كلما تذكرت أفعوان الحاوي وصقره، ولأسباب أعرف بعضها فحسب، يحضرني أولئك اللبنانيون الذين ما فتئوا يرقصون على إيقاعات الاستبداد؛ لم توقفهم محطة، ولم تعرقل أقدامهم النشطة حصى وصخور دحرجتها الأيام هنا وهناك، وبرغم يقين هؤلاء أنّ أجور ما يواظبون على أدائه قد أخذت بالتضاؤل المطّرد، إلا أنّ حميتهم لم تفتر، وحماستهم لم تنطفئ، وأخفقت المشاهد المتلاحقة للحاوي الذي انقلب مذعورا بعد أن كان مايسترو متمكنا، في زحزحة جواري السلطان عن الغنج والتمايل والإغراء، ولم تتمكن النواقيس التي تصمّ الآذان في نذيرها المشؤوم من تنبيه هؤلاء أنّ زمان سطوة الطاغوت قد أفل، وأنّه لم يعد يعزف مبتهجا كقائد فرقة، وأنّ ألحانه اليوم تحفل في بنيانها ونغماتها الرئيسة بتوجس مركّب؛ منّا – السوريين -، ومنهم، ومن بقية أبناء مجتمعهم اللبناني! وما يزال لبنانيو النظام السوريّ، يراهنون كما سيدهم على مستقبل يخاصم حركة التاريخ.
وعلى الرغم من معايشة أغلب لبنانيي هذا النظام وإدراكهم العميق لظروف وصوله إلى التربع على عرش قيادة سوريا، ومعرفتهم الراسخة بالآليات غير الديموقراطية التي حكمت عمله السياسي والقيادي، إلا أنهم يشيحون حتى هذه اللحظة بأبصارهم عن ذلك كله، وينصرفون عما يقع في صميم و صلب مستقبلهم، ويبدون كمن تمسك بغريق، رغم توفر سفن النجاة، وكمن أضاع اتجاهه رغم المخارج الكثيرة، وكمن يرمي ما بيديه متوهما وفرة ما يمتلكه غيره!
ومن أسف، أنّ فقدان فريق لبنانيي النظام السوري حسّ لحظة التغيير هذا، يبدو مواكبا لمرحلة حرجة في خطورة التقاعس عن شأن فهم أبعادها، ومثيرة في انطوائها على فرص تحقيق انتصارات حقيقية لهذا الفريق، تعوّض حراجة اللحظة، وتغسل عار الرقص على أنغام رافقت الأقدام والنعوش والمعتقلات وأحزان لبنانيين وسوريين تموضعت في الضلوع عقودا، وما زال يمكن للحظة التغيير هذه، أن تجعل لبنانيي النظام السوريّ مرة ثانية في صدر جمهرة صنّاع أوان جديد للشرق الأوسط، مرحلة هذا حينها، أزفت،و ولجت التاريخ.
أفلا يصحّ أن نتساءل عن أسرار تهيبهم منها؟!
وما الذي يرغمنا على تصديق أنّ هؤلاء الذين صنعوا مفصلا في الزمن بتضحيات أبنائهم، وشرف شهدائهم، فحرروا الأرض، ورفعوا رايات انتصارالدم فوق حطام سيوف العدوّ، ولقّنوه دروسا في البطولة من جهة، يظهرون فجأة وقد ضاقوا ذرعا باحتمال اكتمال مشهد انتصار أبناء جلدتهم؛ الذين تمرّدوا على الاستبداد، ورفضوا أن يعيشوا الأمن المزيّف الباهظ الثمن، المدفوع من كرامات الأبناء والتنازل الممضّ و المزري عن أسس البشرية السويّة من جهة أخرى؟!!
يكاد قرّاء الثورات ومراقبوها تأكلهم الحيرة، عندما يباغتهم مشهد منتظري الفجر الأطهر، وقد تشبّثوا باللحظة، يملؤهم الحبور بدلالاتها واحتمالاتها، مستسلمين لكلفتها الباهظة ومستمرين في التسديد الدمويّ من أرصدة قوامها: مفكروهم الأبرز، وسياسيوهم الأغير وطنية، والأكثر حضورا ، وصحفيوهم الأجرأ، وفئات شتى من اللبنانيين شغلتهم حياتهم ومستقبل أسرهم ليصادفهم الغدر بوحشيته، يكاد مراقبو المشهد الذي تختلط فيه أعذب الأمنيات بروائح الاستشهاد، يستغربون ويستهجنون أن يستمسك لبنانيون باللحظة، ويفرّط بها لبنانيون آخرون، ولا يواكبون تفريطهم البائس هذا إلا بزراعة ألغام تتربّص غدرا بمن اعتلق أهداب فجره وارتضى التضحية لأجله، ولأجل بزوغه الذي استعصى على الشرق الأوسط زمنا، متطلعا من خلاله إلى أفق آخر، مترقبا الحضور الفخم لإنسان لبناني جديد، تحررت أرضه وحررت إرادته.
لماذا ينقلب هكذا شهيد تحرير أرض لبنان على شهداء حرية لبنان؟!
نعم، إنّ الذين صاغوا بدماء أبنائهم شرف تحرير الأرض، يصدموننا بتنكّرهم الشرس لشرف الاشتراك في ملحمة تحرير الإنسان من نير الاستبداد، ويرسمون بشراسة تنكرهم هذا هالات سوداء على إنجازهم الكبير، أخشى ما أخشاه، أن تتمدد هذه الهالات القاتمة فتجعل من اعترف بأولوية تحرير الأرض وكرامة الدم، ينقلب على وعيه، ويبدأ بمراجعة وخيمة في عواقبها لمجمل الإنجاز، ومسارات قنوات دماء الشهداء، وأسرار التحرير، وعلل التمترس بالسلاح الأعمق غورا! مراجعة تطلّ الفتنة وحدها برأسها الشيطاني من صلبها وتفاصيلها.
بخنّاق هذا الفريق من اللبنانيين يمسك النظام السوريّ، تظهر براعته في تمكّنه الفذّ من إدارة مخاوفه بعد تشخيصها وفق مصالحه، وألحان حوافّ الهاوية سيمفونيته المفضلة التي يحقن مسامع أيتامه اللبنانيين بإيقاعاتها، ولطالما عزفها للسوريين طوال أربعين عاما، واستطاع أن يحبط عبرها تطلعاتهم وتوقهم البشري الاعتيادي إلى الحرية.
لم يكن السوريون يصدقونه بطبيعة الحال، فلم تنطل على أغلبيتهم الساحقة شعارات التوازن الاستراتيجي، والصمود والتصدّي، وأولوية الاستعداد لأم معارك العروبة، ومحاذير الانجرار إلى المعارك الهامشية، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، ولكنهم تجرّعوا بصمت كئيب غصصهم، وفقرهم، وقلة حيلتهم، وحرياتهم التي انتهبها الاستبداد بسطوة أمنية تتحدّث عنها المقل والمهج بما يفوق قدرة الأساطير على وصف بطشها وعسفها، وسط ظروف معقّدة، وحسابات دولية مفتوحة على احتمالات صفقات شتى، أقلها تكلفة: بيع لبنان، وكتم أنباء المجازر مقابل تعاون استخباري بارد.
ولقد لعب العالم في تلك المرحلة أسوأ الأدوار لتوفير حزام أمان للدكتاتورية، دفعت أجيال سوريّة ثمنه من لحوم وأحلام الأبناء وكرامات الأسر، فقد تغاضت القيادات السياسية الدولية وفي مقدمتها قوى مجلس الأمن الدولي الرئيسة عن سوءات الاستبداد على قاعدة مصالحي أولا وبأي ثمن، قاعدة دكّها الحادي عشر من سبتمبر دكّا عندما تبين لأول مرة لأقطاب العالم القيادية فجور ما فعلته أيديها، وبؤس قراءتها لمصالحها على وجه الخصوص، وأدرك الغرب المتحضر على وجه التحديد ساعتئذ فقط، بعد جهد وضحايا أبرياء هنا وهناك وبؤر إرهاب تكاثرت كالفطور، أنّ ما فعله تسعة عشر وغدا انقضّوا على الأبرياء ذات صباح مروّع لم يكن إلا ثمرة مرّة أسهم بحمق سياساته في إنضاجها، وعلم مؤخرا فقط أنّ سياسة تغطية الاستبداد يمكنها أن تكوي معتنقيها قبل مستثمريها.
وكما تفعل المآسي، فإنّ مأساة الحادي عشر من سبتمبر التي لا تساوي ” إيجابياتها ” صرخة بريئة لطفل واحد فقد أباه أو أمه أو حياته، ولا تضاهي نواحا مؤلما لزوجة، وتقلّ بالتأكيد كيفما اتجهت، وعالجت، عن فجيعة أسرة فقدت حبيبا، كما تفعل المآسي على الدوام مهما عظمت، فقد اختطّت الكارثة أفقا جديدا ومختلفا، وبات بإمكان ضحايا الدكتاتورية أن يأملوا بأن غضب البشرية لما حدث، وحجم الفجيعة، ومراجعات سادة العالم سياسات بناء المصالح على تسليم الشعوب لجلاديها، أمكنها هذه المرّة أن توفّر فرصة تستطيع أن تغسل عار الماضي، وتسهم بدور بنّاء لمساعدة ضحايا الاستبداد هؤلاء على إطفاء نيران جحيم يسلق أبدانهم ويشوي أرواحهم، فرصة وجد معّذّبو الأرض أنفسهم يلتمسون إشراقتها عبر تقاطع خطّيّ ” مكافحة الإرهاب ” و ” الصراع ضدّ الاستبداد ” ولن يتغاضى الذين تحمّلوا سنوات القهر الكئيبة بالطبع عن التشبّث بما تحمله هذه الإشراقة من آمال، مهما عظمت تضحياتهم، فليس للحرية وفجرها من بديل سوى الحرية، ولا جائزة تضاهيها في عرفهم أبدا.
ولأنّ الأمر كذلك فإنّ تضامن الديكتاتوريات التي تتجه إلى مكبّ نفايات التاريخ الذي استقبل أمثالها، وتشكيلها محاور الظلام لن يسعفها في ليّ عنق الزمن، فهذا المارد لم يرتدّ مرّة واحدة إلى الوراء، وحكايا إعادة التاريخ نفسه، ليست إلا أوهاما اصطنعها لنفسه باحث مشعوذ، أو حاكم فاجر، أو قوى تتقن نرد الظلام ولن يطويها سوى الظلام.
مخدوعو الاستبداد من اللبنانيين ما زالوا يستطيعون قراءة اللحظة أيضا، واستثمارها، وانتخاب رئيس للبنان موعدهم الأميز، واستحقاق وطنهم الأهم، لست من يدعوهم إلى التوجه إلى طاولة حوار يطرحون عليها هواجسهم، ويبوحون لشركائهم في الوطن بمطالبهم العادلة المحقّة في مشاركة ديموقراطية في حكم البلاد والتوافق على ملامح وسيمياء المرحلة القادمة، لست من يدعوهم، فلا أملك أيّ صفة لدعوتهم، التاريخ ومعانيه وحركيته، ومستقبلهم وحقوقهم، وشركاؤهم في الوطن، كلّ هؤلاء يتشرّفون بدعوتهم، والتأخر عن قبول الدعوة هذه المرّة لن يساوي أكثر من تفويت حزين لمنعطف زمانيّ لن ينتظر، ولا يمكنه أن يتأخّر.
حلفاء الاستبداد المخدوعون هؤلاء، هم الأقدرعلى التمرّد على مرتزق تباهى برقصهم على إيقاعاته، وجنى ثمار تضحياتهم عامدا متعمدا، فلم تكن الثعابين التي أسلمت لدائن أجسادها مكرا، وانتظارا لجراب الحاوي الذي يعدها بالنهش المستديم إلا عدّة شغل وبوابة ارتزاق، ولم تكن الصقور التي مكر لإيقاعها في فخاخ زرقة عينيها ونبالة أصلها، ولم تمكنه منها إلا لأنّ في بصيرتها شغفا خاصّا لم يهضمه ولم يحسن مقاربته، واستسلمت لألحانه واهمة أنها تستخدمه، لم تكن هذه الصقور إلا نياشين شرف امتشقها زورا، وأوسمة مجد تقلّدها بهتانا، وها هي اليوم أسيرة رغائبه التي لا تنتهي، وفحشه الذي لا يتوقّف.
الحواة الذين تخرج أفاعيهم من سلالهم متمايلة، يدركون أن الوقت يحكم المسألة برمتها، وأنّ العزف الشجيّ المدروس لا يكفي، فهذه البهائم شديدة الخطورة، وليست دربتها على الاهتزاز رقصا أمام المتفرجين إلا تزييفا لحقيقتها وعبثا محترفا بهويتها، ففي أعماقها فحيح وتكوّر وهجومات صاعقة، وفي ظرف إطلالتها نفاق لن يطول أكثر مما يطيق، وسمّها يجول في الأفق، ولا يملك الحواة إلا وقتا محددا يتعيّن عليهم ألاّ يتجاوزوه، وإلا فما لا يمكن التكهن بعواقبه واقع لا محالة. الحاوي يدرك هذا ويزيد عليه عزفا مخلوطا بمراقبة حذرة، فإلى جوار الزمن المحدود في حدود أمانه، ثمّة خوف عميق لا يسمح لعيني الحاوي بإغفال أفعوانه كسرا من الثانية، وفي خوفه تعقيد لا يصعب تفكيكه إلى عناصره الرئيسة: بهيمة، موسيقا لا يجوز التراخي بشأن إيقاعاتها، ووقت، ومساحة جغرافية محدودة، وبشر يراقبون لا يملك الحاوي التحكم بتحركاتهم، وسلّة يرقب حوافّها على الأرض حذر انقلابها، وأسئلة تنهشه وتفحّ في رأسه عن طعام أفعوانه وشرابه، ومقدار قيلولته، وآخر فضلاته، ومخاطر مزاجه المتقلّب، ونقود الناس، وانسلال بشر تهرّبا من الدفع، ووجع الحنجرة إذ تنفخ، وأبواق السيارات، وأحزان قماشة الغلال المنقطة بالقروش المعدودة… ينفخ قصبته المهترئة، لتنسلّ أفعى سامّة تتمايل فتذهل المتفرجين بانسيابيتها وتمكّنها من إيقاعات سيّدها ومالك أمرها، يراقب مطواعيتها حذر غدرها! تسرّه إن أذهلت الحضور، وترهقه إذا ترنّح رأسها يمنة أو يسرة، يتحسس جرابه ليتأكد من وفرة العلف، ويبحث في ثنايا ثوبه عن مسدسه الملقّم سلفا، ويلبط بتؤدة عصاه الغليظة ليطمئنّ على جهوزيّة خوفه الحذر، وحسن إدارته جموحها الغدّار.. تريد الأفعى الانفلات عنه، ولكنه يشدّ أمراسها بألحانه المدروسة فيخاطبها بلغتها التي تتراوح مفرداتها بين الترغيب بالقبض على زمام الرقاب، والترهيب من فقدان أهلية العيش المنسجم، فيمسك الماكر بزمامها ويقبض على سمّها وينظّم فحيحها، تتبعه مضطرة تارة، وخاشعة تارة، وفي كلٍّ مضطربة مذعورة! ما أقسى عمل الحاوي! وأخطره! وأقلّ نقوده!
لم تكن الثعابين التي خبرها اللبنانيون منذ المحاكمة التي لم تساو إلا الحذاء، مرّة جوهريّة لسيّدها، فما هو جوهريّ في عرفه، تسلّطه، فإن لم يكن، فبقاؤه، ولم يعزف الحاوي مرّة لحنا إلا وواكبه بالخوف، وعضده بالحذر، وجدده بالهلع، ولم يستخدم مرّة سوى: شدقيه ينفخان، وعينيه تتربصان برقص مرعب هلع استحالته غضبا ومروقا وتمرّدا، ورجليه اللتين يتحسس بإبهاميهما مسدّسا محشوا، وجرابا حشاه كسرات خبز وأوهاما آخذة في النفاذ.
أما صقور الحاوي فمما لم يعد مثار شكوك كثيرة أنّ فسيح سماواتها يبدو وقد ضاق عليها، وهي في انحدار متسارع دؤوب نحو أودية لا تليق بشممها، وباتجاه جراب صممه الحاوي لأفعوانه، يكفي معدة الأفعوان، ويعالج غدره، ولا يملك أن يتفهّم مسارات دروب الشهداء وعنفوان الصقور!
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري
.