في البداية قد يكون بعض المقارنة مفيدا للتذكر والتفكر: مشهد “14 آذار” في صالة المعارض الكبرى “بيال” 2011 بدا أشبه ما يكون بمشهد تأسيس قوى “8 آذار” في عين التينة في ربيع العام 2005، حضور شيعي كاسح في عين التينة وحضور سني هزيل ومسيحي اكثر هزالاً فضلا عن حضور درزي رمزي.
في العام 2011 حضور سني كاسح وحضور مسيحي إشكالي وحضور شيعي هزيل وحضور درزي رمزي.
المعنى: في المرتين كان ثمة طائفتان أساسيتان تقرران الحجم وموارد القوة. الشيعة في “8 آذار” والسنة في “14 آذار”.
ما الذي جرى للمسيحيين والدروز؟ سؤال يجدر ب “14 آذار” أن تجيب عليه أولاً، علماً أن الدور الذي لعبته قوى “8 آذار” في تهميش الدورين المسيحي والدرزي قد يكون أكثر خطورة على مستقبل هاتين الطائفتين في الآتي من أيام البلد.
إنما يجدر بنا أن نتحدث في هذه اللحظة عن المعنى الكامن وراء هاتين الصورتين. في ربيع العام 2005 كان ثمة حكم (حالي) متهالك ويطالب بالمشاركة، وحكم (سابق) يستعد للإمساك بأعنة السلطة. لهذا كان الحشد في عين التينة هزيلاً على مستوى النصاب السياسي في البلد وكان حشد “14 آذار” صافياً وراجحاً على مستوى النصاب السياسي في البلد. وهذا ما جعل “حزب الله” يومها، وأمينه العام السيد حسن نصر الله تحديداً يبدي لين عريكته حتى آخر حد.
ثمة فارق بين الفريقين الآذاريين يجدر بنا تسجيله لأنه بالغ الأهمية من حيث التطلب والتطلع والأهداف: فريق “14 آذار” كان على الدوام وفي معظم المحطات، إن لم نقل كلها، طالب تسوية. فريق “8 آذار” في معظم المحطات إن لم نقل كلها كان طالب استئثار. ولقد استأثر بقرار الحرب والسلم منذ البداية ولم يقبل أي مشاركة على هذا المستوى على الإطلاق حتى في أكثر لحظات ضعفه وضوحاً وحدة.
العكس صحيح بالنسبة لفريق ” 14 آذار” وربما ليس مجدياً أن نتذكر محطات معينة لتأكيد ذلك. الخلاصة، وبناء على ما تقدم، وتأسيساً على تطلب التسوية بصفته مبدأ لم تحد “14 آذار” عنه أبداً، يجدر بنا أن نسجل ملاحظات عديدة، منها ما هو أخطاء كان يمكن تداركها، ومنها ما بدا خطيئات أسست في ما بعد لهذا الترهل الذي تعاني منه قوى “14 آذار” اليوم.
ما دمنا طلاب تسوية فيجدر بنا أن نعترف أن الخطيئة الأولى ومنذ البدايات تمثلت في توجه تظاهرة 22 شباط إلى البرلمان لإسقاط حكومة عمر كرامي. في ذلك الوقت كان السنة مفجوعين باغتيال أبرز زعمائهم، وزعيمان كبيران من زعماء المسيحيين خارج البلاد. لم يكن مفهوماً لعاقل يومها أن تركز موجة “14 آذار” العاتية هجومها على عمر كرامي.
فعمر كرامي كان طوال زمن الهيمنة السورية على لبنان أقرب إلى روح معارضتها. وكان حرياً أن تتركز الهجمة على رأس السلطة الذي منذ توليه السلطة قرر تسليم مقاليد البلد كلها للسوريين. والحال، أهين زعيم سني، وتم تجاهل زعيم آخر هو سليم الحص واغتيل الزعيم الأهم. السنة بدوا في تلك اللحظة أيتاماً، فيما بدا المسيحيون يضعون رجلاً في الوطن ورجلاً في المنفى. هكذا آلت الزعامة إلى وليد جنبلاط.
الأرجح أن جنبلاط فكر بأن هذه الزعامة ممكنة التحقق. أي قيادة السنة والمسيحيين والدروز معاً، وتحقيق الحلم الذي عجز والده عن تحقيقه رغم باع والده الطويل في السياسة والفكر والحضور. وعليه تأسست الخطيئة الأكبر: لقد أفردت “14 آذار” لجنبلاط حيزاً فضفاضا، وتالياً لم يتوان هو نفسه عن محاولة الإبقاء على الزعامة لهذا الفريق حتى لو أدى ذلك إلى ربح الفريق الآخر وخسارة فريقه.
كان موقفاً صحيحاً أن تسعى “14 آذار” في تلك اللحظة من انتصارها إلى محاولة ترتيب تسوية مع “حزب الله” والشيعة عموماً. لكن الهجوم على النائب ميشال عون لم يكن ضرورياً البتة، بل كان خطيئة لا سبب لها على الإطلاق، ولم يكن ثمة من داع لحصولها. هذا وقد خيضت انتخابات العام 2005 على قاعدة السنة في مواجهة الموارنة، ولم يكن ذلك مستحباً أو مرغوباً، بل أكاد أجزم أنه كان خطأً فادحاً.
خرج عون من الفريق الاستقلالي، والتحق بـ”حزب الله” -المنظمة الامنية والعسكرية – وخسر السنة احتمال تكتلهم الصلب.
والحق أن تجاهل سليم الحص والهجوم الحاد على عمر كرامي في تلك الأيام هو الرحم التي ولد منها سياسيون من أمثال ميقاتي والصفدي، يطمحون على الدوام إلى إيجاد مساحة سنية أخرى غير المساحة الطبيعية التي تمثلها الحالة الحريرية منذ التسعينات وإلى أجل غير معلوم، ذلك أن تاريخ السنة السياسية في البلد كان حافلا بقيادات متعددة من الرؤساء السابقين الذين قد يصبحون لاحقين. ومن جهة ثانية، لم يكن ممكناً، أو لنقل أنه كان صعباً، على ميقاتي أو غيره أن يخرج على طوع الطائفة، وهي على ما يقول النائب نهاد المشنوق (أهل الأمة) لو أن ثمة حيزاً سنياً ما على غرار اجتماع دار الافتاء يتيح التنوع في قلب الوحدة.
الذي حصل أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان حريصاً دائماً على المحافظة على هذا التنوع، في حين أن تجربة العام 2005 بقيادة وليد جنبلاط لم تفعل غير قطع أواصر الصلات السنية على المستوى القيادي الأعلى.
اليوم ثمة أمل في ما جرى في دار الافتاء وهو أمل يجب تغذيته والمحافظة عليه بالرموش وتوسيعه ما أمكن.
في المقابل، حتى السيد وئام وهاب لم يتم التخلي عنه، والسيد ناصر قنديل حوفظ عليه، وطبعاً حرص “حزب الله” ورعاته على العلاقة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وعلى تقديمه على غيره وإعطائه موقعاً لا يستحقه، بحسب موازين القوى وتوجهات الطرف الأقوى شيعياً، في حين كانت قوى “14 آذار” تفرط بقواها ومراكز قوتها.
في السلوك السياسي العام طوال السنوات السابقة حرص “حزب الله” وسوريا على استغلال هذه النقطة تحديداً، فلطالما أشاعوا أن الحريري ذاهب إلى التسوية من دون حلفائه، ولطالما شددوا على استبعاد رئيس الهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع ورئيس الجمهورية الاسبق أمين الجميل من أي معادلة، في محاولة للإيحاء أن “14 آذار” على وجه العموم لا تحافظ على مكتسباتها، وهذا لم يكن ممكناً تصديقه أو إشاعته في الوسط السياسي اللبناني لولا أن سلوك “14 آذار”، كان على الدوام أقل حرصاً على حلفائه من قوى “8 آذار”.
لنتذكر النائب السابق حبيب صادق الذي كان يمكنه تشكيل حالة شيعية ما في الجنوب، كيف تم التخلي عنه رويدا رويداً إلى الحد الذي جعله خارج المعادلة كلياً. والأهم من حبيب صادق هو اللقاء الشيعي: إذا لم يكن اللقاء الشيعي مهماً فلماذا جرى الحض على تأسيسه؟ ألم تخسر “14 آذار” شخصية اعتبارية كبرى تتمثل في السيد محمد حسن الامين لتربح أمثال أيمن جزيني (كاتب هذه الأسطر)؟ المسألة بهذه البساطة. “14 آذار” تخلت عن قواها وعن مصادر قوتها سعياً إلى التسوية مع الفريق الآخر. والأرجح أنها لم تغادر هذا السلوك بعد.
أعود إلى التأكيد على تطلب التسوية عند فريق “14 آذار”، وهو فضيلة وليست نقيصة، لكن تطلب التسوية لا يعني في حال من الأحوال أن نقدم تنازلات كبرى. لماذا رضيت “14 آذار” بالثلث الضامن؟ لماذا قبلت بنبيه بري رئيساً؟ أنا لا أقول أنه كان يجب ان نأتي يومها بالوزير باسم السبع، بل اقول كان يجب أن نثبت لـ “8 آذار” أننا من يصنع رئيس المجلس وأنه مدين لنا حتى لو انقلب علينا.
في موضوع رئيس الجمهورية ميشال سليمان، فالسؤال: لماذا رفضت قوى “14 آذار” ترشيحه؟ ولماذا قبلت في ما بعد به؟
في موضوع العزوف عن التشكيل لماذا حصل ومن نصح به؟ إذا لم يكن ممكناً ان نستمر عازفين عن التشكيل فلماذا أقدمنا على الخطوة؟
في موضوع التسوية (س-س) لماذا حجبت قيادات “14 آذار” مضمون التسوية عن جمهورها؟ لماذا انفردت وسائل إعلام “8 آذار” بتسويق تسويات على ذوقها؟ ألم يترك هذا الحجب ارتباكا لدى قوى “14 آذار” كافة، أدى أحياناً إلى شعورها بالبكم التام؟
هذه عناوين عامة، وفي التفاصيل ثمة الكثير مما يمكن إيراده إنما يجدر بنا استخلاص التالي:
– 14 آذار تفتقر إلى الوفاء لمن ناصرها، خصوصاً حين يحاصر مناصروها من قبل أعدائها.
– 14 آذار تحجم عن الإفصاح السياسي أمام جمهورها ونخبها وتتركهم في عمى عن كل شيء.
– 14 آذار طالبة تسوية لكنها أحيانا تسلك مسلكاً طائفياً ضيقاً.
– 14 آذار تستهين بمواردها: في وقت كانت نخب البلد الفكرية والإعلامية أقرب إلى “14 آذار” منها إلى “8 آذار” وأجزم أنها ما زالت، إلا أن اصوات هؤلاء مغيبة تماماً حتى ليكاد صمتهم يصم الآذان.
وفي وقت تبدو قوى “14 آذار” هي المسؤولة عن النهوض بالاقتصاد الوطني، تخسر أمام مطالبات “8 آذار” الشعبوية لأنها لا تدافع عن حقوقها في هذا المجال. علينا أن نذكر دائماً أن الشؤون الاقتصادية تناقش من جهتين دائماً: جهة من يؤمن الوظائف والأرباح ورؤوس الأموال وجهة محدودي الدخل.
نحن أيضاً نحب محدودي الدخل، فلنطالب السيد نصرالله بإنشاء مصانع وجامعات لتشغيل الناس ما دام يطالبنا بزيادة الأجور فحسب
(منسق عام الإعلام في تيار “المستقبل”)
“قضايا النهار”