كثر الحديث في الآونة الأخيرة، عن انبعاث ذاكرة الحرب الأهلية من جديد وعودة معظم ممارساتها إلى شوارع بيروت بعدما ظن البعض أن النسيان طواها، حتى لا نقول إن عمل الذاكرة أنهاها! فها نحن من جديد أمام روايات من مثل الخطف والقتل والتنكيل بالجثث وقطع الشوارع والحواجز الطيارة والرجال المقنّعين وحرق المنازل وتهجير الناس العزّل والاعتداء على حرمات البيوت وكرامات الناس، وصولاً إلى اقتطاع زواريب وطرق وتكريسها ممالك حزبية مستقلة وتحديدها بالأعلام والبراميل والشعارات والضبط الخفي لحركة الدخول اليها والخروج منها. لكن الشيء الجديد الذي طرأ على هذه الحرب الأهلية المتجددة، هو دخول القنوات التلفزيونية بتعدّد مشاربها وأهوائها إلى “ساحة القتال” كصانعة للحدث التلفزيوني (والحربي في أحيان كثيرة) وكناقلة مباشرة له إلى غرف جلوس العائلات اللبنانية، وكمساهم رئيسي في الحشد والتعبئة وتأجيج المشاعر، وصولاً إلى قدرتها الفائقة من خلال البث المباشر على تسريع الأحداث وزيادة رقعة انتشارها ومدى خطورتها، بحيث بتنا مهددين في أن نعيش في أيام معدودة أهوال حرب أهلية تمتد عادةً سنوات طويلة.
إذا كان يحلو للبعض أن يجهد في تحديد الحدث الأبرز في الزمان والمكان لتأريخ يوم البداية الفعلية لهذه الحرب الأهلية والمذهبية المتقطعة التي تشهدها الشوارع والأزقة في بيروت وبقية المناطق اللبنانية منذ ما يقارب السنتين، فإن ما يفوته أن هناك حرباً أهلية حقيقية ومستمرة وفاعلة ومنفلتة العقال، لم تتوقف لا يوماً ولا ساعة ولا ثانية منذ اندلاع النزاع السياسي بين الموالاة والمعارضة، وأعني الحرب الأهلية الإعلامية التي تشهدها الشاشات اللبنانية، والتي تستخدم فيها جميع أنواع أسلحة البروباغندا من قدح وذم وتشهير وتخوين وبث للشائعات وإثارة للغرائز وتحريض على الكراهية وتحوير للحقائق. المفجع أن هذه الحرب الأهلية الإعلامية لم تتوقف عن حشد الناس بعضهم ضد البعض، بل تجاوزتها لتحريض وسائل إعلام على بعض وسائل إعلام مغايرة، وصولاً إلى قرار الأمر الواقع بوقف بث إعلام “المستقبل” وحرق واحد من مباني تلفزيون “المستقبل”. هذا فضلاً عن النظرة الخطرة والشائعة في أوساط الناس، التي تماهي بين الصحافي ووسيلته الإعلامية، حيث تتحمل جزءاً رئيسياً من المسؤولية عنها الإدارةُ الخاطئة والمنحازة للكثير من الوسائل الإعلامية، التي لا تؤمن بتعدد الآراء وتضيّق على كل هامش من الإستقلالية والموضوعية لدى العاملين لديها.
قوانين مستباحة
يتميز الحقل الإعلامي اللبناني عن بقية الإعلام العربي بكونه الأعرق تجربةً والأوسع حرية والأكثر تنوعاً وذخراً بالكفاءات الإعلامية. لكنه في الوقت نفسه الحقل الذي تستبيحه القوى السياسية والحزبية المتصارعة وتستخدمه من دون أي رادع لتحقيق مآربها، فيتجاوز فيه الاستثمار المالي والسياسي والطوائفي حاجة هذا البلد وطاقة ناسه وبناه الاجتماعية على الاحتمال، وتصل فيه المادة الإعلامية المروّجة حدّ التخمة. ناهيك بأن هذا الحقل الغني بتنوعه وطاقاته، لا يرعاه قانون ولا تصونه تشريعات ولا تحدّ من جموحه ضوابط مهنية ومواثيق شرف صحافية.
فإذا نظرنا الى قانون المطبوعات وقانون المرئي والمسموع، وهما القانونان المفترض فيهما، على رغم كل مثالبهما، تنظيم عمل وسائل الإعلام في لبنان، نجد أن ما يجمع بين كل الفرقاء هو إنتهاكهم المتعمد والمستمر لبنود هذين القانونين في العديد من النقاط، من مثل قضايا القدح والذم واحتكار تيارات سياسية ومذهبية في عينها للعديد من الوسائل الإعلامية وتجاوز نسبة الـ 10 في المئة التي وضعها المشرّع كحدّ أقصى لنسبة التملك في المؤسسة الإعلامية للشخص الواحد، وعدم احترام الكثير من بنود المادة السابعة من قانون المرئي والمسموع للعام 1994، سواء من حيث “التزام المؤسسة عدم الحصول على أي كسب مالي غير ناجم عن عمل مرتبط مباشرة أو غير مباشرة بطبيعة عملها” أو من حيث “التزام المؤسسة احترام الشخصية الإنسانية وحرية الغير وحقوقه والطابع التعددي للتعبير عن الأفكار والآراء وموضوعية بث الأخبار والأحداث والمحافظة على النظام العام وحاجات الدفاع الوطني ومقتضيات المصلحة العامة”.
الحقيقة أنه يجدر التوقف أمام هذه الفقرة من المادة السابعة، لأن الكثير من الممارسات الإعلامية السائدة تنتهك يومياً وبإصرار مخيف ما نصّت عليه هذه الفقرة. فاحترام الشخصية الإنسانية وحرية الغير باتا في خبر كان، وتعدد الآراء شبه معدوم في الكثير من البرامج الحوارية، والمقدمات في النشرات الأخبارية كارثة إعلامية وأخلاقية فادحة، وموضوعية بثّ الأخبار حدِّث عنها ولا حرج. أما المحافظة على النظام العام وحاجات الدفاع الوطني ومقتضيات المصلحة العامة، فيكفي أن نتمعن في الكيفية التي يتم فيها البث المباشر والتغطية على الهواء للعراك والشتائم والقتال في الشوارع البيروتية لندرك كيف تستبيح الشاشة مقتضيات المصلحة العامة وتنتهك النظام العام وتفرّط في حاجات الدفاع الوطني.
كذبة البث المباشر
إن إحدى أكبر الأكاذيب الإعلامية الرائجة بين جمهور المتلقين والمشاهدين وحتى الإعلاميين هي كذبة البث المباشر التي باتت تُعتبر الحقيقة المنزلة التي لا جدال فيها. في حين أن “ألف باء” العمل الإعلامي يبين أن ما تظهره عدسة الكاميرا، مهما تكن زاوية إنفراجها وشخصية حاملها وموضوعيته، ليس سوى جزء ضئيل ومجتزأ من حقيقة المشهد الكامل. يكفي في هذا المجال أن ننعم النظر في الصور التي راجت للعمل العسكري الذي نفّذه مقاتلو “حزب الله” في بيروت، لنجد أنها تخلو بالكامل من أي صورة لمقاتلي الحزب من فرق الكومندوس المددجين بالسلاح وبالعتاد الحربي الكامل، مع أن الكثير من سكان رأس بيروت رأوهم بالعيون المجردة في شوراعهم ساعة الهجوم العسكري ليلة الخميس- الجمعة. لكن الكثير من السكان والصحافيين، مُنع من التقاط صور لهؤلاء المقاتلين، أو لم يجرؤ على القيام بذلك. فأين هي الحقيقة من الصورة في هذا المجال؟
مثال آخر في الإطار ذاته، يتعلق بما أوردته جريدة “الأخبار” المقرّبة من المعارضة في عددها الصادر بتاريخ 19 أيار 2008 تحت عنوان “كيف خطت المعارضة نحو إسقاط الموالاة” ونقلت فيه عمّن سمّته أحد قادة المعارضة الخبر الآتي: “مع ساعات الليل الأولى وصف أحد القادة في المعارضة ما حصل في الحمراء بـفيلم أميركي حيث ظهرت آليات تحمل مدافع رشاشة مضادة للطائرات من عيار 23 ملم، خارجة من شاحنات واكتسحت المنطقة، وسارت نحو نهاية الحمراء، كما جرى التقدم من محاور عدة نحو تلفزيون أخبار “المستقبل” في برج المر، حيث كان يتمركز زهاء 420 مقاتلاً من “المستقبل”، ومع رفض تسليم المنطقة جرى التعامل بالنيران معها. وفي منطقة عين المريسة، كان هناك تخوّف من حشد “مستقبلي”، فأرسلت تعزيزات من القوى النظامية لـ”حزب الله” وأسقطت المنطقة، وسارت المجموعات العسكرية بالتوازي من مناطق عين المريسة والحمراء وفردان، حيث كانت تخترق الشوارع الداخلية وتسقط المراكز المستقبلية والاشتراكية”.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو الآتي: أين صور هذه الشاحنات والآليات التي خرجت منها وهي تحمل مدافع رشاشة مضادة للطائرات و”اكتسحت” بها شارع الحمراء؟ وأين صور “القوى النظامية لحزب الله” التي سارت بالتوازي من مناطق عين المريسة والحمراء وفردان؟ وهل علينا في مثل هذه الحال أن نقول إن أيا من هذه الأمور لم يحدث، لا لشيء سوى لأنه لا وجود لصور توثق هذا الحدث؟!
في العودة الى مثالب البث المباشر وأخطاره، ألا يحقّ لنا أن نتساءل عن مسؤولية القنوات التلفزيونية من دون استثناء، وخصوصاً البرامج الحوارية منها، في فتح شاشاتها على الهواء مباشرةً للإتصالات التلفونية الآتية من طرف المواطنين، وذلك في أدقّ لحظات الهيجان الطائفي والمذهبي وانفلات العنف الأعمى، ليعبّروا من خلالها عن آرائهم، أو بالأحرى ليصبّوا فيها جام غضبهم على الطرف الآخر بعبارات طائفية ومذهبية فجة، ومن دون أن يمارس مقدّم البرنامج دوره في ضبط أكذوبة “على الهواء مباشرة” ومنع التحريض الطائفي والمذهبي من أن يصل إلى ملايين المشاهدين؟! الطامة الكبرى في هذا السياق، أن مثل هذا الخطاب الطائفي والمذهبي الفج، يأتي أحياناً من داخل الإستديو وعلى لسان بعض الضيوف من محللين وصحافيين أفقدهم غضبهم مسؤولية الكلمة الحرة التي يدّعون الإنتساب إليها. وهو الأمر الذي تكرر مراراً مع بعض ضيوف قناة “اخبارية المستقبل” لدى معاودتها البث بعد غلقها القسري والمُدان.
حرمة الموت
من دون مبالغة، يمكن اعتبار اللحظة التي قررت فيها قناة “المنار” بث الصور المروعة لمجزرة حلبا، واحدة من اللحظات الأخطر التي تم فيها كسر آخر الحواجز المتبقية التي تفصل بين العنف على الشاشة والعنف في الواقع. وكم كان أجدى لو أن هذه الأشرطة للمجزرة المروعة، والتي تظهر بالتفاصيل كيف جرى التنكيل بأجساد الضحايا وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، قد تم وضعها في تصرف القضاء من أجل توقيف المجرمين القتلة وسوقهم إلى العدالة مهما علا شأنهم، بدلاً من استثمارها سياسياً وعرضها أمام ملايين المشاهدين بصغارهم وكبارهم، ومن دون أن يؤخذ رأي أهالي الضحايا ومن دون أن تراعى مشاعر الأمهات والأخوات اللواتي من الممكن أن تقع أعينهن على مشاهد أولادهن يُقتلن بهذه الطريقة.
أما ما فعله مقدّم نشرة الأخبار في قناة “المنار” قبل بث الصور المروعة فهو قراءته عبارات التأسف الآتية: “مع الاعتذار المسبق لقسوة الصور، ونرجو تجنيب الأطفال وذوي القلوب الضعيفة مشاهدتها، ومع الاعتذار أيضاً من أهالي الضحايا”. الأكيد أنه حتى أصحاب القلوب القوية، مات شيء من إنسانيتهم وهم يشاهدون هذه الصور البشعة.
أما الزميل عماد مرمل، والذي أعاد في برنامجه على قناة “المنار” بث أشرطة الفيديو نفسها للمجزرة وتلقّى مكالمات تلفونية من بعض أهالي الضحايا، فإنه بادر السيدة التي فقدت ابنها الشاب في هذه المجزرة، بالقول “أنا بصراحة أخجل من طرح أي سؤال عليك. الهواء لك الآن وفيك تقولي الذي تريدينه”. للقارئ أن يتخيل ماذا يمكن الأم الثكلى أن تقول من عبارات مؤثرة للتعبير عن غضبها وفاجعتها.
كان يمكن الأمر أن يقف عند هذا الحد، وخصوصاً أن السيدة المشار اليها نالت تعاطف الكثيرين بكلمتها المؤثرة والصادقة والنابعة من القلب، لولا أن الحس الصحافي عند الزميل استيقظ في أبشع صوره، فانقلب على ما قاله في البداية، وبادر السيدة المفجوعة في نهاية كلمتها المؤثرة بالسؤال الآتي: “عندك معلومات عن كيفية التنكيل بأجساد الشهداء وكيف صارت العملية؟”. فما كان من الأم الثكلى التي تهدج صوتها إلا أن قالت في جمل غير مترابطة: “يا حبيبي الشهداء اللي ماتو بالمكتب… بالمتنفذية… مدري شو إسما.. ما بقى فيي… ما بقى فيي”، ولم تستطع إكمال كلامها وأعطت سماعة الهاتف إلى إبنتها التي أكملت عنها الحديث!
لا شيء غير هذه العبارة “ما بقى فيي”، يمكننا أن نقوله لكل وسائل الإعلام اللبنانية الغارقة حتى النخاع في حروبها الأهلية، عساها ترحم قليلاً جمهورها.
aliatassi@yahoo.fr
* كاتب سوري