مع تضاؤل فرص الرهان الخليجي على المظلة الأميركية ومع الهجمة الإيرانية، لابد من مواجهة التحولات الكبرى، ومقاربة الأمن الجماعي الخليجي من خلال الإطار الوحدوي كنواة لتحالفات أشمل.
*
من النادر أن نجد منطقة في العالم محطّ تجاذب واهتمام مثل منطقة الخليج، نظرا لموقعها الحساس ولحيويتها بالنسبة لأمن الطاقة وسوقها. وفي هذا الصدد قال الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في مذكراته: “باتت مسألة من يسيطر على الخليج والشرق الأوسط مفتاحاً للسيطرة على العالم”.
واليوم في عالم الفوضى الاستراتيجية وعودة مناخات الحرب الباردة، تعود إلى الواجهة مسألة أمن الخليج العربي على ضوء إشارات تدل على رغبة واشنطن في إعادة تموضع تُعفيها من مسؤولياتها، في وقت ترمق فيه إيران هذا الممر وتطرح نفسها من جديد شُرطيا للخليج، وشريكا لواشنطن، أو بديلا عنها.
يفرض احتمال الفراغ أو التخبط على دول الخليج العربي تحديا غير مسبوق ويدفعها إلى مراجعة استراتيجياتها ورسم سيناريوهات احتياطية لمواجهة الموقف، إما من خلال حلف عربي نواته مصر، أو التطلع لحلفاء مسلمين مثل تركيا وباكستان، أو الذهاب نحو شراكات مع قوى أوروبية أو آسيوية.
مهما كانت نتائج القمة الأخيرة بين خادم الحرمين الشريفين والرئيس الأميركي باراك أوباما، يمكننا القول أن ميثاق “كوينسي” بين الرئيس روزفلت والملك عبدالعزيز في العام 1945 لم يعد متطابقا مع الظروف الراهنة، وأن التعهد الأميركي الأمني لم يعد صلبا، بل إن واشنطن تسعى جاهدة لنسج تفاهمات جديدة لن تكون حُكما في مصلحة الحصانة الأمنية للخليج العربي بمواجهة الطامعين من حوله أو أحصنة طروادة من داخله.
تجد المخاوف والشكوك الخليجية تبريرا لها مع تحديد استراتيجية الأمن القومي الأميركي أولوية منطقتي “آسيا والمحيط الهادي”، في تناغم مع المصالح الاقتصادية والجيو سياسية، ومع اقتراب الاعتماد على النفط والغاز الصخريين. ويعني ذلك ارتسام أفول الحقبة الأميركية في الخليج والشرق الأوسط (أعقبت الحقبة البريطانية في الخليج التي أُسدل عليها الستار عسكريا في سبعينات القرن الماضي).
في هذا السياق تعترف الأوساط الأميركية المعنية بعدم قدرة واشنطن على مدى طويل بالحفاظ على دور مركزي في الخليج وفي التكفل بأمن الطاقة، لكنها تستدرك وتؤكد أن الانسحاب من الشرق الأوسط يستثني الإصرار على أمن إسرائيل، وعدم التخلي عن الأصدقاء التقليديين في الخليج. بيد أن ذلك لا يطمئن كليا صانعي القرار في عدة عواصم خليجية، على ضوء خيارات البيت الأبيض حول مجموعة من قضايا المنطقة، وعلى رأسها؛ الملف النووي الإيراني، دور إيران الإقليمي، والملفين السوري والمصري.
إذا تطرقنا إلى العلاقة الأميركية- السعودية ومسارها التاريخي نلاحظ أهميتها بالنسبة للطرفين. إن المملكة العربية السعودية هي واحدة ضمن أكبر عشرة شركاء تجاريين للولايات المتحدة الأميركية، حيث تشمل العلاقات نحو 338 عقدا بقيمة 96.8 مليار دولار، بالإضافة إلى 74 ألف طالب سعودي يدرسون في الجامعات الأميركية لتأهيلهم كي يكونوا من كوادر البلاد مستقبلا. وتنطبق الصلات المميزة على باقي دول مجلس التعاون الخليجي، لكن هذا الرابط أخذ يهتزّ لضعف عامل الثقة بالضمانة الأميركية، وعمق التغييرات في الإقليم منذ حرب العراق، وتداعيات أحداث السنوات الثلاث الأخيرة في مصر واليمن وبلاد الشام.
في مواجهة الانكماش والتغاضي الأميركي، تستمر إيران في تسجيل النقاط في اليمن والعراق وسوريا وداخل البيت الخليجي العربي، وكأنها تستكمل استراتيجية تطويق واختراق مستفيدة من انهيار التوازن إثر سقوط الحاجز العراقي. وما اليقظة الخليجية الذاتية لحماية البحرين، والسعي حاليا لترتيب أوضاع مجلس التعاون وتحصينه من تهديدات كامنة داخله أو على جوانبه، إلا إجراءات احترازية وطبيعية على درب تشكيل اتّحاد منع البريطانيون قيامه حين انسحابوا من المنطقة، ولا تزال العديد من القوى الإقليمية والدولية تعمل من أجل استمرار التّشرذم القائم لأنّها تعتبر أنّ ذلك يحمي مصالحها المتنوعة.
والتّهافت الدولي- الإقليمي على الخليج لا يقتصر على إيران المتوثبة على إحدى ضفّتيه، بل يعني روسيا أيضا، وهي الحالمة تاريخيا بمياهه الدافئة. علماً أن الاتّحاد السوفياتي السابق سعى للتمركز من خلال العراق واليمن الجنوبي.
من جهتها، لا تتوانى تركيا عن الاهتمام بهذا التنافس، ففي مواجهة دبي، المحطة العالمية نحو آسيا، تحاول اسطنبول المنافسة. ففي زيارة حديثة له إلى الكويت، اعتبر الرئيس التركي عبدالله غل أنّ “نظرة بلاده إلى منطقة الخليج ذات أبعاد استراتيجية ولا تقتصر على البعد الاقتصادي فحسب”، مؤكدا أنّ “استقرار وأمن هذه المنطقة مهمّان بالنسبة للعالم الإسلامي برمته”.
أما إسرائيل المهتمة بأمن المضائق والممرات في الخليج والبحر الأحمر، وجدت في الملف النووي الإيراني حجة لربط أمنها بالأمن الإقليمي والسعي لتسويق تقارب مع دول عربية تحت هذه اليافطة.
في السيناريوهات البديلة لضمان أمن الخليج، يبدو تشكيل أي حلف عربي مسألة بديهية وطبيعية. فبالإضافة إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت والبحرين، يمكن التعويل على مصر والأردن، فيما يشبه السياج، لحماية الأمن الخليجي وما تبقى من أمن قومي عربي.
بيد أن تأسيس هذا الحلف وفعاليته، يتطلب عودة مصر متعافية إلى الساحة العربية ووجود غطاء غربي حليف، على الأقل، من بعض الأوروبيين الفاعلين مثل فرنسا. أما السيناريو الآخر المتمثل في إشراك تركيا وباكستان في منظومة أمن إقليمي موسّعة، فهو رهان ممكن شرط دراسته بعناية، إضافة إلى سبر أغوار الحوار مع إيران في حال تخلّيهـا عن التوسع الإقليمي وقبولها بممارسة سياسة حسن الجوار. ويرى البعض أنّ أيّ حوار مع إيران يتضمّن سعيا للحد من الخسائر أمام إيران المتقدمة، وبالطبع من دون تغيير موازين القوى في اللعبة الإقليمية، ستكون الغلبة الإيرانية مصدر تجديد للنزاعات وديمومتها.
يتبين بوضوح أن التاريخ الخليجي كان في مجمله تاريخ تنافس دولي، واقتصر دور اللاعبين المحليين فيه على التفاعل أو التبعية.
لقد مرّ على ضفاف هذا الممر الحيوي؛ البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون والبريطانيون والأميركيون والروس. وحاليا يمكن مقارنة ارتسام نهاية الحقبة الأميركية، بالتهويل الذي رافق نهاية الحقبة البريطانية في أواخر ستينات القرن المنصرم.
يتساءل البعض عن حق، إذا كان بإمكان أوباما إعادة العمل بمبدأ نيكسون (1968)الذي يرى في الرياض وطهران “الدعامتين” لنظام أمن خليجي جديد. وهذه الفكرة تجد لها صدى، نظرا لمحدودية القوة الخليجية سياسيا واقتصاديا وعسكريا في إطار بيئة إقليمية موبوءة.
لن يشهد الخليج ترتيبات جديدة، أو نظام أمني ذاتي أو توافقي بانتظار خلاصة المفاوضات مع إيران حول الاتفاق النهائي وتطور النزاعات في سوريا والعراق. لكن مع تضاؤل فرص الرهان الخليجي على المظلة الأميركية ومع الهجمة الإيرانية، لا بد من مواجهة التحولات الكبرى، ومقاربة الأمن الجماعي الخليجي من خلال الإطار الوحدوي كنواة لتحالفات أشمل.
khattarwahid@yahoo.fr
استاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس