الزمن: أواسط سبعينيات القرن الماضي. المكان: مدرج كلية الهندسة في جامعة القاهرة.
الحدث: يجلس الشيخ إمام على مقعد، يقف إلى جانبه أحمد فؤاد نجم، وعلى الأرض يجلس بعض المحاضرين، والأساتذة، والمحظوظين من الطلاّب، الذين نجحوا في الوصول إلى المنصة. وفي القاعة التي ضاقت بمن فيها، يشعر الناجحون في العثور على موطئ قدم بامتياز خاص، وبالعيش في زمن لا يقبل التكرار. وما أن يشرع الشيخ إمام في دوزنة أوتار العود، حتى يسود صمت مسموع، في قاعة كانت تطن، قبل قليل، كقفير النحل.
يغني الشيخ إمام، ويقرأ نجم قصيدة، ما تزال ذائعة الصيت عن ابنته نوّارة. في القاعة أولاد، وبنات، في مطلع العمر والصبوات، في زمن القمصان الضيقة، والشعر المسترسل الطويل، وبلاغة تغيير العالم “الآن، الآن وليس غداً”، فما ينبغي أن يكون في متناول اليد، أو على الأقل ينفتح طريقه بمجرّد الخروج من المدرّج إلى الشارع. هناك مستقبل في الانتظار.
وهذا ما يفعله الأولاد والبنات. يحمل أحدهم الشيخ إمام على كتفيه، ويلوّح الرجل النحيل بعوده كراية في الريح، وينشق في وسط الجموع طريق ضيّق، يعبره الاثنان، وتعبره الجموع يطير بها النشيد، في اتجاه البوابة الرئيسة للجامعة، التي أغلقها الأمن، للحيلولة دون خروج الطلاّب إلى الشارع. ولكن الطلاب خرجوا. هناك مستقبل في الانتظار.
مرت عقود كثيرة، وطويلة، على تلك الحادثة، وما يزال امتياز العثور على موطئ قدم في تلك القاعة، والعيش في زمن لا يقبل التكرار، حياً في القلب والذاكرة. وأعتقد أن في الإحساس بامتياز كهذا ما يصلح مدخلاً للكتابة عن أحمد فؤاد نجم في حياته، وبعد رحيله قبل أيام.
في العالم العربي ما لا يحصى من الأولاد والبنات، وعلى مدار جيلين، وربما أكثر، مَنْ منحتهم قصائد نجم، وأغاني الشيخ إمام، إحساس العيش في زمن لا يقبل التكرار، سواء من كانت الدنيا كريمة معه، فمكنته من الوجود في المكان والزمان المناسبين، والقرب من هؤلاء، أو مَنْ فتحت له القصائد والأغاني طاقة للأمل، أو وعدته بمستقبل في الانتظار.
في كل كلام محتمل عن نجم ما يستحضر الشيخ إمام، والعكس صحيح. وهذا، بدوره، يصلح مدخلاً إضافياً للكتابة عن نجم حياً، وبعد الرحيل. فلم تكن القصائد، على أهميتها، قادرة على تحقيق هذا القدر من النفوذ،
والتأثير، في المخيال السياسي، والأدبي، وحتى العاطفي، لما لا يحصى من العرب، لو لم تصاحبها موسيقى الشيخ إمام، ولو لم تُسمع بصوته.
أما المدخل الثالث، فيتمثل في حقيقة أن لا شعر نجم، ولا غناء الشيخ إمام، كانا قادرين على تحقيق القدر نفسه من النفوذ، والتأثير، واكتساب حياة خاصة، ومديدة، في الذاكرة الفنية، والموسيقية، والسياسية، والأدبية العربية، لو لم يترافقا مع ظاهرة عامة اجتاحت العالم العربي، بعد هزيمة حزيران، وكان عمادها الطلاّب في المقام الأوّل، وتجلت في أفكار، وحركات، راديكالية، يسارية في الغالب، تستهدف إعادة بناء الإنسان والأوطان، استنادا إلى قيم مضادة لتلك التي قادت إلى فاجعة الهزيمة.
ولم يكن لهما أن يترافقا مع هذه الظاهرة لولا نجاحهما في ترجمة القيم المضادة، شعراً وموسيقى. وهذه الترجمة لم تكن لتنجح لولا استنادها إلى تقاليد أدبية، وموسيقية، راسخة في الذاكرة المصرية، على نحو خاص. وهذا يأخذنا إلى المدخل الرابع.
نجم شاعر موهوب وكبير. وكلما تعلّق الأمر بالشعر فإن التمييز بين العامية والفصحى يبدو مفتعلاً إلى حد كبير، خاصة في التقليد الأدبي المصري. فالعامية المصرية تمتاز بغنى المفردات، والمجازات من ناحية، وبميراث كبير من ناحية ثانية. وهي، مع هذا وذاك، وثيقة الصلة بالحياة السياسية، والتحوّلات التاريخية التي عاشها المصريون منذ الثورة العرابية، في أواخر القرن التاسع عشر، مروراً بثورة العام 1919، والكفاح ضد القصر، والاحتلال الإنكليزي، وصولاً إلى العهد الناصري، ووعوده، ونجاحه، وإخفاقاته.
ولد عبد الله النديم، وبيرم التونسي، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي، من رحم تلك التحوّلات. وبهذا المعنى نشأ نجم في بيئة للعامية المصرية تملك الميراث، والذاكرة، والتقاليد الإبداعية. وبالقدر نفسه، ولد الشيخ إمام من رحم الطاقة الفنية الهائلة، التي أطلقتها ثورة العام 1919، وكان سيد درويش أفضل، وأجمل، ممثليها في حقلي الموسيقى والغناء.
ولعل في هذا ما يفسّر كيف تمكّن شخص لم ينل حظاً من التعليم، من التحوّل على مدار عقود قليلة إلى أحد الشعراء، وأكثرهم نفوذاً، في مصر والعالم العربي. ويفسر، أيضاً، كيف تحوّلت الكلمات البسيطة، والمجازات الشعبية، بصوت الشيخ إمام وموسيقاه، في وقت قصير، إلى جزء من كلاسيكيات الغناء والموسيقى العربية.
وأعتقد أن هذا أهم المداخل، التي تصلح للكتابة عن، والتفكير في، شعر نجم، وموسيقى إمام. صحيح أنهما كانا مناضلين وطنيين من طراز رفيع. ولكن في الدنيا الكثير من المناضلين، والنضال، وحده، ليس بالمؤهل الكافي للإبداع شعراً، أو موسيقى، وغناء، وفي كل شيء آخر، في ظل غياب الموهبة.
كانت أواخر الستينيات، وكل حقبة السبعينيات، الفترة الذهبية لكل من نجم وإمام. الفترة التي شهدت الانفجار الإبداعي للموهبة، والالتحام بالحركة الطلابية. وكان كلاهما مبدعاً على طريقته. وبصرف النظر عمّا تحقق من أحلام، أو وقع من خيبات أمل وانتكاسات، إلا أنهما تركا في الشارع، والذاكرة، والتقليد الأدبي، والموسيقي، والحقل الثقافي العام، ما سيبقى حياً إلى وقت طويل.
وهذه كلها مداخل مختلفة، ومحتملة، للكلام عن أحمد فؤاد نجم.
khaderhas1@hotmail.com