لماذا يصحو العالم، فجأة، على خبر الكيماوي في سورية، وينام بعد بضعة أيام، وكأن قتل الناس بالصواريخ، والرصاص، والحصار، والجوع، قبل الكيماوي وبعده، لا يُعتبر جريمة حرب؟ وطالما نحن في سياق الكلام عن جرائم الحرب فلنقل إن القذائف العشوائية التي يطلقها الدواعش: جيش الإسلام، وكتائب الرحمن، على الأحياء السكنية في دمشق، تدخل، أيضاً، في باب جرائم الحرب.
بمعنى أكثر مباشرة: اختطفت العصابات ثورة السوريين على نظام آل الأسد منذ سنوات، وأفرغتها من مضامينها الوطنية والديمقراطية. وهي عصابات داعشية طائفية تخدم أكثر من سيّد في الإقليم والعالم، وتحوّل ساكني ما سيطرت عليه من مناطق إلى رهائن.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد: تشخيص المسلّحين المعارضين للنظام كعصابات لمقاولين طائفيين، وأسياد حرب، لا يعني، بالمطلق، التعاطف مع النظام، أو تبرير سلوكه، ولا الاعتراف بشرعيته، أو التساؤل غير البريء: أنت مع النظام (بكل ما له وعليه) أم داعش؟ لا. لا هذا ولا ذاك.
ومع هذا، كله، إذ كان ثمة مَنْ يستحق الثناء، والتنويه، والاعتراف لهم بالبطولة، والتعاطف معهم في عذاباتهم، وتثمين تضحياتهم، فهم الآباء والأمهات، الأولاد والبنات، الكهول، والمرضى، والفقراء، والأطفال، الذي وجدوا أنفسهم منذ سبع سنوات بين مطرقة النظام وسندان المُسلّحين الدواعش.
بيد أن كل ما ذكرناه، حتى الآن، يندرج في إطار الموقف الأخلاقي، الذي يمثل الاحتكام إليه، والتذكير به، معياراً لعلاقة العاملين في الحقل الثقافي، والمعنيين بالشأن العام (المثقفين، إذا شئت)، بالحقيقة. ولن يكتمل معيار كهذا ما لم نفكّر في دلالات سياسية أبعد ينطوي عليها كل ما ذكرنا.
فمن الشائع، مثلاً، في أدبيات السياسة العربية، الكلام عن أنظمة فاشية، واستبدادية، ولكن ما فعله نظام آل الأسد بالسوريين حالة غير مسبوقة في تاريخ العالم العربي. صحيح أنه يحظى بتأييد جانب من السكّان، ولكنه أعلن الحرب بالطائرات والمدفعية والصواريخ على الجانب الذي تمرد عليه، ووجد في الإقليم والعالم مَنْ يتحالف معه، ويدافع عنه، ويمكّنه من البقاء.
وهذا مرعب وخطير. فإذا جاز لنظام آل الأسد في سورية أن يفعل هذا، فلماذا لا يجوز لغيره، في الشرق الأوسط، والعالم بالتأكيد، أن يشن الحرب على شعبه، إذا توفّر حلفاء أقوياء. بيد أن الأمر، على بشاعته، لا يتوقف عند هذا الحد. ففي النموذج الأسدي ما يجعل منه مسطرة للقياس، إذ يمكن لآخرين ممارسة القتل، والقول إنهم، ومهما ولغوا في الدم، لم يقتلوا بقدر ما قتل النظام، الذي لم يعاقبه العالم، فلماذا لا ينالون قدراً من التسامح، خاصة وأن دوافعهم أكثر “نبلاً“، وضحاياهم أقل عدداً، وليسوا من مواطنيهم.
ولكي لا نذهب بعيداً، فهذا ما عبّر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي، ليبرمان، قبل أيام، في معرض الرد على انتقاد البعض لقتل متظاهرين على الحد الفاصل مع غزة، في الأيام الأخيرة: “عندما ننظر إلى المنطقة كلها، حيث قتل نصف مليون في سوريا، ومئات الآلاف يقتلون في السودان وليبيا والعراق. لا أحد يتأثر. وفقط عندما نعمل نحن دفاعاً عن النفس أمام موجة إرهاب، فجأة يصرخ الجميع“.
وفي السياق نفسه، يصعب الكلام عما تنطوي عليه السابقة السورية من دلالات، دون التوقف أمام استيلاء عصابات داعشية مُسلّحة على ثورات شعبية، وإجهاض مضامينها الوطنية والديمقراطية، وما تُحرّض على، وتستدعي من، دلالات أخلاقية وسياسية بعيد المدى.
وهذه، في الواقع، ظاهرة عامة تتجاوز الحالة السورية نفسها، فقد ألقى الدواعش (على اختلاف تسمياتهم وراياتهم وأسيادهم) شباكهم في كل مكان ضعفت فيه سلطة الدولة المركزية، في العراق، ومصر، وتونس، وليبيا، واليمن، في موجة الربيع العربي، وخلاياهم حاضرة ومتحفزة في كل مكان من العالم العربي. ومع ذلك تبقى قصة نجاحهم في سورية استثنائية تماماً، فقد أزاحوا كل منافسيهم، واستولوا على ثورة شعبية سلمية، وأجهضوها، وحوّلوا جمهورها ومناصريها إلى رهائن في حرب أهلية طويلة الأمد.
وأسوأ ما في سابقة الاستيلاء على الثورة السورية أنها تكرّس فكرة الخوف من الثورة، وتغيير الأنظمة، والأمر الواقع. بمعنى أن القبول بنوع معروف ومألوف من ظلم وفساد أنظمة الاستبداد يبدو أفضل من القفز في مجهول الحروب الأهلية، بعد كل ما حدث في حالات مشابهة.
وإذا كان ثمة من هدف أسمى للثورة المضادة فلن يكون أكثر من هذا. ولو اجتمعت كل شياطين الإنس والجن لكي وعي الناس بالخوف من الثورة لما نجحت كما نجح نظام آل الأسد والدواعش على مدار سبع سنوات، هي عمر الربيع العربي، وعمر الثورة على النظام في سورية.
كانت أشباح حقوق الإنسان، والمواطنة، والانتخابات، والدساتير والبرلمانات، وتداول السلطة، والتعددية، مصدر ذعر دائم للمحافظين والرجعيين في العالم العربي. وقبل أن يكون الدواعش تنظيمات، وخلايا، وأسلحة، ودعاة، وتلفزيونات، ومسلسلات، كانوا تصوّرات أيديولوجية واستيهامات ظلامية عن خصوصية العرب الدينية والثقافية، المعادية للعلمانية، والأيديولوجيات المستوردة كالقومية والشيوعية، وما أنجبت الحداثة من أشباح.
أدى الدواعش، دُعاةً ومسلّحين، دورهم على أكمل وجه. أما الكوميديا السوداء فتتجلى في حقيقة أن النظام القومي، التقدّمي، العلماني، المُقاوم والممانع، كان شريكهم في تنفير الناس من فكرة الثورة، ودليل ما ينجم عنها من ويل وثبور وعظائم الأمور. تطاولتم على أسيادكم وقلتم: “الشعب يريد إسقاط النظام“ تفضلوا واحصدوا ما جنت أيديكم، فالنظام، أيضاً، يمكنه إسقاط الشعب. هذه ترجمة حرفية لشعار على جدران لا تحصى في سورية “الأسد أو نحرق البلد“.
لذا، وفي أجواء الهجوم الكيماوي الأخير، سواء أكان من صنع النظام أم الدواعش (لا فرق)، فلنقل إن ثمة ما هو أسوأ من الكيماوي، وأخطر منه.
khaderhas1@hotmail.com