تكمن أهداف روسيا الأكثر إلحاحاً في سوريا في الحفاظ على نظام بشار الأسد وتوسيع وجودها العسكري على ساحل البحر المتوسط، على الرغم من التصريحات الروسية المتكررة على خلاف ذلك. وباستطاعة موسكو تحقيق هذه الأهداف حتى لو لم تكن دمشق وحلفاؤها قادرين على استعادة الأراضي خارج معقل العلويين. لكن، إذا أراد فلاديمير بوتين أن يكون وسط رقعة الشطرنج السورية، فسيحتاج عندئذ إلى دفع بيادقه إلى المناطق السورية الداخلية. وفي هذا الإطار، يمكن لحلب على وجه الخصوص أن تكون هدفه التالي لأن جميع الأطراف الرئيسية في الحرب تتنافس حالياً للسيطرة على المدينة الشمالية الرئيسية. وبالتالي فإن خسارة هذه المدينة ستشكل انتكاسة سياسية واستراتيجية كبرى بالنسبة إلى الأسد، وستضعف نظامه في المفاوضات المقبلة.
وحالياً، لا يزال الجيش السوري يسيطر على ثلث [مدينة] حلب المرتبط ببقية المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة من خلال طريق ضيق. إلا أن هذا الممر يضيق أكثر فأكثر من جراء عمليات تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» شرقاً و«جبهة النصرة» – ذراع تنظيم «القاعدة» – غرباً. من هنا، من أجل الفوز في المعركة على حلب، سيحتاج الأسد إلى التعاون مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» – النسخة السورية من «حزب العمال الكردستاني» التركي. ويحرص «حزب الاتحاد الديمقراطي» على ربط الكانتونات الخاصة به في جميع أنحاء كوباني وعفرين، وفتح ممر لحي “الشيخ مقصود” – المنطقة الكردية في حلب. وقد أشارت مقابلة أجراها موقع “المونيتور” مع زعيم «حزب الاتحاد الديمقراطي» صالح مسلم إلى أن الحزب ربما يسعى لعقد تحالف استراتيجي مع الأسد وروسيا من أجل تحقيق هذا الهدف.
ساحة المعركة المعقدة في حلب
حلب هي مدينة مقسمة على أساس طائفي واجتماعي. فعندما اندلعت الحرب، كان أكثر من ثلثي سكانها الذين يبلغ عددهم 2.5 مليون نسمة من العرب السنّة، يليهم الأكراد (20-25 في المائة، وتم تعريب العديد منهم) والمسيحيون (10 في المائة، نصفهم تقريباً من الأرمن). كما وضمت المدينة مجتمعاً صغيراً من التركمان الذين ينتمون إلى منطقة أعزاز، فضلاً عن عشرات الآلاف من العلويين، وهم بشكل رئيسي من موظفي الخدمة المدنية والعسكريين من المنطقة الساحلية.
لكن الانقسام الرئيسي في حلب هو اجتماعي وليس طائفي – بين السكان الحضر والريفيين، ويعني ذلك جزئياً بين الأغنياء والفقراء. وقد سكن المحافظات الغربية سكان المدن لعدة أجيال، في حين أن الأحياء الشرقية والمنطقة الكردية هي عبارة عن مستوطنات غير رسمية تستضيف سكان الريف. وبالتالي فإن السكان الحضر الأصليين يحتقرون سكان الريف الذين جاؤوا للاستقرار في تلك المناطق، متهمين إياهم بمحاولة تحويل المدينة إلى ريف، الأمر الذي قد يدمر حلب فعلياً من وجهة نظرهم.
أما بالنسبة للريفيين فإن التضامن العشائري في المناطق الشرقية والشمالية لا يزال قوياً كما كان في الريف. كما أن السلطات المحلية فوّضت أيضاً قوة من الشرطة للعشائر التي عانت من خسائر فادحة عندما حاصر الثوار حلب في تموز/ يوليو 2012 (مثل عشيرة آل بري). وفي الوقت نفسه، وجد الثوار من الريف مقراً جيداً في المستوطنات غير الرسمية في المنطقة الشرقية، ولكنهم اشتبكوا مع الميليشيات الكردية في “الشيخ مقصود”، وواجهوا العداء من المناطق الرسمية والغنية التي دعمت الجيش السوري ضد الغزو الريفي.
أما خارج حلب، فإن التقسيم الرئيسي في المناطق الريفية في شمال غرب سوريا يكمن ما بين العرب والأكراد. فقد كانت الأقليات الدينية غائبة تقريباً عن هذه المنطقة قبل الحرب، وفي الوقت الحالي تبرز أربعة تجمعات شيعية فقط (الفوعة وكفريا والزهراء ونبل، وجميعها محاطة بالثوار)، ومجموعة صغيرة من الطائفة الدرزية في جبل السماق (التي تتوارى عن الانظار)، وقرية اليعقوبية المسيحية (التي تم التخلي عنها حالياً). أما بالنسبة إلى منطقتي عفرين وكوباني فهما كرديتين بالكامل، وهناك العديد من القرى الكردية بين هذين الحصنين (على الرغم من أن غالبيتها أُعطيت أسماءً عربية خلال حقبة التعريب البعثية، مثل القرى التركية حول أعزاز).
وفي الأشهر الأولى للثورة، خسر النظام السيطرة على معظم شمال غرب البلاد، ولا يزال سكان هذه المنطقة معادين للأسد باستثناء الجيوب الشيعية والمسيحية. إذ تمكنت قوات النظام من الحفاظ على بعض المدن الاستراتيجية (إدلب وجسر الشغور وأريحا) حتى ربيع 2015 وذلك بفضل الحشودات العسكرية الثقيلة والانشقاقات في صفوف المعارضة. ولكن بمجرد اتحاد مختلف الفصائل الثائرة في إطار «جيش الفتح»، لم يعد الأسد قادراً على السيطرة على المدن في محافظة إدلب، بينما أصبحت حلب الآن محاطة بالكامل تقريباً.
تحالف كردي؟
نظراً إلى البيئة المعادية في شمال غرب البلاد، اختار الأسد خيار الأرض المحروقة للتغلب على التمرد. ويهدف قصف مناطق الثوار في حلب إلى تخويف المدنيين لدفعهم إلى عزل المقاتلين، لكي يمكن إخراجهم من المنطقة كما تم في حمص. ومع مرور الوقت، انخفض عدد السكان في المناطق الشرقية من المدينة من أكثر من مليون شخص إلى عشرات الآلاف. بيد، فشلت هذه الاستراتيجية القائمة على مكافحة التمرد من خلال القصف والطرد لأن الثوار قد استولوا على كافة المدن الصغيرة المحيطة بها في محافظة إدلب وهم الآن يشكلون تهديداً خطراً على الجيش السوري في حلب.
وقد اضطر الجيش أيضاً إلى قتال قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» التي تهدد اتصالاته البرية والجوية. فقد كان مطار “كويرس” العسكري تحت الحصار لفترة دامت شهور وقد يلقى المصير نفسه الذي لقيه مطاري “أبو الظهور” و”الطبقة”، حيث ذبح مقاتلو «داعش» أفراد من العسكريين العلويين ونشروا لقطات من أعمالهم على نطاق واسع على شبكة الإنترنت.
لذلك، فإن إحدى أولويات الضربات الجوية الروسية المستمرة من المرجح أن تتجلى في دعم قوات الأسد للتخفيف عن هذه القاعدة من خلال ضرب تنظيم «داعش» بشكل مباشر. وهذا من شأنه أيضاً تبرير التدخل بشكل عام، وهو الذي صورته موسكو علناً على أنه عبارة عن حملة لمكافحة الإرهاب تستهدف تنظيم «الدولة الإسلامية». بيد، قد ينغمس بوتين بصورة أكبر في منطقة حلب، وتقوم قواته بضرب «جبهة النصرة» و «أحرار الشام»، وهما ركنا «جيش الفتح» المدعومان من المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا. وقد يكون ذلك كافياً لفرض بعض الخطوط الحمراء الجديدة على الثوار: على سبيل المثال، “وقف جميع الهجمات على الأجزاء التي يسيطر عليها النظام في حلب وإلا”. لكن إستعادة السيطرة على المدينة بأكملها ومحيطها تتطلب إغلاق الحدود التركية لوقف تلقي الثوار الدعم اللوجستي. وبالتالي، يمكن أن يُعهد بهذه المهمة إلى الأكراد الذين ربطوا جيوبهم الحدودية الشرقية في إطار أراضٍ يسمونها “روج آفا”.
ويقيناً، أن تركيا قد أخبرت «حزب الاتحاد الديمقراطي» بأنه لا يمكنه توسيع هذه المنطقة بصورة أكثر غرباً من كوباني، في إطار ما يبدو أنه استبعاد للخطوة لبناء صلة مع عفرين. وبالتالي فإن أي هجوم كردي من هذا القبيل من شأنه أن يضع حداً للاتفاق الاستراتيجي لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» مع الولايات المتحدة التي لا تريد أن يستولي الحزب على جرابلس وأعزاز. مع ذلك، فمن الصعب تصور التزام الأكراد السوريين بالوضع الراهن في منطقة حلب إلى أجل غير مسمى. إذ يعتقد الكثير منهم أنهم في لحظة تاريخية وهم عازمون على اغتنام الفرصة لبناء دولة من خلال توحيد جميع الأراضي الكردية السورية. وبما أنهم يعتبرون المنطقة الواقعة بين عفرين وكوباني على أنها منطقة كردية تاريخياً، فهم يؤمنون أنه يجب ضمها إلى “روج آفا”.
إن التصريحات الأخيرة لزعيم «حزب الاتحاد الديمقراطي» لا تعيد تكرار هذه الأهداف الكردية فحسب، بل تشير أيضاً إلى أن الحزب على استعداد للتحالف مع النظام والقوات الروسية من أجل تحقيقها. فكما قال لموقع “المونيتور”: “سنقاتل جنباً إلى جنب مع كل من يحارب «داعش»”. ومرة أخرى، منعت تركيا «حزب الاتحاد الديمقراطي» من التقدم نحو غرب كوباني كما لو كانت أراضي تابعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، كما أن المشروع التركي لإقامة منطقة عازلة في هذه الأراضي يتداخل مع مشروع “روج آفا” الكردي. لكن صالح مسلم يشكك في فعالية هذا الحظر بقوله: “إذا حاولت تركيا التدخل، فسيقومون بذلك. إذ تربط روسيا بسوريا اتفاقية دفاع مشترك. وسيمنعون التدخل التركي ليس للدفاع عنا [الأكراد] بل للدفاع عن الحدود السورية.”
وفي الوقت نفسه، في 27 أيلول/ سبتمبر قامت قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» من حي “الشيخ مقصود” بقطع الطريق الوحيد الذي يربط حلب بتركيا والذي يمر عبر أعزاز. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا، هل يسعى الحزب لفتح الطريق إلى عفرين، وهل سيتعاون مع النظام للقيام بذلك؟ وبالفعل، إن القوات الكردية قد ساعدت الجيش السوري و «حزب الله» على جبهتين، وتمثل ذلك بـ : محاصرة قوات الثوار في شرق حلب وإنقاذ بلدتي نبل وزهراء الشيعيتين المحاصرتين. ويتفاوض «حزب الله» حالياً مع المعارضة على إخلاء القريتان الشيعيتان الأخرتان في المنطقة (كفريا و الفوعة) مقابل إطلاق سراح المقاتلين من الثوار. كما يتم العمل بوقف إطلاق النار، إلى جانب رحيل حوالي 10 آلاف مدني من المنطقة. وبعد اكتمال هذه العملية، سيمتلك «حزب الله» مطلق اليدين للمساعدة في نبل وزهراء.
وعلى نطاق أوسع، إن حالة عدم اليقين السياسي في تركيا التي تلوح في الأفق والوجود الروسي المتوسع في سوريا قد يدفعان بالأكراد إلى المقامرة على اتخاذ هذه الخطوة، وربما يقومون بذلك مدفوعين من موسكو. وفي هذا السيناريو، سيكون الكرملين – وليس واشنطن – محاور أنقرة الذي لا غنى عنه، لكبح الطموحات الكردية. أما بالنسبة للأسد، فهو يعلم بأن شرعيته كرئيس لسوريا لا تعتمد على السيطرة على دمشق فحسب، بل على حلب أيضاً، لأن سوريا المعاصرة بُنيت على اتحاد هاتان المدينتان داخل نفس الدولة.
المحصلة
أمام القادة الغربيين خيارين للرد على تدخل روسيا والموجات المصاحبة له: إما أن يقفوا مكتوفي الأيدي ويصلّوا لأن تصبح سوريا – أفغانستان بوتين، أو أن يلعبوا وفق قواعد بوتين ويضمنوا مكانهم الخاص في تشكيل عملية السلام السورية في المستقبل. وفي كلتا الحالتين، لا بد لهم من الاعتراف بأن «حزب الاتحاد الديمقراطي» لن يتردد في التحالف مع روسيا والأسد إذا كان هذا هو السبيل الوحيد لحصوله على إقليم متواصل في الشمال. لقد قيل للأكراد السوريين مراراً وتكراراً إن الغرب لن يسمح لهم بالحصول على المزيد من الأراضي، وأنهم يخشون هجوماً محتملاً معادياً للأكراد مدعوماً من تركيا. لذا، فهم ينظرون حالياً إلى التدخل الروسي بشكل إيجابي. وقد لا تكون موسكو قادرة على مساعدة الأسد في إستعادة السيطرة على الشمال بأكمله، ولكنها بالتأكيد قادرة على منع الثوار العرب السنة من تهديد عملية توسيع “روج آفا” الكردية.
ووفقاً لذلك، تواجه الولايات المتحدة وشركاؤها قراراً صعباً: إما الحفاظ على الحظر المفروض على التوسع الكردي أو دعم مساعي «حزب الاتحاد الديمقراطي» لضم عفرين إلى كوباني. من شأن هذا المسار الأخير أن يساعد على إضعاف تنظيم «الدولة الإسلامية» بوقف قدرته على الوصول إلى تركيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأكراد هم القوة الوحيدة على الأرض التي ستدعم الجهود الغربية ضد تنظيم «داعش»، لذلك فإن إبقائهم في المعسكر الأمريكي يبدو أساسياً في هذا الوضع.
فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن. وقد قام بإعداد الخرائط الأصلية المكيّفة لهذه المقالة.