في كل يوم يمر تقترب الولايات المتحدة الأمريكية من ساعة الحقيقة المرة التي تكشف عورتها وعجزها عن قيادة مشروع التغيير الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط والذي بشرت وتذرعت به في عدوانها العسكري على العراق كبداية لخلط الأوراق وإعادة ترتيب الأوضاع جملة وتفصيلاً في العالمين العربي والإسلامي في سياق حرب عالمية تشنها أمريكا لمحاربة ما أسمته بالإرهاب العالمي، ناهيك عن عجزها عن قيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فقبل أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 كانت أمريكا مزهوة بقوتها الجبارة والفتاكة، وغطرستها واحتقارها لأية قوة عالمية يمكن أن تنافسها أو تتصدى لمشاريعها لذلك تجاهلت واشنطن الأعراف الدولية والقانون الدولي والمرجعية الدولية المتمثلة بمنظمة الأمم المتحدة وشنت حربها العدوانية على العراق من طرف واحد دون أي غطاء أو تفويض دولي ولو كان شكلياً، بينما كان بإمكانها إطاحة صدام بوسائل أخرى دون إراقة دماء أو تدمير بلد بأكمله لاسيما وهي كانت تعلم علم اليقين بعدم وجود أسلحة تدمير شامل في العراق. واليوم، وبعد الغوص في وحل الحرب والانزلاق في مستنقع العراق كما تسميه وسائل الإعلام الأمريكية، راجعت الإدارة الأمريكية الجمهورية نفسها واعترفت بضرورة إشراك المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة للبحث عن حلول تنقذ الأمريكيين من هذه الورطة, فواشنطن تريد اليوم وبصدق وحماسة، عودة الأمم المتحدة للعبة العراقية على حد تعبير السفير الأمريكي السابق في العراق زلماي خليل زادة ذو النزعة الطائفية والنظرة التحقيرية للكثير من القوى السياسية العراقية التي تعامل معها عن قرب في فترة المعارضة لنظام صدام حسين المخلوع، وفي فترة تواجدها في الحكم عندما كان يدير سفارة واشنطن في العراق، ولديه من الصلاحيات ما يفوق منصبه كسفير بل حتى ما يفوق صلاحيات وزير. اختاره البيت الأبيض ممثلاً لأمريكا في المنظمة الدولية خلفاً لجون بولتون اليميني المحافظ والمتشدد من صقور الإدارة الذي فقد منصبه بعد حصول الديمقراطيين على أغلبية مقاعد مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس الأمريكي. وما أن تسلم زلماي خليل زاده منصبه حتى صرح بكل وضوح وبلا مواربة قائلاً:” على الأمم المتحدة أن تكون أكثر التزاماً في العراق ” وتترجم هذا الموقف بقيام الأمين العام الجديد للمنظمة الدولية بان كي مون بزيارة خاطفة للعراق ودعا في بغداد برفقة رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري المالكي، دول العالم لتقديم معونات ومساعدات حقيقية ملموسة من أجل إعادة إعمار العراق. كانت نشاطات الأمم المتحدة في العراق قد انخفضت جداً بعد تعرضها لضربة إرهابية مميتة راح ضحيتها ممثل الأمين العام للمنظمة الدولية السابق وهو سيرجيو دي ميللو في آب 2003. وكان الأمين العام الجديد للأمم المتحدة قد أشار في 22 مارس ـ آذار 2007 من بغداد:” إن على الأمم المتحدة أن تفعل المزيد في العراق ولا تكتفي بما تقوم به حالياً” بالرغم من كون الأوضاع الأمنية المتردية في العراق هي العائق والمعرقل الأساسي أمام جهود منظمته ماتزال قائمة ومتفاقمة يوماً بعد يوم. تتركز مهمة زلماي خليل زاده اليوم في إقناع مجلس الأمن بصواب ومشروعية السلوك الأمريكي في العراق خاصة وأن سلفه لم يترك وراءه كثيراً من الأصدقاء فضلاً عن الحلفاء حيث كان منظراً أيديولوجياً لمعسكره أكثر من كونه سفيراً ذكياً لبلاده. وكانت الكثير من بلدان العالم ترتاب في نواياه في إصلاح المنظمة الدولية وتحويلها إلى هيئة موجودة لخدمة المصالح الأمريكية. وهاهي الولايات المتحدة تعود اليوم لاستجداء مساهمة الأمم المتحدة في بحثها الدءوب عن استراتيجية للخروج من المأزق العراقي وبالتالي توجب على ممثل أمريكا الجديد في الأمم المتحدة أن يعترف بصريح العبارة قائلاً:” أعرف واقر بأنه يمكن للأمم المتحدة أن تكون قوة فعالة جداً في العراق” وأضاف:” سوف أستمع وأقدر وأحترم جميع الآراء ” وهكذا تأتي سياسة اليد الممدودة بعد سياسة لوي الذراع وفرض الأمر الواقع. والسلاح الذي يشهره زلماي خليل زاده في وجه نظرائه هو أنه جاء محملاً بتجارب عملية وميدانية ثرية وكثيفة في أفغانستان والعراق واكتشف بفضلها أن العمل مع الآخرين ممكن والسماح بدور أكبر وأكثر فعالية للأمم المتحدة يعطي نتائج أكثر إيجابية. وهذا الخطاب هو النقيض تماماً لما كان يقوله المسؤولون الأمريكيون عشية وغداة الحرب على العراق عن عدم فائدة هذه المنظمة الدولية وعن عدم حاجتهم لموافقة الآخرين وأنهم قادرون على القيام بالمهمة وحدهم. على الصعيد الداخلي تواجه حكومة جورج دبليو بوش تحديات كبيرة سواء من وسائل الإعلام أو الرأي العام الأمريكي إلى جانب ضغط الكونغرس الأمريكي بغالبيته الديمقراطية الذي يبتز الإدارة في موضوع تمويل تكاليف الحرب في العراق وأفغانستان ويود تقديمها بشروط وعلى دفعات أو على أقساط كما قال أحدهم متهكماً. بل أن هناك ضغوط تأتي من داخل الحزب الجمهوري الحاكم على الرئيس خوفاً من خسارتهم الانتخابات الرئاسية القادمة وهناك عشرة أو أحد عشر سناتوراً جمهورياً استجوبوا الرئيس بشأن العراق وطالبوه بأجوبة صريحة وواضحة بشان قدرته على تحقيق نصر واضح وملموس أو الاعتراف بالفشل والبدء بالانسحاب بكرامة من العراق دون المزيد من الدماء والتضحيات وهدر الأموال وزهق الأرواح للشباب الأمريكي في قضية خاسرة. وكان الديلوماسي الديمقراطي ريتشادر هولبروك المرشح بقوة لأن يصبح وزيرا للخارجية اذا وصل الديموقراطيون للرئاسة، قد صرح بأن حرب العراق هي أسوأ أزمة في تاريخ الولايات المتحدة وهي أزمة في السياسة الخارجية باتت أسوأ من فيتنام “وأن ما يحدث في العراق هو حرب أهلية خرجت عن نطاق السيطرة وأنه يتعين على الرئيس الأمريكي القادم ان يحدد كيفية اخراج أمريكا من هذا الصراع”. كما أعرب عن أمله في أن تنجح الحملة الأمريكية الجديدة التي تشنها القوات الأمريكية في العراق لكنه اوضح ان فرص نجاحها ضئيلة.
إنطلاقاً من هذا التشخيص البراغماتي أوفد الرئيس الأمريكي وزيرة خارجيته كونداليزا رايس في جولة داخل منطقة الشرق الأوسط وللمشاركة في مؤتمري شرم الشيخ وكذلك نائبه ديك تشيني لإقناع دول المنطقة بمساعدة العراق للخروج من كبوته ودعمه في جهود إعادة البناء والإعمار وتوجيه رسائل واضحة وشديدة اللهجة لدول الجوار التي تتدخل في الشأن العراق الداخلي والمقصود بها سوريا وإيران أولاً وتركيا والسعودية والإمارة بدرجة أقل وذلك ينطبق أيضاً على الأردن ومصر.وهي محاولة يائسة للحد من تدخل الجوار العراقي وتأثيره على مسار الأحداث في العراق ودعمها لبعض الميليشيات و القوى المسلحة المتمردة على السلطة ولعدد من التنظيمات الإرهابية والصدامية والتكفيرية التي تستخدم العنف والإرهاب لفرض رؤيتها وزعزعة الأمن والاستقرار في بلاد الرافدين. ومازالت الإدارة الأمريكية تبدي بعض الشكوك في قدرة وفعالية الحكومة العراقية الحالية في فرض الأمن والاستقرار في العراق وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية وهي الشرط الأساسي لتهدئة الأوضاع في العراق كما تعتقد واشنطن هذا مع افتراض توفر الرغبة والإرادة والنية الصادقة لتحقيق هذه الغاية. ولاننسى أن هناك ملفات عاجلة أخرى تشكل تحديات حقيقية أمام الحكومة العراقية تتعلق بالتعديلات الدستورية المقترحة وحل مشكلة اللاجئين والمهجرين داخل وخارج العراق والتي باتت تتفاقم وتتحول إلى مأساة كتب عنها باستفاضة وبانفعال وجداني صادق ولغة علمية متناهية الباحث الدكتور سيار الجميل وغيره من الأقلام الشريفة من مثقفي العراق الذين لايمكن أن يتخلوا عن مصير عراقيو الشتات الذين يعانون في منفاهم ألقسري من الجوع والمرض ومشاكل السكن والإقامة والتنغيصات الإدارية والتهديدات بالطرد والتسفير الجماعي وضرورة مغادرة أرض اللجوء كل ثلاثة أشهر وعبور الحدود والعودة ثانية وثالثة ورابعة مع علمهم بأن أغلب المهاجرين والمهجرين يفتقدون للأموال ويعانون من إنعدام الإمكانيات المادية. وهناك مشاكل الداخل المتمثلة بنقص أو انعدام الخدمات الضرورية لحياة كريمة من ماء صالح للشرب وكهرباء ووقود ودواء نقل وخدمات صحية ونظافة عمل الخ. ماهي السيناريوهات المتوقعة للعراق لغاية شهر أيلول سبتمبر القادم أي ما بعد العطلة الصيفية؟ لا أحد يعرف على وجه الدقة ما سيكون عليه مصير العراق والعراقيين إذا ما استمرت الأحوال في التدهور والتفاقم والتردي المستمر أمام عدم جدية الحكومة في تحقيق تعهداتها التي أخذتها على نفسها والتزمت بها في قمة شرم الشيخ الأخيرة حيث تعتقد بعض الدوائر الغربية أن الرجل المؤهل لقيادة العراق سيكون الدكتور أياد علاوي العلماني ـ الشيعي والبعثي السابق ورجل الولايات المتحدة وبريطانيا والذي يقود كتلة سياسية عراقية مهمة هي القائمة الوطنية العراقية التي تفاهمت مؤخراً مع قوى سياسية أخرى كحزب الفضيلة المنسحب من الإئتلاف الشيعي الحاكم والمطالب بوقف العمل بالدستور وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة وبصورة عاجلة على أن تكون حرة ومستقلة وعلى اساس الدوائر المتعددة ووفقاً للبرنامج السياسي للمرشحين ، وجبهة الحوار الوطني وبعض أطراف جبهة التوافق السنية وبعض المستقلين مما يعني أن حكومة السيد المالكي ستكون في وضع صعب لمواجهة هذا التكتل السياسي الجديد لاسيما بعد تخلي التيار الصدري عنها وانسحابه من الحكومة وضغطه الشديد لتحديد موعد لانسحاب القوات المحتلة حتى لو كان ذلك بالقوة لإرغام الحكومة على الانصياع لأنهم يخشون من نوايا القوات الأمريكية المحتلة إزاءهم وهم عازمون على استثمار الصراعات الداخلية الأمريكية وحالة الاحباط التي تسيطر على السياسيين الأمريكيين لتمرير مطالبهم بالانسحاب وإنقاذ تيارهم من مواجهة دامية شبه مؤكدة إن آجلاً أم عاجلاً بالرغم من غوص القوات الأمريكية في الرمال المتحركة العراقية .
لابد من إنجاز قفزات حقيقية في المشهد السياسي العراقي وتهيئة الظروف الملائمة لتنقية الجيش والشرطة وقوات الأمن الداخلي من الاختراقات وعناصر الميليشيات والجريمة المنظمة والإرهابيين المتسترين وراء أزيائهم الرسمية، وإعادة بناء جييش وطني غير طائفي يحتوي كفاءات الجيش العراقي السابق من غير الصداميين والمجرمين الملوثة أيديهم بدماء العراقيين وتوزيع عوائد الثروة النفطية بالعدل والتساوي بين مكونات الشعب العراقي حسب التوزيع السكاني والاحتياجات العاجلة لكل محافظة وإقليم ، وفق أحكام الدستور، وإخضاع الثروة النفطية لسلطة الحكومة المركزية بدلا من سلطة المحافظات والأقاليم, بالرغم من معارضة الأكراد الذين يرفضون الالتزام بهذا القانون, ويهددون بالانفصال إذا تم تمريره, ويواصلون توقيع عقود الاستثمار مع شركات البترول الأجنبية تحديا لسلطة الحكومة المركزية، مثلما ترفض أطراف شيعية كبيرة في الحكومة فكرة إلغاء قانون إجتثاث البعث أو حتى تغييره بشكل جوهري وفرض أية تعديلات أساسية عليه لأن من شأن ذلك تشكيل خطر يهدد بعودة أقطاب البعث الحاكم سابقاً وأنصار صدام حسين حسب تقديرات عبد العزيز الحكيم رئيس الإئتلاف الشيعي الذي يعتقد أنه يعبر عن موقف الغالبية العظمى من شيعة العراق الذين يرتابون في نوايا الولايات المتحدة الأمريكية في السماح لبعض رموز النظام السابق لاستعادة نفوذهم المفقود في العراق. لقد أثبتت التجارب التاريخية أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تتخلى عن أصدقائها في أشد الأوقات حراجة والانسحاب تاركة إياهم يواجهون قدرهم لوحدهم كما حدث في الماضي في فيتنام وغيرها حتى لو كانت النتيجة انتشار فوضى وفتنة وصراعات مسلحة وحرب أهلية دامية يمكن أن تصل شرارتها لكل دول المنطقة فهل سيتعض هؤلاء من تجارب الآخرين ويتعلمون الدرس؟.
Jawad_bashara@yahoo.com
باريس