إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
غادر “دانيال دينيت”، أحد الفلاسفة الأمريكيين ممّن يحمل آراء علمية جريئة في مسائل مثيرة مثل الوعي والإرادة الحرة والدين وعلم الأحياء التطورى، دُنيانا في 19 إبريل الماضي في بورتلاند بولاية مين بالولايات المتحدة عن عمر يناهز 82 عاما.
ووفقا لصحيفة “نيويورك تايمز”، جمع دينيت بين مجموعة واسعة من المعرفة وأسلوب كتابة سهل ومرح في كثير من الأحيان للوصول إلى الجمهور العادى، متجنبا المفاهيم التي “لا يمكن اختراقها”.
ومعروف عن دينيت أنه كان “يتعارك” مع علماء ومفكرين مشهورين آخرين.
ووفقا لما قاله، فإن العقل البشرى ليس أكثر من مجرد دماغ يعمل كسلسلة من الوظائف الخوارزمية، الشبيهة بالكمبيوتر، وأكد لصحيفة “التايمز” إن الاعتقاد بخلاف ذلك هو أمر “ساذج للغاية ومخالف للعلم”.
وأثار دينيت غضب بعض العلماء بتأكيده أن “الإنتخاب الطبيعي” وحده الذي يحدّد التطور. لذلك، كانت بعض أفكاره وكتاباته تثير انتقادات قوية.
اهتم دينيت بالبحث في فلسفة العقل، وفلسفة العلوم، “فالفلسفة التحليلية تروم (كما يقول) لتحقيق الموضوعية وتثبيت الحالات التي يمكن معها تأكيد الأفكار الفلسفية أو دحضها وعلى النحو الذي يفعله العلم مع النظريات المستحدثة”، ويضيف: “من المؤكد أن واحداً من المآخذ التي حملتها الفلسفة التحليلية دوماً تجاه المدارس الفلسفية (الأوروبية بخاصة، وبالذات القارّية) هو أن تلك المدارس بدت وكأنها تجعل من ممارساتها الفلسفية عروضاً لباليهات لفظية”.
وهنا عرض وتعريف للفيلسوف، من قِبَل الكاتبة والمترجمة والصحفية والناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، العراقية “لطيفة الدليمي”.
تقول الدليمي: ليست معرفتي بالفيلسوف دينيت بعيدة، إذ لا أحسبها تزيد على العشر سنوات، والغريب أنّ هذه المعرفة لم تأت من بوّابة القراءات الفلسفية التقليدية بل عبر بوابة البحث في الخلفيات الفلسفية لموضوعة “الوعي” ومتفرّعاته الكثيرة التي يشكّل الذكاء الاصطناعي أهمّ مَعْلَمٍ معرفي وعملي لها. أستطيعُ القول إنّ معرفتي بالفيلسوف دينيت وثلّة من رفقاء مماثلين له في نمط التفكير الفلسفي (من أمثال “تشارلز تايلور” و”ديفيد دويتش”) هي التي جعلتني أعتقد برسوخٍ أنّ الفلسفة في عصرنا الحالي لا يمكن وُلوجَها بطريقة عملية منتجة إلّا من بوّابة العلم (الذكاء الاصطناعي والفيزياء والعلوم العصبية وعلم النفس الإدراكي بخاصة)، وبغير هذا سنبقى ندور في أفلاك التقليد غير المنتج.
أحب في العادة عند التفكّر في أيّ موضوع حيوي ذي أهمية راهنة (مثل الذكاء الاصطناعي) التفكير في أركان ثلاثة له: “سياقه التاريخي، وخلفيته الفلسفية، والسير الذاتية لآبائه المؤسسين”. فيما يخصُّ دينيت قرأت قبل بضع سنوات مادة مطوّلة لسيرة ذاتية مختصرة له نشرها بثلاثة أجزاء في مجلة Philosophy Now، وفيها ذكر جوانب من ولادته وعمل أبيه في بيروت خلال الحرب العالمية الثانية. لم تكن قراءة هذه السيرة الذاتية المختصرة عملًا يسيرًا لأنّ دينيت يميل للمداخلة بين الشخصي والعام، وبين المثابات الفكرية العالية والمعيش اليومي، لكنّي أيقنتُ أنّ الرجل لا بدّ من أن ينشر سيرة ذاتية مطوّلة له في يوم ما (هو يحبّ المطوّلات في كلّ أعماله ولا يكتفي بنتف موجزة)، وقد فعل الرجل ونُشِرَت هذه السيرة مؤخرًا (يوم 3 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023) تحت عنوان “حياةٌ عشتها في التفكير” I’ve Been Thinking. السيرة هذه ضخمة (464 صفحة)، ونشرتها دار نشر نورتون العالمية.
دينيت فيلسوف وكاتب وعالِم إدراكي أمريكي ولِد عام 1942 في مدينة بوستن بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وتُركّز أبحاثه على فلسفة العقل وفلسفة العلم والفلسفة البيولوجية بقدر ما ترتبط هذه المباحث المعرفية بالبيولوجيا التطورية والعلوم الإدراكية.
يوصف دينيت في العادة بأنه واحد من جماعة (الفرسان الأربعة) التي تضمّه مع كل من: “ريتشارد دوكنز”، “سام هاريس”، “كريستوفر هيتشنز”.
قضى دينيت شطرًا من طفولته في بيروت – لبنان خلال الحرب العالمية الثانية حيث كان أبوه يعمل عميلًا للاستخبارات المضادة في مكتب الخدمات الاستراتيجية تحت غطاء الملحق الثقافي في السفارة الأمريكية بلبنان. وعندما بلغ دينيت الخامسة من عمره رجعت به أمه عائدة إلى الولايات المتحدة بعد أن قضى أبوه في حادثة تحطم طائرة مجهولة الأسباب. وكتب لاحقًا أن المرة الأولى التي تعرّف فيها على مفهوم الفلسفة حصل عندما انضمّ إلى معسكر صيفي وهو بعمر الحادية عشرة، إذ قال له المسؤول الأعلى عن المعسكر: “دانييل، أتعلمُ ما أنت؟ أنت فيلسوف!!”.
حصل دينيت على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة “هارفارد” عام 1963 حيث درسّه هناك “دبليو. في. كواين” W. V. Quine، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة “أكسفورد” تحت إشراف “غلبرت رايل” Gilbert Ryle. يصف دينيت نفسه بأنه شخص يميل للتعلم الذاتي autodidact، أو بشكل أكثر دقة يرى في نفسه المستفيد الأعظم من مئات الساعات التي قضاها في الحوارات والدراسات غير الشكلية التي انكبّ عليها في مختلف الفروع المعرفية وعلى يد أمهر العلماء وألمعهم، الأمر الذي راق له كثيرًا وأفعم روحه بالبهجة والمتعة معًا.