ترجح المؤشرات السياسية والتحركات العسكرية التي تشهدها منطقة الخليج أن إيران بصدد تلقي نفس الضربة الجوية التي تلقاها العراق عام 2003، لكن من دون زحف بري. ولأن الحكومة الإسلامية أنفقت على تسلحها أكثر مما فعل صدام حسين في تلك الفترة، فالضربة الجوية المتوقعة ستأتي أضخم في مستوى التدمير. لهذا السبب تتخوف دول المنطقة من الحرب القادمة.
إلا أن التحدي الذي يبديه المسؤولون الإيرانيون، ولا يرتاح له العالم، يستدرج الإدارة الأمريكية لمغامرة عسكرية جديدة، تسعى في نتائجها الأولية إلى إنهاء الفوضى الأمنية والحروب الطائفية التي تستخدمها طهران لفرض نفوذها الإقليمي على بلدان الشرق الأوسط العربية.
المعروف أن لإيران علاقات تاريخية وامتدادات عرقية ودينية وقبلية بشعوب وسط آسيا أكثر مما كان لها مع المنطقة العربية، باستثناء جنوب العراق، مع ذلك يركز القادة الإيرانيون على الدول العربية لاختراق أمنها الإقليمي، وإقامة ركائز نفوذ لها على حساب سيادة هذه الدول. فلم يسبق للمنطقة العربية أن شهدت ثلاثة حروب أهلية في آن واحد كما حدث في لبنان والعراق وأخيراً في فلسطين.
إنها مسألة في غاية الخطورة أن يدير ويرعى هذه الحروب دولة من خارج المنطقة، حيث تعود قضية الاستعمار من جديد إلى المنطقة ليحل محله تدخل شرقي بغطاء ديني طائفي بعد مرور أربعين سنة على حصول آخر الدول العربية على استقلالها!
إيران التي كانت إلى قبل عشر سنوات جارة لا تسفر صراحة عن نواياها، أصبحت اليوم لاعباً رئيسياً ليس بمقدور العرب حلّ أي مشكلة في المنطقة من دون حضورها وموافقتها! وإذا كان النزاع العربي الإسرائيلي سجل تراجعاً في حدته القديمة إثر توقيع عدد من الدول العربية اتفاقات للسلام، شملت في النهاية منظمة التحرير الفلسطينية، فإن إيران تطلب، علناً، من العرب إلغاء تلك الاتفاقات والعودة بالنزاع إلى بداياته الأولى لحل المشكلة الفلسطينية بناءً على التصور الإيراني!
وبما أن من يتولى إدارة سياسة إيران الداخلية والخارجية يؤمن، قاطعاً، بأنه يتلقى الوحي من الله، وأن دوره إشاعة الفوضى والحروب تمهيداً لظهور المهدي الغائب منذ القرن الثالث الهجري، يمكن قياس حجم القنبلة التي تمثلها إيران وتهدد بها الشرق الأوسط.
هذا الإيمان التخريفي، لكن القطعي بالنسبة لمعتنقيه، لا يقتصر على أحمدي نجاد وحده، إنما يمتد بجذوره إلى المرشد الأعلى للدولة الإيرانية السيد خامنئي، الذي يحمي نجادي من النقد القوي الذي بدأ يرتفع بوجه السياسات الخارجية والداخلية للنظام. وهو في الواقع، هذا الإيمان الغيبي السلفي، يبعث القشعريرة في النفس من احتمال تصاعد عدد الضحايا الذين تساقطوا في لبنان وفلسطين، ويتساقطون يومياً في العراق، إلى عشرة أضعاف في حال حدوث الضربة العسكرية، لأن جُل تهديدات القيادة الإيرانية في ما تسميه رداًَ على المصالح الأمريكية لن يزيد عن استخدام أوراقها في لبنان وفلسطين لفتح معركة محدودة مع إسرائيل، وتأجيج الحرب الطائفية في العراق، إضافة لما ستقوم به إيران نفسها من ردود أفعال ضد منشآت النفط العربية في الخليج، وربما إغراق سفينتين في مدخل الخليج لإغلاق الملاحة فيه.
فالجانب الخطير في تصرفات وردود أفعال الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، أنه يعتمد الغيب أيضاً في قراءته للمواجهة مع الغرب وأمريكا، ويستخدم مشكلة التخصيب لغايات وحسابات دينية، وقد نبّه مسؤولون إيرانيون سابقون من خطورة ولا معقولية رفع موضوع التخصيب إلى مستويات عالية من التحدي، لان التخصيب كمشروع يمكن إخضاعه للمراقبة الدولية، مثلما يمكن لإيران تأجيل رغبتها السرية في امتلاك السلاح النووي إلى مرحلة أكثر مواءمة لرغبات من هذا النوع، بدل الدفع نحو مواجهة تخسر فيها الدولة قواتها وأسلحتها ومنشآت التخصيب التي أنفقت عليها مليارات الدولارات.
ما يعزز منطقية هذا الرأي، وجود تدن كبير في الأداء الاقتصادي، حيث أدى تركيز الإنفاق على عمليات التخصيب، وتصنيع الأسلحة محلياً مع استيراد كميات منها من الخارج، إلى إهمال صيانة وتطوير صناعة النفط ومن ثم انخفاض مستويات تصديره. يضاف إلى هذا، أن سلاح التخريب الذي استخدمته إيران لترسيخ نفوذها في لبنان والعراق وفلسطين يرتد عليها الآن، إذ شهدت خوزستان في الجنوب هجمات منظمة على قوات الحرس الثوري أوقعت إصابات عديدة في صفوفهم، ويتواجه الحرس الثوري في اشتباكات عنيفة مع مقاتلين من حزب “بيجاك” الكردي الايراني أدت إلى مقتل نحو 40 شخصاً في شمال غرب ايران قرب الحدود مع تركيا والعراق، وفي الداخل تظاهر طلبة الجامعات منددين بقمع الحريات منذ تولي أحمدي نجاد زمام الحكم. وبالنسبة للمواجهة مع الغرب حذر الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني قبل يومين فقط (27 فبراير 2007) من الاستهانة بموقف أمريكا من أجل تفادي مواجهة عسكرية معها، وشبهها بالنمر الجريح، لكنه اعترف أيضاً بأن الأمريكان يجدون النفوذ الإيراني أينما توجهوا!
ومع أن رفسنجاني يرأس مجلس تشخيص مصلحة النظام، وهو هيئة التحكيم السياسي العليا للنظام الإيراني، غير أن وزير الخارجية قال في مساء اليوم التالي إن إيران لن توقف التخصيب تحت كل الظروف، مما يعني انفراد أحمدي نجاد، وبدعم من المرشد الأعلى، في توجيه السياسة الخارجية من دون منازع.
وما ذكره رفنسجاني عن جرح أمريكا في 11 سبتمبر صحيح، بَيدَ أنه لا يكفي لتقدير حجم التفاعلات المترتبة على استفزاز الولايات المتحدة واستدراجها إلى المواجهة عبر التحدي. لأن أمريكا، بسبب قدراتها المادية والبشرية والتكنولوجية الهائلة، ينتاب رؤساؤها السياسيين والعسكريين الغضب من أي تحد يُقصد به إخضاع إرادتها للامتحان. وقد خاضت أمريكا ثلاثة حروب خارج قارتها انهزمت في اثنتين منها، كرويا وفيتنام من دون أن تشعر بالخسارة. وهما عملياً لم يسفرا عن خسارة لأمريكا رغم الهزيمة، إذ نجح الأمريكيون ببناء أكبر دولة صناعية مزدهرة في كوريا الجنوبية بعد الحرب، كما عادت واشنطن بعد عقد واحد لتغدو الطرف الذي لا ينافسه أحد في اعتماد الفيتناميين على دعمه الاقتصادي والصناعي!
فهل كانت الصدفة وحدها من وضع إيران في وجه أمريكا، أم أن الأرنب العنيد هو الذي دخل بين أقدام الفيل؟
يقول رئيس جمهورية الإسلامية أحمدي نجاد، المحبب إلى قلب المرشد الأعلى، إنه يتلقى الوحي من الله، ويعلن أمام زواره الغربيين أن دوره الزمني محصور بإشاعة الحروب والفوضى ليمهد الطريق أما ظهور الإمام المهدي، اللائذ بغيبته الطويلة منذ القرن الثالث الهجري، منتظراً الإشارة الأولى من بدء الفوضى العارمة ليظهر للعيان وينشر العدل بين الناس إلى أن تدق ساعة القيامة الكبرى!
وتشير المدركات العقلية والحسية لرئيس جمهورية إيران أنه الشخص الذي اختارته الإرادة الإلهية لاستدعاء المهدي، بعد تحقيق الشرط الأول لظهوره، أي الحروب والفوضى العامة.
لن نسمي هذه الأفكار غثاءً ونمضي في سبيلنا، لأنها تُترجم عملياً في سياسات إيران منذ تولى خامنئي عام 1989 وظيفة المرشد الأعلى لأول دولة دينية تستند إلى الغيب في برنامجها السياسي بعد ثلاثة قرون على نهاية دولة الصفويين. وما يشهده الشرق الأوسط من حروب أهلية وطائفية في ثلاث دول عربية، هي تجسيد مباشر لبرنامج إيران السياسي الذي كشف عنه أحمدي نجاد للمرة الأولى، الساعي إلى إشاعة الفوضى الأمنية، سواء أقنعت الإمام المهدي بالظهور، أو حققت للإيرانيين بسط نفوذهم على دول وشعوب المنطقة العربية.
أخطر ما تذهب إليه السياسة الإيرانية الآن، أن الثقافة المسيطرة على هواجس وعقلية أحمدي نجاد، التي يشاطره فيها مئات القادة الدينيين داخل النظام وخارجه، جعلته يتصرف بلا مسؤولية في تعامله مع مؤشرات الحرب القادمة التي تهدد إيران والمنطقة. فعلى الرغم من أن عدداً من المسؤولين الإيرانيين السابقين قرءوا أن أي حرب مع أمريكا كفيلة بتدمير قوات إيران وأسلحتها واقتصادها ومنشآت التخصيب التي أنفقت عليها مليارات الدولارات، إلاّ أن أحمدي نجاد يصر على قراءته الخاصة، وهي لا تختلف عن قراءة صدام حسين عام 2003، حين طمأن العراقيين من أن أي هجوم للقوات الأمريكية سوف يتحطم على أسوار بغداد. وعندما أخبروه بأن آخر جزء صغير من تلك الأسوار تهدم قبل ثمانين عاماً، قال إنه سيحفر خندقاً حول العاصمة ليغرقوا فيه!
بالتأكيد لا يجوز لنا الحديث بتهكم عن أسباب الحرب ونتائجها، حتى لو كان المسببون ذاتهم هزليين. لكننا حين نراقب السحب التي تزداد عتمة في سماء الشرق الأوسط، تنتابنا القشعريرة أن العدد اليومي الحالي للقتلى قد يتضاعف عشر مرات نتيجة قراءات خاطئة، ودوافع غيبية لا معقولة، لأشخاص وضعهم التآكل الثقافي في بلد ما على قمة السلطة. وفي غمرة الفوضى الأمنية والسياسية التي تلف ثلاثة بلدان من الشرق الأوسط، نتساءل فيما إذا كان خطف جنديين إسرائيليين للمزايدة بهما دعائياً، يستحق موت 1200 مواطن وهدم آلاف البيوت وتعطيل الحياة في بلد صغير يبحث 900 آلاف من أبنائه عن تأشيرة للهرب إلى الخارج؟ أو إذا كان تطاير أوراق وأشلاء الطلبة على جدران المستنصرية ينسجم مع مبدأ تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي كما يعتقد النظام في دمشق!
مثلما يتعذب الضحايا وذووهم، يتعذب العقل في بحثه عن الإجابات المقنعة لما يحدث في العراق ولبنان، وأخيراً في فلسطين، من مذابح بشرية تطال الأبرياء أكثر مما تطال المسلحين!
وإذ تتهيأ المنطقة إلى الأسوأ، لا أظن أحداً من مخططي البنتاغون يعلم أن ضرب إيران يحقق لأحمدي نجاد غاية دينية على جانب عظيم من الأهمية. ويمثل الفهم السطحي للواقع، كما عبّر عنه “سور” صدام حسين، وتعبّر عنه الآن “غيبيات” الرئيس الإيراني، الصورة الضحلة للثقافتين الشعبية والدينية في البلدان الإسلامية، حيث يسيطر المرض النفسي المازوكي على نسبة كبيرة من السكان، تساهم، بين فترة وأخرى، في رفع نماذج مضطربة من الأشخاص إلى سدة الحكم. وعندما يتولى قرار الحرب والسلم في دولة كبيرة وغنية يبلغ تعداد سكانها 71 مليون نسمة، رئيس منصرف كليّاً للأساطير والشعائر الدينية الشعبية مثل فكرة المهدي المنتظر واللطم في عاشوراء، لا تكفي حرب أمريكا على الإرهاب وحدها لإثارة نزاع خطير مع الحكومة الإسلامية في طهران، بل أن قناعات أحمدي نجاد الغيبية هي التي تدفعه إلى كشف ظهره وظهر إيران للجلد على يد الأمريكان!
arifalwan@yahoo.co.uk
* كاتب وروائي عراقي