إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
إن أكثر ما يهم أستراليا هو شكل علاقاتها مع جارتها الأقرب، أندونيسيا، البلد الأرخبيلي الأكثر كثافة سكانية في العالم الإسلامي، بدليل ما صرح به رئيس وزرائها “أنتوني ألبانيز” مؤخرا من أنه لا يوجد بلد في العالم أكثر أهمية لبلاده من أندونيسيا.
وهذه المقولة التي وردت على لسان ألبانيز وهو يطأ مطار جاكرتا، في أول زيارة له لأندونيسيا بعد فوزه بولاية ثانية على رأس “حزب العمال” الأسترالي في مطلع مايو المنصرم، هي مقولة مستعارة من نظيره الأسبق الليبرالي المحافظ “جون هوارد” الذي ترأس الحكومة الأسترالية ما بين عامي 1996 و2004. وقالها خلال زيارته لجاكرتا في 1996
والحقيقة أن زيارة جاكرتا، باتت تقليدا أصيلا وثابتا في السياسة الأسترالية. إذ لا يتولى سياسي أسترالي السلطة إلا وتكون محطته الخارجية الأولى هي أندونيسيا، بل أن عدم قيامه بذلك يثير الإستغراب، وقد يفضي إلى شائعات طبقا لما يقوله البروفسور “تيم ليندسي” أستاذ القانون الآسيوي بجامعة ملبورن.
إذاً، أين المشكلة في العلاقات الأندونيسية ــ الأسترالية؟
تكمن المشكلة في ان الانظمة الاندونيسية المتعاقبة، منذ زمن الرئيس الأول أحمد سوكارنو، تنظر بعين الشك والريبة إلى استراليا وتتوجس منها. فسوكارنو صاحب السياسات المناهضة للغرب، كان يعتبر أستراليا مخلبا غربيا للإطاحة بنظامه لكن الطعنة جاءته من حليفه الصيني الذي دبر انقلابا (فاشلا) ضده لتحويل اندونيسيا إلى دولة شيوعية في ستينات القرن العشرين. وفي عهد الديكتاتور سوهارتو كانت الشكوى من انتقادات كانبيرا المستمرة للدكتاتورية وخروقات حقوق الإنسان. أما في حقبة ما بعد سوهارتو وتدشين الديمقراطية منذ 1998، فقد انشغلت جاكرتا بترتيب بيتها الداخلي وسط صعود قوى الاسلام السياسي التي أظهرت عداء لأستراليا من منطلقات ايديولوجية، وكانت تفجيرات بالي ضد سياح إستراليين عُزّل سنة 2002 أحد أبرز تجلياته. كما أن جاكرتا الرسمية ظلت لسنوات مستاءة مما وصفته بدور أسترالي داعم لفصل تيمور الشرقية عن التراب الاندونيسي سنة 1999، إلى درجة قيامها بتمزيق معاهدة الأمن الشاملة التي تفاوض عليها رئيس الحكومة الأسترالية الأسبق بول كيتنغ مع سوهارتو سنة 1995 ، علما بأنها كانت الإتفاقية الأمنية الأولى بين البلدين وأول اتفاقية من نوعها توقعها جاكرتا مع دولة أخرى.
وهكذ نجد أنه في الوقت الذي تقول فيه أستراليا أن أندونيسيا هي أهم البلدان بالنسبة لها، وتسعى لعقد شراكة متعددة الأوجه معها، لا نجد في أندونيسيا من يقول أن أستراليا من أهم البلدان إلى بلاده، بل نجد من ينتقدها بسبب انخراطها في تحالف “كواد Quad” مع الولايات المتحدة واليابان والهند، وتحالف AUKUS مع واشنطن ولندن، أومن يعتبرها شريكا أصغر ودولة ذات تأثير محدود. لكن الملاحظ أن هؤلاء أنفسهم يطالبون أستراليا في الوقت نفسه بزيادة استثماراتها في أندونيسيا، وينظرون إلى سواحها كمصدر مهم للدخل القومي.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن علاقات البلدين في عهد الرئيس الاندونيسي السابق “جوكو ويدودو”، الذي عرف بسياساته المتشددة ضد المخدرات، شابها التوتر على خلفية اعتقال جاكرتا لعصابة استرالية اتهمت بتهريب الهيرويين في بالي عام 2005، ورفض ويدودو طلبا أستراليا للرأفة بهم من أحكام الإعدام.
غير أن الرئيس الحالي “برابوو سوبيانتو” (كان وزيرا للدفاع في عهد ويدودو) يحاول الخروج من جلباب سلفه والبرهنة على أنه زعيم مختلف أكثر اهتماما بعلاقات بلاده الخارجية، ومنها علاقاتها مع أستراليا. ولعل ما يؤكد ذلك اللغة الودية الجديدة التي استخدمها للترحيب بضيفه ألبانيز، ناهيك عن قيامه في العام الماضي بلفتة ودية تجاه كانبيرا تمثلت في إطلاق سراح الأستراليين الخمسة المتبقين من عصابة المخدرات وإعادتهم إلى ديارهم. كما أن زيارته إلى كانبيرا في اغسطس 2024 كوزير للدفاع وما اعقب ذلك من توقيع اتفاقية “لومبوك” للتعامل مع التحديات الأمنية التقليدية وغير التقليدية في مجالات الإرهاب وتهريب المخدرات والاتجار بالبشر والسلامة البحرية، غيّرت شكل علاقات التعاون بين البلدين.
فإذا ما أضفنا إلى ما سبق، مشاركة استراليا منذ عام 2022 الى جانب اليابان وسنغافورة في التدريبات القتالية السنوية المشتركة بين اندونيسيا والولايات المتحدة، وقيام القوات الجوية الاسترالية والاندونيسية بتدريبات مراقبة بحرية مشتركة في بالي منذ عام 2024، ومبادرة كانبيرا بمنح اندونيسيا 15 مركبة قتالية العام الماضي لتدعيم مشاركتها في عمليات حفظ السلام الدولية، فإنه يمكن القول أن العلاقات الأندونيسية ــ الأسترالية الرسمية تسير في الطريق الصحيح على الصعيدين الأمني والدفاعي، خلافا للصعيدين التجاري والإستثماري، اللذين يعيق تطورهما الفساد والبيروقراطية المتجذرين في أندونيسيا، وتفضيل الأندونيسيين الاتجار مع دول منتجة للسلع الرخيصة كالصين والهند على الاتجارمع أستراليا.
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
[…] أندونيسيا هي الأكثر أهمية لأستراليا، ولكن .. […]