(الرسم المرفَق للفنان الفلسطيني: محمد سباعنة)
خلال أكثر من شهر، قبل انتخابات الرئاسة في سورية، كنت أعذب
نفسي وأشاهد يومياً برامج التلفزيون السوري. كنت أعيش انقباضاً أتعس من البكاء. دولة بكاملها تخرج إلى الشوارع للرقص الوثني تمجيداً للزعيم الذي لم يصنع مأثرة واحدة في حياته. تعلم الطب في بريطانيا وربما تخرج كطبيب عيون ناجح. ولكنه ورث الرئاسة عن والده، بمبايعة من المؤسسة العسكرية المخابراتية وبمبايعة من الطغمة السياسية المتمازجة مع الطغمة العسكرية المخابراتية.
ويقول العالمون بالسياسة السورية الداخلية إن الجميع اتفقوا على تنصيب الشاب –اللعبة بشار الأسد رئيساً، لتسهيل بقاء توازن القوى في النخبة السياسية العسكرية السورية، بدون تحريك، حتّى لا يزعل أحد، وحتى يأخذ كل واحد من الطغمة ما كان يأخذه،في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد.
إن مجرد ترشيح شخص واحد للرئاسة، في عصر العولمة، وفي عصر الديمقراطية الواسعة،وفي عصر البرايمرز داخل الأحزاب في كل الدول الديمقراطية الراقية ليس تخلفاً فقط، بل هو ظاهرة معادية للحضارة، في عصرنا. وزعيم يصل إلى السلطة بعد أن كان مرشحاً واحداً وحيداً لا يمكن أن يحظى بالاحترام في العالم، كما لا يحظى بالاحترام في بلاده، وبقاء نظامه هو نتاج الخوف ولا شيء غير الخوف.
وأكثر النكت مثاراً للأسى القومي أن المرشح الوحيد في أغلبية الدول العربية يحظى ب 99.97 بالمائة. وهنا تحضرني نكتة سمعتها قبل عشرين عاماً ونيِّف عن الانتخابات الرئاسية في سورية، أيام الأسد الوالد، تقول النكتة إن وزير الداخلية جاء إلى حافظ الأسد ليزف له البشرى غير المفاجئة. قال: يا سيادة الرئيس البطل إن الشعب كله معك، ليس 90 بالمائة، ليس 95 بالمائة، ليس 98 بالمائة، ليس 99 بالمائة بل أكثر بكثير 99.99 بالمائة. ويمكن القول إن مَن لم يصوتوا لك ليسوا شريحة في حساب النسبة المئوية، بل مئات قليلة من الشاذين المارقين.
فقال حافظ الأسد لعبده الوزير: أنا أعرف ذلك. ولكن أطلب منك أسماء مَن لم يصوتوا لي!
إن النظام السوري لا يختلف عن بقية الأنظمة “الجهورية” في العالم العربي التعيس. هل القذافي أكثر ديمقراطية ونزاهة؟ هل النظام التونسي أكثر ديمقراطية ونزاهة؟ هل النظام المصري الذي يحضِّر لوراثة الابن بعد والده، أكثر ديمقراطية.
هل دولة ليست فيها حياة حزبية حقيقية وليست فيها إمكانيات حقيقية ودستورية للمنافسة يمكن اعتبارها دولة ديمقراطية؟ هل هناك رقابة حقيقية في أية دولة عربية تمنع الحاكم من السطو على المُلك العام؟ هل حدث مرة أن حوكم مسؤول كبير بتهمة السرقة؟
إن مفهوم الدولة العصرية معدومٌ في كل العالم العربي،كما أن القومية بمعناها السياسي والاجتماعي والثقافي والانتساب إلى الوطن المستقل، هي مفهوم غائب، مُغَيَّب، في العالم العربي.
إن تفشي الأصولية الدينية وتفشي الطائفية السياسية وتفشي القبلية، وتفشي الصراع الدموي بين الطوائف المختلفة (حتى عندما تكون كلها من طائفة واحدة) هو النتيجة المنطقية لخنق مفهوم القومية واغتصاب مفهوم المواطنة واغتيال مفهوم المنافسة الديمقراطية. ما الغرابة، بعد كل هذا إذا ظن كل حاكم، حتى لو كان قاصراً عقلياً، إن البلاد هي مُلك خاص له ولعائلته؟
إننا نقول بأعلى صوتنا إن الدول العربية الملكية تبدو دولاً عصرية أكثر من الدول “الجمهورية”. وأعتقد أن رقعة التعبير والنقد في المملكة الأردنية أوسع بما لا يقاس من رقعة التعبير والنقد في سورية، مثلاً.
العربي العاقل هو عربي مرشح للجنون إزاء ما نراه من انحطاط النظام السياسي العربي وتخلفه وفساده وتدميره للدولة بمفهومها السياسي والاقتصادي والثقافي والقضائي والقانوني.
هل صدفة، بعد هذا أن كل شيء ينحط عندنا، الثقافة والتعليم والنظام، وهل صدفة أن الأموال العربية تهرب للتوظيف في الخارج؟ وهل صدفة أن الأدمغة الممتازة في أوطاننا العربية تستقر في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، وأن المليارات الكثيرة لأنظمة النفط موظفة في البنوك الغريبة؟
يخيل لي أحياناً، وأنا أتمزق من المرارة أن الشعوب العريبة تعودت على هذه الحال إلى درجة لم تعد معها تدرك عمق المأساة العريبة. لسنا في أزمة حادة بل في حالة انهيار ربما لا تبقي أمامنا خط رجعة عن هذا التخلف.
أليس من العار علينا، أمة وحضارة، إن دولة إسرائيل التي هي نتاج خليط مهاجرين من أكثر من ثمانين دولة تحوّلت إلى دولة عصرية قوية علمياً وقوية اقتصادياً وقوية عسكرياً، بينما الدول العربية أجسام عاجزة ومشلولة؟ أليس عاراً على العرب جميعاً أن الإنتاج القومي السنوي الإسرائيلي أكبر من الإنتاج القومي المصري، بينما سكان مصر عشرة أضعاف سكان إسرائيل؟
لننظر حولنا ونتابع التطور الاقتصادي في تركيا وايران، لننظر ونتابع التطور في دول جنوب شرق آسيا ولنقارن بين تطور هذه الدول والدول العربية.
لقد كانت كل دول أمريكا اللاتينية ديكتاتورية فاشية ومزرعة خلفية للولايات المتحدة. أنظروا كيف هبَّت شعوب أمريكا اللاتينية على طريق الديمقراطية الإنسانية والتطور الاقتصادي. أين هي وأين نحن؟
إن النظام الدكتاتوري الوثني في العالم العربي ليس بحاجة إلى النهضة الاقتصادية- الاجتماعية- الثقافية- العلمية- التكنولوجية، فلديه ما يكفيه للسرقة من خيرات أوطاننا ومن “صيانة” النظام الإرهابي الفاسد المتخلف الذي يقهر شعوبنا العربية.
لقد ضحكوا علينا أكثر من نصف قرن وقالوا إن الدكتاتورية العسكرية “ضرورية” للصمود ضد “العدو الصهيوني” والانتصار عليه. ولكن النظام الإسرائيلي انتصر عسكريا على الدول العريبة، بالذات لأن الدول العريبة محكومة بأنظمة ديكتاتورية مجرمة، والشعوب العربية سجينة ومقيدة، وقديماً قال الشاعر العربي عنترة العبسي:”العبد لا يُحسن القتال والكر بل يُحسن الحَلْب والصّر”.
لقد سقط الادِّعاء “القومي” للأنظمة لتبرير الديكتاتورية، والآن نشاهد كيف تتهافت الأنظمة العربية، لاهثة، للسلام مع إسرائيل، إرضاء لأمريكا، وعفى الله عمّا مضى، وليذهب الفلسطينيون إلى الجحيم، فهم “يعرقلون”ً السلام مع إسرائيل ومع أمريكا!!
مهما قلنا وحللنا أبعاد المأزق المأساوي العربي الراهن، فإنه يظل أكبر من تحليلاتنا. إن الوضع العربي الآن هو وضع نكون أو لا نكون. إن مطامع ايران في المنطقة العربية ليست أقل من مطامع إسرائيل، والولايات المتحدة التي تنهب الخيرات العربية لا تجد حاجة إلى احترام الأنظمة العربية وتعتبرها أنظمة متخلفة أحط مستوى من أن تستحق الاحترام.
قد يسأل سائل: حسناً، سمعنا. ما هو الاستنتاج؟ ما هو المخرج؟
أنا أعتقد أن اليأس والبكاء لا يحققان شيئاً. بل هما يعززان النظام العربي الفاسد والمتخلف، العميل للأجانب والمجرم ضد شعوبنا العربية.
آن الأوان للانتقال من النشاطات العبثية للمجموعات الصغيرة في كل دولة عربية. هناك حاجة مصيرية إلى تحالف قومي-ديمقراطي واسع في كل دولة عربية لمجابهة النظام وإلى تحالف قومي-ديمقراطي عام في المنطقة العربية.
إن النهضة القومية- الحضارية التي بدأت في القرن التاسع عشر في مصر وبلاد الشام والعراق ذبحها نظام الطغمة العسكرية.
هناك حاجة الآن إلى حركة قومية-حضارية- ديمقراطية متجددة تبث العزيمة والأمل في شعوبنا العطشانة إلى الحرية والديمقراطية والتقدم والتنمية. هذه الحركة قادرة أن تصد الأصولية الظلامية التي تؤدلج للتخلف وقادرة أن تستعيد شباب أمتنا العربية وتضعها على طريق التقدم والعصرنة والمشاركة الفعالة في الهم الإنساني العالمي، تجعل ملاييننا العربية شركاء لا متفرجين، في عصر لا يرحم المتخلفين المحبطين، بل يحترم المقاتلين النهضويين.
salim_jubran@yahoo.com
* الناصرة