كان ينبغي لمقالة اليوم أن تستكمل مقالات سبقت عن “البنت“، ولكن في الجاري، الآن وهنا، ما يستدعي التوّقف، في هذه المقالة على الأقل. فغريزة الحيوان السياسي، معطوفة على إحساس بالمسؤولية الأخلاقية، تُحرّض على التفكير في أشياء من نوع محاولة نتنياهو إلقاء مسؤولية “الهولوكوست” على عاتق الفلسطينيين، وعمليات القتل والقتل المضاد، منذ أسابيع، باعتبارها آخر تجليات الصراع في فلسطين وعليها، وأخيراً: هستيريا الشارع في إسرائيل.
وهذه أشياء مترابطة، يقود أحدها إلى الآخر، يؤثر فيه ويتأثر به. فلنفكر، مثلاً، في الهولوكوست ومحاولة تحميل الفلسطينيين المسؤولية. أشار كثيرون إلى كلام نتنياهو باعتباره تعدياً على الحقيقة التاريخية، وفسّره آخرون كتعبير عن مدى كراهيته للفلسطينيين. وهذا وذاك صحيح، ولكن إذا اكتفينا بهذا وذاك، نقف عند القشرة، ولا نتمكن من النفاذ إلى اللب، ويضيع المعنى في انتصار معنوي صغير على نتنياهو الذي تملّكته كراهية أعمته عن الحقيقة.
ثمة ما هو أبعد. فدلالة الهولوكوست، كما استقرت في الضمير العالمي، أن النازية وهتلر من رموز الشر المطلق، الذي لا يستحق العيش، ولا يمكن التعايش معه، بل يجب القضاء عليه. ومجرّد وقوع انزياح صغير لإنشاء صلة، من نوعٍ ما، بين الفلسطينيين والشر المطلق، يعني انهم لا يستحقون العيش، ولا يمكن التعايش معهم. فالإسرائيلي، حفيد الضحية اليهودية في “أوشفيتز” يخوض صراع البقاء، في آسيا الغربية، مع الفلسطيني، حفيد الأفعى، التي نفثت سم الشر المُطلق في برلين، وأقنعت النازي بالمحرقة.
ولعل في هذا ما يأخذنا إلى عمليات القتل والقتل المضاد منذ أسابيع. قيل ويُقال الكثير عمّا يحدث الآن وهنا، دخلت مفردات جديدة، ونشأ فلكلور كامل في الجانبين. وهذا مفهوم، لكنه يفشل في النفاذ إلى اللب. فما يحدث الآن وهنا ليس أكثر من “بروفة” لما سيأتي في قادم الأيام، نتيجة انهيار حل الدولتين، واستحالة حل الدولة الواحدة.
وما سيأتي في قادم الأيام يعيد التذكير بما حدث في سابق الأيام، في رواندا، والبوسنة، وأيرلندا. ليس بالطريقة نفسها، بالضرورة، ولكن بخصوصيات وسِمات تستدعي المقارنة والتشبيه. وعلى الرغم من تداول بعض الإسرائيليين (ونحن، أيضاً) لتعبيرات من نوع الحرب الأهلية، إلا أنني أجد صعوبة في “هضم” تعبير الحرب الأهلية. فهذه تنشب بين أبناء البلد الواحد لأسباب طبقية، وطائفية، أو قومية، ولكن المفهوم يعاني من خلل فادح في الصراع بين مواطنين أصليين وجماعة كولونيالية.
وإذا كان هذا يحتاج مزيداً من الجهد النظري والتفكير، فإن ظاهرة جديدة وُلدت في الأسابيع القليلة الماضية (وتتمثل في قيام يهود إسرائيليين بالاعتداء على يهود إسرائيليين، ظنّا منهم أنهم فلسطينيون، إضافة إلى قتل الإرتيري) تستدعي التأمل.
وأوّل ما يرد إلى الذهن في هذا الصدد صعوبة التعرّف على العدو وتعريفه، في الأماكن المختلطة والفضاء العام، لم تكن ثمة سمات جسدية، أو لغوية، تُميّز البوسنيين عن الصرب، في يوغسلافيا السابقة، ولا التوتسي عن الهوتو في رواندا، ولا الكاثوليك عن البروتستانت في إيرلندا. ولا توجد سمات جسدية خاصة تميّز الغالبية العظمى من اليهود الإسرائيليين عن العرب الفلسطينيين، وداخل الخط الأخضر يجيد الفلسطينيون لغة اليهود الإسرائيليين.
وهذه، في الواقع، نهاية سيئة لأوهام وأحلام آباء الدولة اليهودية الإسرائيلية، الذين أنشأوا دولة من طراز دول أوروبا الشرقية، ويصر أبناؤهم اليوم على كونهم جزءا من أوروبا (الغربية، طبعاً، فالشرقية أقل تقدّماً)، على الرغم من حقيقة أن أوروبا الغربية نفسها لم تعد تلك التي حلم بها آباؤهم، وأن دولة أوروبا الشرقية، في آسيا الغربية، شرق أوسطية في الغالب، سواء تعلّق الأمر بالخصائص الجسدية، أو الثقافة الشعبية.
أن يصبح العدو تحت الجلد، هذا مصدر لفوضى وقلق وذعر الهوية الجمعية، خاصة في مجتمعات كولونيالية تحتمي وراء اللون، واللغة، والجنس، باعتبارها من شروط السيادة والتفوّق على السكان الأصليين. لذا، يصعب تفسير اعتداء يهود إسرائيليين على يهود إسرائيليين دون سياق فوضى وقلق وذعر الهوية.
وهذه خلاصة مُرعبة، في كل الأحوال. فما يصدر عن الفوضى والقلق والذعر من ديناميات ثقافية، واجتماعية، وسياسية، يصب في، ويتفاعل مع، مفهوم الشر المُطلق، ويتجلى فيما أسميناه هستيريا الشارع الإسرائيلي. فحجم الكراهية في ردود أفعال اليهود الإسرائيليين غير مسبوق. وهذه أخبار جيدة وسيئة في آن.
جيّدة لأن البرود، أو حتى الترفّع العاطفي، والرمزي، والعقلانية السياسية، أشياء تعني، في المُحصلة، أن قناعتهم بالانتصار النهائي، ونجاح مشروع الإحياء القومي والدولة، مطمئنة وراسخة. وسيئة لأن الإحساس بالعيش في زمن مستقطع، على حافة الهاوية، يبرر الجنوح الانتحاري إلى أكثر الحلول تطرفاً ودموية.
ولن نجد ترجمة لإحساس كهذا أفضل من تشبيه الفلسطينيين بالزومبي، الموتى الأحياء، الذين ماتوا، ولم يكفوا عن العودة أشباه بشر، وأشباه وحوش، تصيب من تأكل لحمه بالعدوى، فينتمي إليهم ويصبح منهم.
تشبيه الفلسطينيين بالموتى الأحياء ليس مبالغة من جانبي، فهو لإسرائيلي، في الثمانين من العمر، خدم في الجيش، واشتغل أستاذا في الجامعة، وأدركته حرفة الكتابة فكتب العشرات من الكتب كان آخرها، قبل أشهر قليلة بعنوان: “كوابيس إسرائيلية: الموتى الأحياء الفلسطينيون والمسلمون يلاحقون إسرائيل”، وعلى الغلاف صورة ليدين متغضنتين وشيطانيتين كأيدي المومياء، تحاولان القبض على نجمة داود.
هذا خيال إجرامي ومريض، لكنه يترجم إحساس ابن الثمانين، الذي شهد المشاهد كلها، بأن الانتصار النهائي لم يتحقق بعد. وهذا، أيضاً، من علامات هستيريا الشارع، وفوضى، وقلق، وذعر الهوية. وهذا، أيضاً وأيضاً، ما يبرر ويفسر فرضية أن الزومبي والشر المُطلق ليسا أكثر من وجهين لعملة واحدة. أخبار سيئة لنا ولهم وللعالم.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني