يكذبون كثيراً أولئك الذين يريدونكَ، أنْ تحيا سعيداً لِمجرد أنّهم سعداءٌ، بمعتقداتهم وأوهامهم واستعراضاتهم وماضويّاتهم. إنّهم فقط سعداءٌ بما هُم عليه، لأنّهم لا يملكون تغييره أو تبديله أو إلغائِه. إنّهم حتّى في هذه يكذبون، لأنّهم يعتقدون بأنّها حقيقتهم المطلقة، بينما قد يرونَ الحقيقة ماثلةً أمامهم في أكثر من اتجاهٍ وأفق وطريق، ولكنّهم ينكرونها تعمّداً وتجاهلاً، ليس لأنّهم لا يريدونها، بل لأنّهم يخشوْنها. يخشوْنَ أنْ تحررهم من التزامهم بمعتقداتهم وماضويّاتهم وأوهامهم ويقينيّاتهم الجماعية، ومنقولاتهم التراثيّة.
إنّهم لا يعرفون حتّى كيف عليهم أنْ يكونوا سعداءً، لأنّهم يظنّون أنّهم قد حصلوا عليها مسبقاً، بمجرد أنّهم قد وُلِدوا على ما وجدوا فيه آبائهم وأجدادهم. فالسعادة في حاضرهم، ليس أكثر مِن التزامٍ بماضويّاتهم ويقينيّاتهم، الالتزام الذي يفرض عليهم يقيناً ثابتاً لا يتغيّر مهما كانت الوقائع والحقائق أمامهم كثيرة وساطعة ومتعددة ورحبة. إنّهم حتّى في هذه يكذبون، لأنّهم يلتزمونَ بما ألزموا أنفسهم عليه مسبقاً ويقيناً مطلقاً، وليس بما اقتنعوا به اختياراً وإدراكاً ووعياً وتفكيراً وتفلسفاً.
تحيا سعيداً كلّما وجدتَ نفسكَ جديداً في عقلكَ وفهمكَ ووعيك. إنّكَ هنا لا تكذب في سعادتكَ، لأنّكَ تعايشها في ذاتك، وتحياها فكراً وتفكيراً وتجدداً، وتتلمّسها عميقاً في أسلوبكَ وطريقتكَ، وفي اختياراتك واجتراحاتك وابداعاتك، وتجني من ثمارها، أجمل اللحظات التي ترى فيها ينبوعاً من صفاء الفهم، يأخذكَ حرَّاً طليقاً إلى معانيكَ وأفكاركَ وتصوّراتك. وتعرفُ في الوقتِ ذاته، أنّكَ لن تنجز شيئاً حقيقياً، إلاّ إذا كنتَ تستطيع أنْ تملكَ سعادتكَ في حريّتكَ واختيارك وفهمك. بينما أولئك الذين يتوهّمون السعادة، ويكذبون في الحصول عليها، يظنّونَ دائماً، أنّ سعادتهم في ثباتِهم على حالهم، وفي ترديد يقينيّاتهم المتوارثة، والتأكيد عليها. إنّهم لا يحاولونَ جديداً، ولا يفكرونَ جديداً، ولا يختارونَ جديداً، ولا يتعلّمونَ جديداً، إنّهم يقبعونَ في سعادتهم المتوهّمة، وكأنّها فوزهم العظيم.
أنتَ لا تكذبُ في سعادتكَ، حين تستطيع دائماً أنْ تمنح حياتكَ بعداً عقليّاً وفلسفيّاً وفنيّاً. لأنّك تعرف أنّ الذات الإنسانية معرّضة دائماً للنكسات والأوجاع والهشاشة، ومن خلال حياتك الفلسفية والعقليّة والواقعيّة، في النظر إلى الوقائع والمجريات والتحوّلات، تستطيع أنْ تتفهّم حاجتكَ إلى أنْ تكونَ سعيداً وقويّاً وصلباً، لكي تمضي هنا وهناك. ولذلك أنتَ تذهبُ إلى يومكَ، وكأنّكَ تعيش كلّ وقتكَ الذي لم تعشه من قبل، لأنّك مسكونٌ برغبتكَ في أنْ تمنح وقتك الجديد جلّ اهتمامك، وتجعله مفعماً بالتفكّر والتفتّح والتأمّل والتجربة. إنّه وقتك الذي تعرفُ أنّه جديدك في التفلسفِ والتبصر، وهو وقتك الذي تشعر من خلاله بسعادتكَ، في كونكَ عارفاً بحالك، ومتفلسفاً في أمورك، ومتفكّراً في أفكارك، وواعياً في اختيارك وقرارك، وحرَّاً في عقلك. وتعرفُ أنّه ليس من السَّعادة، أنْ تعرفَ كلّ شيء، بقدر ما تعرفُ تماماً، كيف عليكَ أنْ تتجنّب السقوط في بلادة الأفكار وسذاجة التفكير وضحالة الفهم.
أنتَ تحيا سعيداً، بقدر رغبتكَ الخلاّقة في حياةٍ جميلة ومضيئة ومبدعة. ولذلك تعرفُ جيّداً حاجتكَ الدائمة إلى التفلسفِ، وإلى الفنّ والأدب والفكر. إنّكَ لا تكذب هنا في سعادتك، لأنّك تسعى كثيراً إلى ذاتك، من أجل أنْ تبقى زاخرة بجماليّات الفنون الإنسانيّة، وبإبداعات الأدب والفكر الإنسانيّ. فالحياة الجميلة المتطلّعة للسَّعادة، يقابلها بالتأكيد الاستمتاع بأجمل الفنون والإبداعات الفلسفية والفكريّة، ذلك لأنّ الذات هنا تستقي فنونها في السَّعادة، من فنونها في الإبداع والتفلسفِ والتفكّر. وانطلاقاً من هذه الفكرة، عادةً لا تتردَّد في تركِ كلّ ما ليس حقيقيّاً، وتكون حازماً في ذلك، لأنّك تعرفُ واعياً، أنّ ما ليس حقيقيّاً في تكويناته الجوهريّة، وفي أبعاده وتأثيراته، لا يجلبُ لك السَّعادة، ولا يُمكن له أنْ يمنحكَ المستوى الحقيقيّ من التعالق الإبداعيّ مع أفكاركَ وتفكّراتك واجتراحاتك. إنّكَ هنا تملكُ سعادتك في ذاتك الواعية والمتبصرة، وتحيطها بعلمكَ ومتابعتك ورعايتك، ولكنّك في الوقتِ ذاته، لا تدافع عنها تعصَّباً وتزمتاً، وكأنّك قد وجدتَ فيها خلاصاً للبشرية، بل ترى فيها اجتهادك الفلسفيّ، ومستوياتك التفكيريّة، وميولك الثقافيّة.
يحدثُ كثيراً أنّكَ تبحثُ طويلاً عن شيءٍ ما، وتحسبُ أنّ فيه سعادتك، وقد لا تعرفُ على وجه التحديد، ما هو هذا الشيء، إلى أنْ تكتشف أنّه الشيء الذي يعيدكَ سعيداً ومنشرحاً إلى ما كنتَ تفتقده دائماً. إنّها بالتأكيد غريزتك المعرفيّة في اكتشاف جديدكَ، وفي التقصَّي عن الأشياء التي تعينك مباشرةً على فهم ذاتك، من حيث إنّها مفتاح الانفتاح على الحياة والأفكار والفلسفات وطرائق التفكير. إنّك هنا لا تكذبُ في سعادتك، لأنّك تراها ماثلةً في سعيك المعرفيّ الدائم عن كلّ ما يجعل عقلك منفتحاً على جديدك واكتشافاتك، لا تركن إلى التفسيرات الجاهزة والسائدة حول السَّعادة، بل تنفتح على تجربتكَ الذاتية في البحث عن أساليبكَ الملهمة، وعن أفكارك الخلاّقة، وتدفعكَ غريزتك المعرفيّة هذهِ إلى تبنّي السؤال، سبيلاً إلى إجاباتكَ المنفتحة دائماً على فضاءات النقد واللايقين. وفي سؤالك المعرفيّ، أنتَ تؤكّد على شغفك الجميل بالحقيقة، فالسَّعادة لا تعني أبداً نفي الحقيقة، إنّما تعني سعيك الفلسفيّ إلى اختبارها وجوداً حقيقيّاً في ذاتك وعقلك، وفي تخلّقاتك المعرفية وفي تساؤلاتك وانشغالاتك الفكريّة. ولذلك تعرفُ تماماً، أنّ لا أحد سيعيش حياتك، فقط تهتمُّ مبدعاً في أنْ تعيشها وتحياها بكلّ حريّتك وشغفك ومتعتك، وتعرفُ إنّك إنْ لم تعشها هكذا، فلا معنى لها في حياتك وفي فلسفتك.
السَّعادة في فلسفتك، تعني دائماً تحرَّرك الواعي من أوهامك. تلك الأوهام التي تحاول دائماً أنْ تجرَّد عقلك من التفكير والاختيار والقرار، وهي الأوهام ذاتها التي تجعلك معتقداً ومتعصّباً، لكلّ ما ليس لكَ حقٌّ في نقدها أو نسفها أو التخلّي عنها. إنّكَ تتحرَّر منها، لأنّك تنزع عنها القداسة الواهمة، وتعرفُ إنّكَ كلّما قطعتَ شوطاً في التحرر منها، وجدت نفسكَ أكثر قرباً من نيل حريّتك واختيارك، وأكثر معرفةً باجتراح أسلوبكَ وطريقتك في الحياة. وكم تعلم حينها إنّكَ تستطيع أنْ تهزم مخاوفك بالعقل والتفكير، وتواجهها بالفكر والمعرفة، وتدرك تالياً كم أنتَ مختلفٌ عن ما كنتَ عليه في الأمس، واسع التفكير، ومنفتح البصيرة، وطليق الفِكر، لأنّك لا تتوقّف عن ممارسة حقّكَ في التحرر من الأوهام، وفي التغيير. وفي الوقتِ ذاته تتمسَّك بحقّكَ كاملاً في تبنّي فلسفتك الذاتيّة حول السَّعادة، وإنّك في كلّ هذا، تستخلص حرَّاً تلك المعاني الجوهريّة من تجربتكَ الذاتيّة الفكريّة، في تعالقاتها المعطاءة، تفسيراً ومعنىً وأسلوباً مع مساعيكَ المعرفيّة هنا وهناك.
وتَعي مدركاً، أنّ حقّكَ في تبنّي فلسفتك، يساوي حقّكَ في وجودك سعيداً. لأنّكَ أصبحتَ تعرفُ أنّ حقّكَ في هذا وذاك، يعادل حقّكَ كاملاً في الاختيار والقرار. إنّك سعيدٌ في فلسفتك، وفي مقابل هذا، أنتَ سعيدٌ في اختيارك، وما تريد أنْ تعرفه فلسفيّاً، تُظهرهُ حرَّاً في اختيارك وتفكيرك وأسلوبك. إنّكَ تختبر وجودكَ سعيداً، في قدرتكَ الفلسفية المعرفيّة على اجتراح اختيارك، من حيث أنّكَ في هذا المسعى، تتأكّد من أنّكَ تتعافى دائماً من اعتلالات الثقافات اليقينيّة والتلقينيّة، واعياً في الوقتِ ذاته، أنّ هذا الأمر يعكس حقيقة سعادتكَ في اختبار الحرية والاختيار. إنّك لا تكذب هنا في سعادتك، لأنّك تتلمَّسها اجتراحاً وقراراً واختياراً وأسلوباً في فلسفتك، ولأنّك لا تسير بها في طريق مسدود بالانغلاقات والاستحكامات اليقينيّة المطلقة، بل تملكُ من خلالها رؤيةً واسعة، تدفعكَ إلى رحابةٍ شاسعة.
في فلسفتك هذهِ، تشعر أنّكَ تولد سعيداً في كلّ مرَّةٍ. لأنّك تستطيع من خلالها أنْ تُرمّمَ ما قد يتداعى منك هنا وهناك وأنت في مسعى التطلّع والانجاز. ولذلك تستطيع أنْ ترى أفكاركَ وفلسفتك، وما أنتَ شغوفٌ به، تراها كما تحبُّ أنْ تراها دائماً، باعثةً على الأمل والتأمّل والتفاني والجمال والإبداع. إنّكَ تختار سعادتك هنا، لأنّكَ تختار حرَّاً أنْ تكونَ منفتحاً على تجربتكَ في أفق الحياة الوامضة، وفي كلّ هذا أنتَ في الأساس تختبر قدرتكَ الذاتيّة على تخليص ذاتكَ من شرور الانغلاق والتعصَّب والجهل والبؤس والتراجع. وتعرفُ في الوقتِ ذاته، أنّك حينما تؤمنُ بخلاصكَ هذا، قد لا يكون كافياً أبداً، فتسعى واعياً ومتفكّراً وناقداً إلى أنْ ترى ما قد تُظهرهُ لك فلسفتك هذهِ بين الحين والآخر، على أنّه خلاصكَ الذي يمنحكَ حريّتكَ الكاملة في فهم المعنى من تخلّقاتك واجتراحاتك، وما تريد أنْ ترتبط به فكراً وتألقاً وإبداعاً وتفنّناً وجمالاً.
أنتَ تحبُّ فلسفتك هذهِ، وتمضي في أنْ تحيا سعيداً فيها. لأنّك تمارسها وتعايشها، شغفاً وأسلوباً وتطلّعاً، وتعرفُ أنّه بمقدار ما يتوفّر من الحبّ في أفعالك وقلبكَ وأسلوبك، تتوفّر السَّعادة في تعالقاتك المميّزة توافقاً وانسجاماً مع فلسفتك. فأنتَ هنا ترى في سعادتك حبّاً، يجعلكَ أنْ تتأكّد أنّه من غير الحبّ لفلسفتك وفي فلسفتك، تنطفىء في أعماقك الرغبة والشغف والحلم. وتعلمُ أيضاً إنّكَ في هذا المعنى تحديداً، حين تؤمن بالحبّ خلاصاً في فلسفتك، تستطيع أنْ تستشعر في إنسانيّك جمال السَّعادة، وتراها تتمثّل طريقاً في اجتراحاتك وتطلّعاتك. ولذلك أنتَ بين الحين والآخر، تتأكّد من وجودك مبصراً ومتفكّراً في أفق الرؤية، ترعى سعادتك في رحابة حريّتك، وتدعها أنْ تختبر فيكَ رصانة المعنى وجمال الفهم، وتدفعكَ راغباً إلى إيجاد الحياة المعطاءة، والوافرة بدوافع الشغف والحبّ والحلم. والرغبة هنا في سعادتك، تعني تحديداً أنْ تملكَ معرفتك بجوهر كونكَ سعيداً في فلسفتك، وتتلمسَّها معنىً وأفكاراً وطريقاً وتقدَّماً في انتصاراتك على الانكسارات والتّوقّفات والتراجعات والعثرات هنا وهناك، وفي كلّ هذا تجد أنّكَ تحيا سعيداً في فلسفتك، لأنّها تدفعك دوماً إلى أنْ تكون مخلصاً لكلّ ما تريده أنْ يبقى جميلاً ومضيئاً وثرياً ومعطاءً ورحباً في أعماقك.
Tloo1996@hotmail.com
*محمود كرم كاتب كويتي
جميل جميل جميل .. فالسعاده تكمن في التحرر ، والعبيد سعادتهم مرتبطه بمخاوفهم حتى من ممارسة حريتهم