هل يمكن للمسلمين ان يصلحوا من ذواتهم؟ هذا هو السؤال الاكثر الحاحا علي العالم أجمع بما فيه المسلمين انفسهم. ربما كان العنوان “هل يقدر الاسلام ان يصلح ذاته” اكثر تعبيرا عما يجول في خاطر اي فرد مهموم بمستقبل المسلمين ومستقبل علاقتهم بالعالم المتقدم. وقبل الخوض في الموضوع فلنستشهد باقوال علماء الانثربولوجيا أمثال “رالف لنتون” و”هنري مورجان”. فهما يؤكدان انه ليس بوسع اي فرد او اي جيل أن يكرر بدقة سلوك اسلافه، الامر الذي يؤدي دوما الي ظهور تعديلات وتغيرات ثانوية بشكل دائم ومستمر. حتي ولو كان من الممكن حصر هذه التغيرات في اضيق الحدود بما تمليه امكانيات كل فترة وكل بيئة فانها في النهاية تتعرض لتغيرات اساسية تودي بكل قديم فلا يبقي منه سوي ما نطلق عليه نحن الان فلكلورا شعبيا. ولهذا يبدوا كثيرا من الطقوس الفلكلورية غريبا عن حاضر الواقع لكن التمسك به وإعادة انتاجه وحفظه وتوريثه هو عملية وسواس قهرية للراسب الذي لا نعرف له مصدرا في أعماق ذواتنا.
التنظير لهذه الاقوال جاء فيما قدمته النظرية التطورية الثقافية التي تتشابه ولو من بعيد بالداروينية الاجتماعية الفجة التي حاولت تطبيق مبدا البقاء للاصلح البيولوجية علي المجتمع الانساني.
فالاسلام كنسق ثقافي بشكله الخام حيث النصوص والسير والاحاديث يصعب التعامل معه بأدوات العقل الحديث. فمشاكل النص القرآني كثيرة اوضحها يكمن في التضارب بين بعضها البعض وبينها وبين الاحاديث مما حدا بالبعض ان ينفي صحة الحديث برمته رهبة من سقوط الاسلام بكليته. ولن نخوض طويلا في هذا الامر لكن قليل من الحديث فيه ربما ينشط قريحة من رهن نفسه الي تماسك افكاره وتناغم نصوصه. فالاسلام في جذره يطالب الناس بالعبادة لفرد احد صمد لا يتم الترميز له سوي بانه ليس كمثله شئ. وهذا كاف لبلبلة العقل المتلقي لاننا في حقيقة الامر افراد، فيأخذ كل علي عاتقه تصوره حسب مخياله وحسب مصالحه وحسب ثقافته، وايضا حسب امراضه. فاعباء العبادة كثيرة وتستهلك قدرا غير يسير من الوقت والطاقة المتاحة لاكثر الشعوب نشاطا فما بالنا والحالة العربية الفقيرة اصلا وفي حاجة لكل طاقتها ووقتها للحاق بركب الحضارة والتقدم. كان الاسلام مشغولا من البداية في محاولة التخلص من المشركين او من لا يؤمنون. ذلك هو الهم الاول له علي الارض، فسخر المسلمون الاوائل بقيادة سلفهم الصالح كل طاقتهم لتحقيق ذلك الهدف. وزادت أعباء المسلمون آنذاك وإضيف لما ليس في طاقتهم وتصاعدت الامور رويدا رويدا ليضاف الي قائمة الاعداء اهل الكتاب حيث بات قتالهم واجبا شرعيا وقمعهم الي حد دفع الجزية ثمنا وفداءا لحياتهم. ظل هذا الامر كراسب تاريخي في اعماق الذات المسلمة بعد ان جرت تغيرات ثانوية كثيرة وتراكمت الي ضرورة القبول بالتعايش ليس فقط مع اهل الكتاب بل والمشركين والملحدين والوثنيين.
لكن هذا الراسب المعطل عن العمل بفضل عدم منطقيتها لكل زمان وكل مكان عاد عبر الاصولية ليقوم بذات الفعل القديم باعتباره وسواس مكبوت في اعماق النفس المسلمة. ففي حديثين في قناة الجزيرة في برنامج لقاء اليوم قال مصطفى أبو اليزيد موجها خطابه للامريكين في الحلقة المذاعة بتاريخ 21/6/2009 بما نصه:
“ونحن ندعوهم من الآن إلى الدخول في الإسلام فإذا دخلوا في الإسلام انتهى القتال بيننا وبينهم أبدا فإذا لم يدخلوا فنحن إن شاء الله سنسعى لإقامة دولة الإسلام والخلافة الإسلامية ثم ندعوهم من جديد إلى الدخول في الإسلام فإن دخلوا فالحمد لله وإن لم يدخلوا فنفرض عليهم الحكم الإسلامي وعلامة ذلك دفع الجزية وإن هم قبلوا بذلك فأيضا يقف القتال بيننا وبينهم وليس ذلك على الله بعزيز، فإن لم يوافقوا على كل ذلك فالقتال سيكون بيننا وبينهم، هذه خطة الإسلام في السلام مع الأميركان ومع غيرهم ونحن لا نظن أنهم سيوافقون على ذلك فلذلك على أمة الإسلام أن يتخذوا هذا الطريق طريق إعداد القوة والجهاد في سبيل الله عز وجل”.
ثم اضاف في نهاية البرنامج ما نصه:
“يعني نحن نعتقد بما قال به النبي صلى الله عليه وسلم “وجعل رزقي تحت ظل رمحي” فكلما جاهدنا كلما فتحت لنا أبواب الرزق من حيث لا نحتسب ويأتينا بفضل الله من الأموال التي يعني تمشي العمل، وإن كنا نحتاج إلى المزيد من هذه الأموال حتى تكون النكاية أكبر في أعداء الله عز وجل ولكن الحمد لله الدعم يأتي لنا من طرق مختلفة والناس والمسلمون يعني يحبون القاعدة ويحبون أن يجاهدوا من خلال القاعدة سواء كان بالمال أو بالنفس، فالأمور تمشي ولكن نرجو المزيد من أمة الإسلام”.
وفي حلقة البرنامج بتاريخ 24/2/2009 يقول مختار روغو أبو منصور المتحدث باسم :حركة شباب المجاهدين”:
“الله سبحانه وتعالى بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالسلاح، يقول صلى الله عليه وسلم بعثت بين يدي الساحة بالسيف حتى يعبد الله وحده، وذكر النبي عليه السلام أن رزقه جعل تحت ظل رمحه، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، فالسلام من أفكار الكفار وليس من هدي المسلمين، إذاً وضع السلاح وتركه هو دعوة الكفار وبوش وهذا أمر لا يقوله مسلم ولا عالم، لن نضع السلاح بل ندعو إلى تسليح أكثر، ولم تهز هذه الأمة ولم تغلب إلا عندما تركت سلاحها وركنت إلى الدنيا، يقول الله تعالى ..وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ..[النساء:102] وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي السلاح لمن لا سلاح له، ووضع الرسول سيفا ثم قال من يأخذ هذا السيف؟ فطلب الجميع وأراد كل واحد أن يأخذه ثم قال مرة أخرى من يأخذه بحقه؟ فخاف الصحابة ووقف أبو دجانة وقال أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأخذه وعندما سئل الرسول ما حقه؟ قال أن تضربوا به الكفار”.
ولان أحوالنا ليست مستقيمة وتطورنا ليس خطي وحياتنا لا زالت تعمها الفوضى والوساوس وكوابيس الماضي، فان القرضاوي الذي يفخرون بأنه “وسطي”، يقول في حلقة الشريعة والحياة، بتاريخ 30/1/2005:
“لا يجوز لأحد أن يعطل حرية الإنسان ولكن للأسف الناس اُبتلوا بالذين يقيدون حرياتهم والذين يتحكمون في مصيرهم، الناس ابتلوا بالاستعمار والاستعباد من الخارج وابتلوا بالطغيان والاستبداد من الداخل فقيدوا حرية الإنسان الدينية وحرية الإنسان الفكرية وحرية الإنسان المدنية وحرية الإنسان السياسية ومن أجل ذلك يعني قًاتْل الإنسان من أجل حريته، الإسلام نفسه قاتل من أجل توفير الحرية للناس يعني القرآن يقول وقَاتِلُوهُمْ الوثنيين الطغاة قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ وفي آية أخرى ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ معنى تكون فتنة يعني إيه؟ لا يُضطهَد أحد من أجل دينه”.
فالتغيرات الظاهرية رغم ثبات واشتراك المضمون والمسكوت عنه في النصوص الاربعة المذكورة اتت اساسا وحصرا في اللغة (ثروة العرب الوحيده) حيث اضيفت كلمة حريه والتي لا نجدها إطلاقا في القرآن والسنة. وضعها القرضوي كحلية وديكور لتمويه الامور علي المستمعين لكنه سرعان ما وقع اسير راسبه التاريخي المكبوت داخل ثقافته الجهادية.
هكذا ارتكزت الاصولية والاسلام السياسي، حديثا، علي ما يشغل الناس بالحرب إبراءا للذمة من استحقاقات التحول من الفكر البدائي الي مستويات اكثر مدنية انخراطا في مبدأ العمل والانتاج وتشكيل مجتمعات أكثر رقيا من الناحية الانسانية. ولسنا في حاجة لنذكر كم عدد المرات التي قال فيها مشايخ الاسلام بكل انواعهم ان الاسلام دين الرحمة ويستشهدون بالاية ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ” وهو ما يفتح باب التضارب الذي نوهنا عنه في بداية المقال اللهم الا إذا كانت الرحمة ايضا قد اختلفت في المضمون وتراكمت عليها التغيرات إما لانتقالها من مجتمع لا يعرف الرحمة الي مجتمعات أخري بدلالات جديدة واما لان الاضافات طالت كل شئ بما فيها النصوص.
طبع مفهوم الاستعمار الثقافة الاسلامية زمن غزو العرب لكل ما ليس بعربي وتحول كثير منهم الي مغامرون يراهنون علي معركة هنا او هناك لوضع اليد وفرض الجزية عملا بالنص، ولم يختلفوا كثيرا او قليلا عن اي مستعمر او مغامر في اي زمن وفي اي مكان. هنا يمكن مقارعة وضعهم من هذه الزاوية بما جري بعد خروج كولومبس بسفنه قاصدا الشرق عن طريق الغرب. فما اكثر المهاجرين الذي اعتبروا انفسهم مبشرين لهداية البرابرة سكان القارتين الامريكيتين وغيرها في المستعمرات الجديدة. ففي الحالة الاخيرة اصبحت تلك المجتمعات الجديدة قوة عظمي ومصدرا لافكار وعلوم ومعارف وفنون لم يعرفها العالم القديم. فاللغة فرضت هناك مثلما فرضها العرب هنا. أما ابدعوه لذواتهم بات العالم أجمع عاجز عن الاستغناء عنه، ليس فقط في مجال التكنلوجيا والعلوم إنما في مجال الدساتير ومناهج الفكر وعلاقات الانسان بالانسان مدنيا. وظل المكبوت لديهم ايضا قائما مثلما هو قائم داخل النسق الاسلامي وهو ما نجده مؤخرا في محاولة نفي العنصرية المتهم بها عضو الكونجرس الامريكي الجمهوري في قوله بان باراك اوباما كاذب في معرض الحديث عن التامين الصحي. فرغم ان الدستور الامريكي لا يميز في اللون او الدين او الاصل او العقيده إلا أن فكر العبيد والاستعباد قائم في اللاوعي لديهم. الاضافة الحقيقة فيما بين عالم الاسلام والعالم الغربي هو القدرة علي الحديث دون مواربة او تمويه لان القدسية سقطت في الغرب بينما فكرة اقامة خلافة اسلامية تنطوي في اساسها علي عدم الحديث عن تناقضات الاسلام مع ذاته ومع باقي الشعوب الغير اسلامية لان نص الاسلام الاول غير قابل للتعديل او الحذف بالاضافة او الخصم أو حتي النقد لانه نص مقدس قابع علي العقول ولا فكاك منه بينما الفعل والعمل علي واقع اراضي العالم الجديد والقديم رسخا قيما من الحرية قابلة للنمو وللنقد وللتجاوز دون أي قدسية أو “تابو”.
أتى التاسيس الراسمالي، كمخزونا معرفي وممارسة واقعية، بنقيضه في اقوي مراحله بأرض المستعمرات. أدى لان يأتي بنقيضه الاشتراكي ليس بشكل تلقائي او اوتوماتيكي إنما عبر صراع الافكار التي تاسست عليها الانسانية الحديثة وخاصة في مراحلها المتقدمة المتزامنة مع الثورة العلمية والصناعية الكبرتين. لكن عالم الاسلام والمسلمين ظل في بياته الشتوي كامنا ولم يحقق اي تقدم في عالم الافكار. رغم الحراك الاجتماعي والسياسي ومعها التغيرات الحتمية كضرورة يفرضها الواقع حسب اقوال علماء الانثروبولوجيا، لكن المشكلة انه لا نص جديد يتفق والعقل الحديث سوي نص القرآن القديم.
Elbadrymoh@aol.com
• القاهرة
أخطارنا كامنة في عقيدتنا يعرض الآن في دور السينما فيلم (Inglourious Basterds) للمخرج (Quentin Tarantino) .. واصبح جزء من خطاب الشارع , فالطلبة والعمال والموظفين والباعة يستعيرون تعبيرات وردت في الفيلم في حياتهم اليومية , وثمة اثنين او اكثر في حديقة عامة او يتناولون عشاء في مطعم يتحدثون عنه , والكاتب اللبناني (Tony Badran : Across the Bay) عنون احدى مقالاته الاخيرة (Inglorious Baathists) .. ما يعنينا هنا استخدام جملة (هذا الماني يريد ان يموت في سبيل بلاده .. اسحقه) , فالكل في امريكا يعرف ان هذه العبارة هي تحوير لجزء من خطبة الجنرال الامريكي (George S. Patton) في الحرب… قراءة المزيد ..