“داعش” تقوم بوظيفتها على أكمل وجه. “داعش” الشماعة التي عُلقت عليها مهمة القضاء على الثورة السورية، بعدما وُجِدت طرق أخرى للقضاء على الثورات في مصر وليبيا واليمن. سُوقت لنا “داعش”، التي يتركونها تصول وتجول في الصحاري الخالية والمكشوفة، كبعبع القرن الطالع. إنها أكبر ورقة توت اختُرعت لتغطية عورات النظام العالمي المتهالك والأنظمة العربية المتواطئة والمقسومة أسراً وعائلات وزمراً عسكرية أو دينية حاكمة.
تسلمت “داعش” الآن تدمر للتغطية على مجزرة حلب وما سيليها من فصول.
يزعم “الرئيس” السوري “المنتصر” أن ما قبل حلب ليس كما بعدها.
لا شك في أنه مصيب بذلك؛ فما قبل حلب عالم توهمنا فيه بوجود قيم أخلاقية وعدالة دولية. ما بعدها عالم متوحش انقلبت فيه المعايير؛ عالم يمجد القتل والقاتل ويعيش في التوريات: التدمير = التحرير، والاحتلال = محاربة الإرهاب وهكذا…
الإنسانية فقدت إنسانيتها وخسرت نفسها؛ جميع المنظمات الدولية والأوروبية والعربية والإسلامية أفلست. صحيح أن أخبار القتل والمجازر تملأ بطون الكتب وسير الشعوب وذاكراتها؛ لكنها كانت مجرد أخبارٍ يتم تناقلها فتقشعر لها أبدان السامعين. لكن أن تُترك مدينة بسكانها جميعاً من أطفال ونساء وشيوخ تعاني ما عانته حلب وتحت أنظار العالم أجمع القادر على نقل وقائعها، والقادر على متابعتها دقيقة بدقيقة، وعلى متابعة موت طفلة وهو يكاد يشم رائحة الشواء الذي لم تطفئه أمطار ولا برد الشتاء؛ بالرغم من التعمية والتضليل، أمرٌ غير مسبوق في تاريخ البشرية.
ليست روسيا ولا ايران ومن معهما من يقتل. إنهم مجرد أدوات اختبأت خلفها القوى العظمى. مجرد واجهة هشة تتوارى خلفها الولايات المتحدة وجميع الدول الممثلة في جمعية الأمم المتحدة.
الجميع متواطئ ومجرم.
سقوط حلب محطة في معركة مخطط لها: من الحصار والتجويع الممنهج الى استهداف العيادات والمستشفيات والمدارس والطوابير أمام المخابز؛ تمهيداً للقتل والسلب والنهب والفظاعات العصية على الوصف. وكل هذا موثق ومسجل وموزع على البشرية كي تتمتع بمشاهدته. عودتنا هوليوود على فظاعات العنف بحيث بتنا نعتقد كل ما نراه مصوراً مجرد صورة وهمية وتمثيل.
المهزلة أن من يتوسط اليوم لإخراج السكان وإعادة الهدوء، هم الروس والأتراك. تحول المجرم والمتواطئ معه وسطاء!!!
المهزلة الأخرى الحديث عن فشل سياسة أوباما! أوباما الذي أدخل للخزينة الأميركية إبان مدة حكمه أكثر من أي رئيس آخر، بانتظار المزيد القادم؛ فهل تُسمى فشلاً سياسة اتخذها أستاذ جامعي مشهود له بالكفاية والذكاء والقدرات العقلية، ولا تزال تبكي طلته الرشيقة بعض صحافيات أوروبا، ومن كافأته على مهاراته السلمية جائزة “نوبل” فور انتخابه؟
لقد سمح تنصله من وعوده باحتلال بوتين لسوريا؛ أطلق بـ”انسحابه السلمي” القيصر من قمقمه وركز مستبداً صغيراً في قصره وساهم في تمكين حكم الملالي في عرشهم الطاووسي لفترة أخرى.
سيحاسبه التاريخ لا بد، كأكثر حامل لرمز السلام العالمي دموية وهزالاً. حلب ستلقي بظلها المدمّى والمعيب على إرث أوباما، وربما على ضميره إذا امتلكه أصلاً. لقد برهن عن فشله كقائد لأميركا التي تخلت عن واجبها الأخلاقي كقوة عظمى. ساهم في الكشف أكثر من أي وقت مضى زيف ادعاءات التزام، أقوى الأمم حالياً، الأمة الأميركية، بالأخلاق والقيم الانسانية والعدالة والديموقراطية.
دفع “ميشال سورا” حياته ثمناً لتوصيفه النظام السوري الذي نعته بالدولة البربرية. بعد 30 عاماً تحول العالم نفسه إلى عالم بربري.
هذه ليست مشكلة حلب ولا مشكلة سوريا. إنها مشكلة عالم مهتز من أساسه. عالم قديم يحتضر وآخر يولد من رحم الضمائر الميتة والعنف والقتل والدمار التي تتسبب بها.
عالم ينبني على أنقاض عوالم عربية متلاشية ومتصدعة. عوالم تحكمها أنظمة قاصرة وعاجزة وقصيرة البصر والبصيرة لم تتعلم من نكباتها؛ تفضل ما تراه مصالح آنية متسببة بخرابها وخراب شعوبها إلى أمد يدوم.
وثورة وثوار وممثلون عنهم أيضاً قصيري النظر انخرطوا في صراع ايديولوجي ديني وفي لعبة أمم أكبر منهم، فخذلوا شعبهم الذي يُقتَل متغاضين عن قتله بالوعود الكاذبة التي أرادوا ان يصدقوها لعجزهم، وربما لأن فيها مصلحة لشخوصهم. وشعب لم يتعلم مما حدث في فلسطين، استسهل الانسحاب والهرب بدل المواجهة والصمود.
كنا نستفظع فكرة “الغلادياتر” ونقول إن البشر كانوا متوحشين يتلذذون بالقتل ولكنهم تخلصوا من هذا التوحش. تبين أننا أمام موجة توحش كونية.
لا ادري كيف سينتظم العالم الجديد الذي نقلته ثورة المعلومات إلى مرحلة مختلفة كلياً تثير حيرة كبار الخبراء ولا ندري كيف سيتقولب معها وأي شكل سيتخذ.
ربما ستكون هذه نهايات أنظمة الحكم التقليدية من قبل نخب صغيرة متحكمة تقرر مصير الإنسانية بعدما اثبتت فشلها وفشل المنظمات التي أقامتها من مجلس أمنٍ إلى منظمة أمم متحدة إلى محاكم دولية… أمام مشاركة لا أدري كنهها للمواطنين الموصولين connectes عبر وسائل الاتصال الثورية الحديثة.
لكن لا شك أنه في مرحلة قادمة سيجد ملايين المواطنين المتفرجين الآن بعجز أمام انهيار القيم الانسانية وتفسخها، طرقاً جديدة لاستعادة زمام الامور ومحاولة تقويم اعوجاجها ولو جزئياً. العالم سيتغير وسيجد طريقة تعيد للقيم وزنها؛ وإلا سيحترق.
يمكن لمن يرقص فرحاً الآن أن يستغل اللحظة ليعربد فرحه على الشاشات كافة لأن هذا الفرح لن يدوم، وسينقلب عليه غماً، إن ليس عاجلاً فآجلاً.
هناك أنواع من الجرائم الكبرى التي إن لم يحاسَب عليها مرتكبوها يظل المجتمع يدفع ثمنها لسنين وربما أجيال. جرائم تجلب اللعنة التي تصيب البلاد الى ان يقوم أحدهم بعمل مضاد يجلب صفح الآلهة كما نقل لنا الأقدمون.
والخروج من دائرة “اللعنة” هذه يتطلب كشف الحقائق والتحقيق والمحاسبة، ووضع المسؤوليات فى نصابها الصحيح.
monafayad@hotmail.com
طالما المسؤولية تقع على عاتق الجميع دون استثناء، السؤال يصبح من سيحقق، من سيكشف الحقائق، من سيحاسب وأخيراً من سيضع المسؤوليات في نصابها الصحيح؟
على الرغم من صدقية هذا المقال، أنا عَلى ثقة انه كتب تحت تأثير غضب عارم.