تدل آخر استطلاعات الرأي على تدنٍّ ملحوظ في شعبية ألمانيا في القارة الأوروبية – خصوصاً في دول جنوب أوروبا المتأزمة في قبرص واليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال- على خلفية الخطة الصارمة التي وضعتها لمنع انهيار اقتصاد منطقة اليورو. ووصل الأمر في مظاهرات قبرص إلى رفع لوحات تمثل صور انجيلا ميركل إلى جانب هتلر في تأجيج لمخاوف افتراضية من عودة ألمانيا للتحكم بأوروبا عبر القيادة الاقتصادية كما جهدت برلين بالحرب خلال الحقبة النازية.
تعتبر المستشارة الحديدية ميركل ووزير ماليتها ولفجانج شوبيليه أن الانتقادات الحادة الموجهة ضد بلدهما عدائية ونابعة من الغيرة لا أكثر. لكن الكثير من المراقبين في القارة القديمة يتوافقون على أنّ ميركل تتعامل مع نظرائها من رؤساء الدول الأوروبية وكأنهم وزراء لديها، يأتمرون بأمرها وهو ما أدى إلى انخفاض حاد في شعبية ألمانيا مستشارة ودولة وشعبا.
بعد أقل من ستين سنة على هزيمتها النكراء، وبعد أقل من ربع قرن على إعادة توحيدها، ها هي ألمانيا تعود بقوة إلى المسرح العالمي من موقع القيادة الأوروبي كرابع قوة اقتصادية عالمية. عبر تاريخها المضطرب والغني على حد سواء، بلوَرَت ألمانيا في القرن الماضي علم الجيوبوليتيك ومفهوم المجال الحيوي (نحو شرق ووسط أوروبا) لكي تتكرس قوة برية كبرى في خدمة النفوذ والتوسع، وفي حقبتنا الحالية في زمن الفوضى الاستراتيجية الانتقالي نحو تثبيت العالم المتعدد الأقطاب، وبعد سقوط جدار برلين وكسوف الأحادية الأميركية، تُعدُ ألمانيا من أفضل الأمثلة على استخدام القوة الناعمة في سبيل ترويج سياستها الخارجية وديبلوماسيتها.
وتستعين برلين بمؤسسات وجمعيات نشطة مثل معهد غوتيه الثقافي، وكذلك بمؤسسات سياسية تابعة للأحزاب السياسية مثل مؤسسة فريدريش أبرت التابعة للحزب الديموقراطي الاجتماعي ومؤسسة كونراد أدنهاور التابعة للاتحاد المسيحي الديموقراطي. وهذه الشبكة الفاعلة تمثل جزءاً من هيكل السياسة الخارجية الألمانية، لكنها لا تترجم بالضرورة او تنفذ سياسة الحكومة من الناحية النظرية.
إلا ان شهادات لبعض العاملين في هذه المؤسسات (مجموع المتعاونين الأجانب في هذه المؤسسات المنتشرة في مائة بلد يناهز الالف وخمسمئة) تشير إلى أدوار مزدوجة وتنفيذية لهذه الشبكة بالتعاون مع السفارات والقنصليات الالمانية.
زيادة على قوتها الاقتصادية الضاربة، انتهى مفهوم الابتعاد العسكري الألماني عن شؤون العالم بعد الانخراط في البلقان وافغانستان ومسارح أخرى اعتباراً من منتصف التسعينات، والأهم أن ألمانيا القوة الصناعية الكبرى، هي أيضاً ثالث تاجر سلاح في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، وتتميز بغواصاتها النووية “دولفين” التي بيعت لإسرائيل وبدباباتها “الليوبارد” التي تخطط لبيعها إلى المملكة العربية السعودية والجزائر.
هكذا في كل الميادين تقريباً، تتخطى برلين منعطف ما بعد النازية وتتحرر من القيود التي أبطأت إكمال عناصر قوتها (لا يزال الانحطاط الديموغرافي وعدم العضوية الكاملة في مجلس الامن الدولي وعدم الاستثمار الكافي في علم الفضاء من عناصر الضعف) لتبلور عقيدة ديبلوماسية جديدة لا تعتمد على القوة الفظة لكي لا تذكر ببعض صفحات تاريخها المخيف، وتركز على القوة الناعمة الثقافية والديبلوماسية وقوة الردع الاقتصادية.
في تأقلم مع عالم اليوم، تستخدم برلين التجارة والتصدير كأبرز عناصر الانتشار والنفوذ الألماني، وبما أن الأولوية للبيزنس، يبقى الانتساب إلى العمليات العسكرية لحفظ السلام أو لحلف شمال الأطلسي محدودا أو معدوما في بعض المرات.
ويترافق ذلك مع عدم إعطاء أهمية للدفاع عن حقوق الإنسان أو الترويج للقيم الديموقراطية لأن هذه المهمات متروكة ـ حسب مصدر أوروبي ـ للمثاليين والساذجين أو المغفلين من المتحمسين في باريس ولندن وواشنطن، وما يعني برلين ميزانها التجاري وتفوقها الاقتصادي في المقام الأول.
في نظرة سريعة لحصيلة السياسة الخارجية الألمانية في الأعوام القليلة المنصرمة، تحصد برلين نجاحات على جبهات عدة: إنها قائدة الاتحاد الأوروبي اقتصادياً ولاعبه المحوري سياسياً، أما علاقات ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية فتبقى مميزة خصوصاً على ضوء المحادثات لبلورة معاهدة تجارة حرة بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن.
وبالنسبة إلى الصين التي زارتها ميركل مرتين في العام 2012، فقد أصبحت ثالث شريك تجاري لألمانيا بعد فرنسا وهولندا (قفز التبادل مع الصين من 36 مليار دولار إلى 144 مليار دولار خلال عشر سنوات).
وفيما يخص موسكو، تعتبر العلاقة حيوية على رغم التوتر الأخير حيال أزمة قبرص أو ملف السياسة الداخلية الروسية، وستكون زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى هانوفر يومي 7 و8 نيسان فرصة لترطيب علاقات المستشارة ـ الإمبراطورة والقيصر الجديد.
عبر هذا النمط الجديد في السعي إلى الزعامة العالمية، لم تشترك برلين في عملية ليبيا وتبقى متحفظة حيال أي تحرّك أوروبي في سوريا، أو إزاء أي دور أوروبي نشط في الضغط على اسرائيل في مسألة الاستيطان.
تعوض ألمانيا عن ذلك بطرح وساطات كما صفقة الأسرى بين إسرائيل وحزب الله، أو كما تحاول اليوم مع الحوثيين في اليمن. هكذا تتقاطع هذه السياسة بالأنانية الاقتصادية مع نهج دول البريكس وتبتعد عن التزام أخلاقي كان يتكلم عنه الغرب يوماً حينما اصطفّ إلى جانب ألمانيا الاتحادية في الحرب الباردة.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني- باريس
الجمهورية