حتى إذا قبلنا، جدلاً، رواية النظام السوري، وصدّقنا أن عصابات إرهابية مسلّحة تستهدف زعزعة الأمن، والنيل من صمود سوريا، وأن الجيش السوري يتصدى للإرهابيين، تبقى لدينا أكثر من مشكلة منطقية تستدعي الحل:
أولاً، النظام والجيش في سوريا قويان، يدعمهما عدد كبير من أجهزة الأمن والمخابرات. فهل يُعقل أن تظهر، فجأة، عصابات إرهابية مسلحة بهذا الحجم، وهذه الكفاءة، بعيداً عن أعين الدولة، وأن تتمكن من شن حرب على النظام على مدار ثلاثة أشهر، وعلى امتداد مساحة تغطي أغلب المناطق السورية؟
إذا كان الأمر كذلك، فهذا يلقي بظلال من الشك على قوّة النظام والدولة، وعلى كفاءة أجهزة الأمن والمخابرات، وبالقدر نفسه يضع علامات تساؤل بشأن قدرة الجيش السوري، الذي ما أن يدخل إلى مدينة لتطهيرها من العصابات حتى نسمع عن ذهابه إلى مدينة أخرى، فالاشتباكات تتواصل، والجيش يخرج ويدخل بلا نتائج ملموسة.
ثانياً، هل يُعقل أن تخوض عصابات إرهابية مسلحة تمرّداً عسكرياً، وأن تتسم بهذا القدر من القدرة على البقاء، في مناطق سورية مختلفة، ولفترة طويلة من الوقت، دون أن يقول لنا النظام مَنْ هي، وما هي، ممن تتكون، ومن يدعمها، وكيف حصلت على ما لديها من عدة وعتاد. باختصار، ما اسمها، ومن أين أتت، ماذا تأكل، وأين تنام، من يقودها، ومن ينطق باسمها؟
الرواية الرسمية للنظام السوري (ولا أستعين هنا بكلام المعارضة عن انشقاق في صفوف الجيش) لا تتكلّم عن عبوّة تنفجر بين الفينة والأخرى في هذه المدينة أو تلك، ولا عن حادثة إطلاق نار، وعن كر وفر، بل عن صدامات مسلحة تستدعي تدخل الدبابات، والمدفعية، وناقلات الجند، وطائرات الهليوكوبتر، وعن مسلّحين قتلوا مائة وعشرين جندياً في يوم واحد.
في لبنان، مثلا، استولت عصابة مسلحة على مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، فأخذت المخيم وقاطنيه رهائن، وأصبح اسمها (فتح الإسلام) معروفاً خلال أيام، وتمكن الجيش اللبناني، على تواضع إمكانيته مقارنة بالجيش السوري، من تطويقها، وعزلها، والقضاء عليها، بصرف النظر عما دفعه الجيش والفلسطينيون واللبنانيون من ثمن باهظ، وعن الوقت الذي استغرقته عملية الحسم.
ثالثاً، وما العلاقة بين الصدام مع جماعات إرهابية مسلحة، وفرار اللاجئين السوريين إلى تركيا؟ هل هربوا خوفاً من العصابات، أم من بطش الجيش؟ ولماذا يبطش الجيش بمدنيين لا ناقة لهم في كل ما يجري ولا جمل، خاصة وأن الرواية الرسمية تتكلم عن استغاثة الأهالي بالجيش لتحريرهم من العصابات.
ولماذا تبطش العصابات المسلّحة بالمدنيين، وهي تخوض حرباً على النظام باسمهم، أو على الأقل تريد تأليبهم عليه. إذا فعلت ذلك لخلق الفوضى، فمن المنطقي أن يهرب المدنيون السوريون من مناطق تسيطر عليها العصابات المسلّحة إلى مناطق أكثر أمناً يسيطر عليها الجيش في الداخل السوري، ليصبحوا في مأمن من العصابات وتحت حماية الدولة. لماذا خلت بلدة “جسر الشغور” من ساكنيها قبيل دخول الجيش؟ إذا صحت الرواية الرسمية للنظام فمن المنطقي أن يعودوا بعد دخول الجيش، لا أن يهربوا منه، خاصة وأن الرواية الرسمية تتكلّم عن استغاثة السكّان هناك بالجيش.
رابعاً، وما العلاقة بين المظاهرات المطالبة بالحرية والإصلاح، والحرب التي تخوضها العصابات المسلّحة، أم أن أخبار المظاهرات في أيام الجمعة، والصوّر التي تتناقلها الفضائيات، وشهود العيان، وروايات الفارين والمعارضين، جزء من المؤامرة، ومن حملة إعلامية تستهدف التضليل، وزعزعة الأمن والاستقرار؟
هل تمزيق صور الرئيس، وهدم ما لأبيه من تماثيل، ورفع شعارات تدعو لإسقاط النظام، جانب من نشاط المتظاهرين العاديين، أم مجرد جانب من نشاط وإستراتيجية العصابات المسلّحة؟
إذا كان هذا كله جزءاً من المؤامرة، فلماذا الإقدام على خطوات إصلاحية مثل رفع قانون الطوارئ، رغم أن مجابهة مؤامرة كهذه تستدعي أكثر من قانون للطوارئ؟ ولماذا الدعوة إلى الحوار، وإطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين، ولماذا منح الجنسية لمائة ألف من الأكراد، ألا تمثل خطوات كهذه اعترافاً ضمنياً بجدية مطالب المظاهرات والمتظاهرين؟
ربما نستخلص من الرواية الرسمية أن النظام يريد عزل المطالبين بالإصلاح عن العصابات المسلّحة، وبالتالي يرد على مطالبي الإصلاح بالإصلاح، وعلى العصابات الإرهابية المسلحة بالسلاح. والمشكلة، هنا، أن الرواية الرسمية لا تميّز بين هؤلاء وأولئك، ولا تساعدنا، أيضاً، على التمييز بينهم، ناهيك عن حقيقة أن أعداد القتلى في ازدياد، وأن لا نهاية واضحة في الأفق، ولا خارطة للطريق.
لا يشكّل كل ما تقدم تمريناً في المنطق، ولا يشكل محاولة لتفنيد الرواية الرسمية السورية، ولا يستهدف حتى تحليل الواضع الراهن في سوريا. كل ما في الأمر أن الرواية الرسمية للنظام تُعيد التذكير بعالم “جورج أورويل”.
وفي عالم كهذا فإن المثير ليس اكتشاف الكذب، والتدليل عليه، بل تحليل الديناميات الخاصة بتوليده، ووسمه بميسم الصدق، ومرجعياته المحتملة، وما يتركه من أثر على علاقة الإنسان بالواقع، أو الحقيقة.
المفارقة، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالرواية الرسمية السورية، أن تحليلاً كهذا لا يحتاج إلى كثير جهد، أو حتى إلى براعة في القياس، فما يحتاجه السائل لا يتعدى عدداً قليلاً من الأسئلة الساذجة والمباشرة. أسئلة ساذجة ومباشرة تكفي.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
Khaderhas1@hotmail.com