نقطة البداية، سؤال عملي ومباشر:
هل يحتاج الشارع الإسلامي إلى هذا الكم الهائل من العودة لقراءة تراثه؟ أو بشكل أكثر دقة، هل هو بحاجة إلى كل هذه المحاولات اليومية، لمن يقرأ نيابة عنه تراثه الإسلامي؟
أرى أننا نقع على بعض المفارقات التي تحمل طرافة ومغالاة في محاولات: النبش والحفر بعيداً في التاريخ الإسلامي من أجل الحصول على الغث والسمين، “إن جاز التعبير”، في هذه الوثائق والحفريات على حد تعبير الأركولوجيون، هذه الحفريات، التي طالت الثانوي والمهمل، وما لا يعتد به أيضاً! محاولة إعادته للحياة بما يحمل من سلبية أو ايجابية تراكمته وعيا بالسلطة صاحبة التأويل وليس بالحفرية المؤولة، واستكمالاً للمفارقة هذه أجد: أن التيارات الحداثية وما بعد الحداثية، قد كُشِفت للراهن ـ حسب موقع الباحث أو المفكر الذي يقوم بالحفر في هذا التاريخ ـ إما لتأويله*1 أو لإحداث خرق اجتهادي فيه، أو لمحاربته جملة وتفصيلا.
لقد ساعدت هذه التيارات على التهويل من خطر النخب الإسلامية المتشددة، على حساب السلطة المُتَغَوِلة، كمثال، الحفر من أجل إظهار الجانب الإيروتيكي في التجربة الإسلامية. وباعتقادي أن: التأويل تعبير عن أزمة أمة وثقافة، الأمة التي يصبح الاجتهاد اليومي جزءاً من حياتها المنخرطة في تاريخيتها الراهنة، لا تحتاج إلى تأويل تاريخها، بهذا الكم. التأويل هنا يأتي بشكل أو بآخر محاولة للاحتماء بالماضي، من أجل مواجهة أزمة مع الحاضر من أجل تجديده وبث الروح فيه. أو كما يعبر أسلافنا، الاحتماء بالغائب نتيجة أزمة في الشاهد. التأويل مهما كان لا يسمح بترك بابه مشرعا لحيادية- لموضوعية- المؤول تجاه راهنه. لنا في تجربتي كلا من ،( كارل بوبر) في إعادة تجديد الليبرالية على طريقته ذات البعد السياسي السجالي المباشر، ولدينا فلسفة الاختلاف، لمواجهة أزمة مركزية العقل الأوروبي، أو عقل الإنسان الأبيض، حيث أصبح الهامش له حضوره المرضي في الحياة الغربية، سواء داخل مجتمعاتها( فوكو) أو داخل نزوعاتها للهيمنة على الخارج( ليفي شتراوس، و ديريدا) كما(تودورف ) الذي عاد ليقرأ مجازر الإنسان الأبيض بحق الهندي الأحمر، إنها أزمة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومخلفات حرب سبقتها. تركت أوروبا في حالة من العجز عن تفسير هول الخسارة والموت: خمسون مليون أوروبيا قضوا في هذه الحرب! إضافة إلى هولوكوست لازالت معززة مكرمة- رغم غزة- أقر بأني أميل هنا إلى خطاب سجالي لا يترك أثرا للمرجعيات النظرية أن تأخذ من النص حيزا يعتبره بعضنا مصدر القوة في نصه. وهذا ما أعتبره: أن إحضار النص لا يحضر وقائعه التاريخية كما هي في لحظة انبثاقه- كتابته وتعميمه- لو كان يُحضر وقائعه لخفت كثيرا وظيفة التأويل. لوكان أبو هريرة رضي الله عنه بيننا الآن، فما احتجناـ ربما ـ إلى كل هذا الكم من تأويلات الحديث النبوي الشريف، رغم أننا في هذا المجال نُؤول عن مئول، تأويل يراكم تأويل! ما وردنا مكتوباً، مشروحاً أو مفسراً في الصحيحين أو الأربعة أو الستة، التي جمع أصحابها الحديث النبوي الشريف، هو كتابة تأويلية لأصحابها. أو لو أتيح لنا أن نشاهد غزوة بدر، أو نحضر واقعة السقيفة ونشهد الشورى فيها، لما احتجنا لكل هذه المجلدات التي تملأ المكتبات، والتي يعجز المواطن العربي والمسلم عن قراءتها، لهذا يمكننا بجرأة أن نقول: أن تأويل الداعية التلفزيوني”عمرو خالد” الآن ربما يعتبر أهم من أي تأويل آخر، وكنا أعدنا مشاهدة الانشقاق الشيعي السني بتفاصيله، التي تملأ كتب الطرفين وبوتقتهم في نواصب و روافض أيهما على حق!؟
عندها هل يمكن لنا الحكم في هذه القضية؟ لهذا من الاستحالة تحقيق مثل هذا الأمر فيصبح للتأويل وظيفتين مباشرتين الأولى: بث الروح في النص”الأصل” أو في الواقعة “الأصل” والوظيفة الثانية:
سحب تفاصيل الواقع لإدخالها في النص المؤول، أو في الواقعة المؤولة من أجل عصرنتها. وجعلها جزءاً من راهن هو في الأساس ” كما نزعم” لا يحتاجها.
بعد هذا المدخل السريع يمكن لنا أمام هذا الكم أن نقول بشكل واضح، أن ما لدينا ليس أزمة تراث، بل بات لدينا تراث من الأزمة، فيما لو واجهنا في الواقع حجم التأويل الذي جرى على النص والتاريخ الإسلامي خلال أكثر من قرن ونصف. حيث استطاع الغرب أن يرفدنا بكل ما يمكن أن نقول عنه عصر الكتابة، بمعنى أن الغرب له الفضل في تعميم الكتابة،بمطبعته، ورخص صناعته للورق.
كيف يمكن لمواطن متعب تائه، أن يبقى لاهثا وراء تأويل ينتج تأويلا، وكأننا أمام ولادات أوتوماتيكية. تراث كامل تَرَكته لنا نُخَب من علماء وفلاسفة ومفكرون ،إسلاميون أوعرب ومستشرقون دخلوا على خط تأويل تاريخنا الإسلامي. لهذا وصل حدود التأويل عند بعض الجماعات مثلا”إلى وجوب قطع الرأس بالسيف أمام عدسة تصوير، أو عدم النوم بجانب الحائط لأنه مذكر، أو عدم استحمام المرأة عارية في حمامها، لأن الشيطان يراها” أليس هذا تأويلا؟ لا أريد تبخيس الأمر والتقليل من قيمة الإنتاج المعرفي والأيديولوجي لأحد، لكن الموضوع يتعلق، بأننا لم نعد أمام حالة أزمة في تراثنا، لأنه لم يكن مأزوماً ولو كان كذلك لما تشكل هذا العالم من مليار و مائتي مليون مسلم تقريبا، رغم ما عاشه من حروب وفتن ودمار وإعمار فقد حمل للبشرية ما هو جديد وإنساني *2 لكن من سنة الحياة وتطورها، أن الجديد يتحول بفعل الزمن إلى قديم، و القديم لا بد من التعامل معه كقديم هذه هي المعادلة باختصار، والقديم لايمكن أن يحيا برموز الجديد ، لكنه يحضر داخلها دون أن يهيمن كتراكم معرفي أو أخلاقي أو إنساني. إذن أزمتنا في تراث الأزمة التي نعيشها، وهي أزمة حاضر لا نريد القبول بوقائعه، وهذا ما يجعل من التأويل على الدوام وظيفة دائمة الحضور لكي تزيد من مؤلفات الأزمة، دون أن تساهم في حلها. إن للتأويل في عالمنا العربي، سلطة تقف خلفه وسلطة تمنعه أيضا حسب أهوائها، وهنا أعتقد أننا يجب أن نركز بحثنا في سلطة التأويل وتأويل السلطة، وأنا هنا لا أتحدث عن السلطة بمعناها الضيق المجسد فقط، وإن كانت تستوعب المعنى الضيق لكنها أكبر منه في الحقيقة. حيث من المؤكد أن الخلاف ليس على قراءة التراث وما حدث فيه، بل الخلاف هنا في هذا الحاضر المسدود الآفاق كما يراه المؤولون أو أكثريتهم، والذي يحيلنا إلى الماضي نستجدي منه رموزا لا تصمد مع الحياة أبداً. وللتأكيد على ما ذكرناه، أسأل:
أية مؤسسات تحتفي بهذا التأويل؟
أية مؤسسات تختار من هذا التأويل أو ذاك لتسويقه؟ يقول د . نصر حامد أبو زيد:” في أعقاب حرب 1967 اختلفت الصيغة، وانقلبت المعادلة بين المتن والفرع؛ ولم تعد الحداثة مرجع تأويل التراث، بل صار التراث هو مرجع تأويل الحداثة، وأصبح التراث هو المتن الذي يؤوَّل عليه” ـ مقابلة في دمشق أجراها معه الباحث السوري محمد علي الأتاسي ـ وهل بالفعل كان الأمر قبل عام 1967 تماما كما يقول مفكرنا العزيز؟ ولماذا؟
بالنسبة لي أرى الأمر كالتالي: هل المطلوب منا أن نبقى دوماً في عتبة التأويل؟ وإلى متى؟ ثم لماذا لا نحاول أن نقارب التأويل لجهة أن، الكائن الإنساني لا يولد مسلماً، مسيحيا، أو يهوديا، شيعيا أو سنيا، علويا أو درزيا،..الخ بل تُضاف إليه هذه الصفات ويرسم بها الإنسان دون دراية منه، تُفرض عليه من سلطات أكبر، تبدأ بوالديه ثم تتبعها المدرسة، فالشارع، فالمحيط المجتمعي أو الجامعة… هي كل هذه السلطات، التي يمر بها الكائن في منطقتنا، أين تختبئ؟ وهل تحتاج لكل هذا الكم اليومي من التأويل من أجل إخفاءها؟ أليست كلها سلطات راهنة، موجودة؟
صار التراث بعيدا جدا كما أنه مضى، لكن ما نراه اليوم هو تراث آخر نشأ من تأويل ما مضى، وتحول بعدها ليصبح تراثاً.
في النهاية، هل يمكننا الحديث عن معنى يُستنبط من ماض، كي نساعده على غزو الحاضر ونحيله إلى سلطة فيه؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فمن هو القادر على تحويل هذا الاستنباط في مجتمعاتنا إلى سلطة؟
بن لادن يستنبط معنى، الشيخ القرضاوي يستنبط معنى آخر، نصر حامد أبو زيد والجابري ..الخ أي معنى يأخذ سلطته في الراهن، وعلى أيٍ منها يتوقف الأمر؟ البعض يرى أن لهذا الكم من التأويل وظيفة تؤديها: وهي رفع القداسة عن هذا التاريخ، ولكن رفع القداسة ذاتها تحتاج إلى سلطة لتثبيتها.
ختاما: هل تنجو محاولتنا هذه من فخ التأويل؟
*1 أن تفسر عملا ً أدبيا ً، بالمعنى الضيق و الدقيق، هو أن توضح معناه اللغوي بوساطة التحليل وإعادة السبك والصياغة بغية زيادة معناه جلاءً، وكذلك التعقيب والشرح، وعادة يركز مثل هذا التفسير، على نحو خاص على المقاطع الغامضة والمبهمة أو المجازية. أما في المعنى الواسع، فأن تفسر، هو أن تجعل مغزى العمل الأدبي الشامل، الذي تشكل اللغة مادته، واضحاً. والتفسير بهذا المعنى يتضمن التحليل المفصل لأوجه العمل الأدبي مثل: جنسه الأدبي، عناصره، بنيته، موضوعه، وتأثيره. أما مصطلح التأويل hermeneutics ، فإنه كان قد استُعمل في الأصل تحديدا ً للدلالة على تفسير الكتاب المقدس. وهو بذلك يتضمن كلاً ً من استنباط قواعد تحكم القراءة الشرعية الصحيحة لنصوص الكتاب المقدس، وكذلك تحكم التأويل أو التعقيب والشرح المفسـِّر حول تطبيقات المعاني المعبر عنها في النص. وعلى أية حال فمنذ القرن التاسع عشر تصدى التأويل لمهمة صياغة النظرية العامة للتفسير. ويعني ذلك استنباط الإجراءات والأسس اللازمة لإدراك معنى النصوص المكتوبة كافة، بما في ذلك النصوص القانونية والتفسيرية والأدبية فضلاً عن نصوص الكتاب المقدس. ” أم. أتش أبرامز، ترجمة باقر جاسم محمد M.H.ABRAMS “.
*2 المفارقة هنا، أن التأويل تم ويتم انطلاقا من كتابة التاريخ في مرحلة هبوطه أي بعد قرون من ولادته، وقلة هي المصادر المكتوبة التي يمكن لنا التحدث عنها وكتبت في ذروة صعود المشروع الإسلامي. التأويل هنا يتم عن تأويل للشفاهي المنقول شفاهيا في لحظة كتابته.
ghassanmussa@gmail.com
* كاتب سوري