، وليس الشعب المحكوم.
■ ■ ■
اليوم يبدأ عمال الضرائب العقارية النقابية الشرعية حقاً، ويرأسها مكافح عريق من أيام الثمانينيات «كمال أبوعيطة»، وله ماض طويل من الكفاح، وقد توعده «زكى بدر» في أحد الاجتماعات العامة «عموماً يا عيطة إن شاء الله حتكون ليلتك سودة»، ولكن الله تعالى كان يدخره لمثل هذا اليوم، بينما كان يسدل أستار النسيان على زكى بدر الذي أصبح اليوم نسياً منسياً.
نقول للنقابة مبروك وإلى الأمام، ولن تستطيع الحكومة كلها أن تفعل شيئاً، لأن الحق والشرعية معك.
بل إن الأمر لن يقف عند هذه البداية، فقد فتحت الأبواب وستظهر نقابات عديدة.
مع هذا فلابد من أن نقول إن تحديات عديدة تجابه هذه النقابات الجديدة.. تحديات التنظيم الجيد.. تحديات العمل الفني المدروس، فالإيمان والإخلاص يمكن أن يأتيا بنقابة جديدة، ولكن العلم والتنظيم هما اللذان يكفلان نجاح هذه النقابة الوليدة.
إن التحدي الحقيقى هو أن تتعلم النقابات الجديدة «فنية» العمل النقابي حتى تأمن الوقوع في الأخطاء أو تكرار البدايات.
أريد أن أطمئن القيادات النقابية.. إن الثقافة التي تمكنكم من القيادة الرشيدة موجودة ويمكن أن تفيدوا منها، إنني بقدر ما كنت يائساً من الحركة النقابية «الأرزقية»، بقدر ما لم أيأس من ظهور حركة نقابية حرة، وأردت أن لا تجد هذه الحركة نفسها محرومة من الثقافة النقابية الفنية، وهكذا كتبنا «تاريخ الحركة العمالية المصرية عبر مائة عام» (٧٠٠ صفحة)، و«الحرية النقابية» في ثلاثة أجزاء (٧٠٠ صفحة)، و«التاريخ النقابي المقارن»، و«تاريخ الحركة العمالية الدولية»، و«التنظيم والبنيان النقابي»، و«نحو تعددية نقابية دون تفتت أو احتكار»، و«حق الإضراب».. إلخ.
هذه المراجع في خدمتكم إذا أردتم تعزيز الشرعية النقابية بالعلم والتنظيم ودراسة التجارب النقابية.. إلخ، بحيث تختلف نقاباتكم عن النقابات «الأرزقية»، وفى حي باب الشعرية الشعبي يوجد مخزن به آلاف النسخ من هذه الكتب تنتظر الذين يريدون النقابية على علم وفنية وبصيرة.
نقلا عن “المصري اليوم”