فكرة التمرد على النظام الشمولي، والاحتجاج الواسع الشعبي عليه، مأخوذة أصلا عن ربيع براغ، الذي خرج ضد النظام الشيوعي العميل للسوفييت، والذي سحقته الدبابات الروسية بكل وحشية، والذي تكرر ناجحا بعد أن تخلى الروس عن فكرة السيطرة العسكرية على أوربا الشرقية، فسقطت أنظمتها تباعا وبشكل دراماتيكي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وحاول ربيع بكين تقليده لكنه سحق، وصولا إلى ربيع دمشق الذي سحق أيضا في عام 2001، والذي دفن رموزه في السجون ليعود للظهور، وبشكل مفاجئ ورائع، على شكل ربيع عربي، أطاح بمعظم أنظمة الفساد والاستبداد الشمولية العسكرية الأمنية، و سيطيح بالباقي قريبا إن شاء الله.
وأساس فكرة الربيع هي الحرية، وهو شعار سياسي يعني أن الشعب يريد، وهو من يختار الحاكم، لا أن يختاره له عصابة (حزب)، تقود الوطن وتحوّل المواطن إلى كائن مأمور مجبر على فعل كل شيء، فاقد لكل مستويات الحرية في كل شيء. لأنه في النظام الشمولي، تحتل السلطة عبر مؤسسات الدولة المتضخمة، كل مساحات النشاط السياسي الاقتصادي والاجتماعي. فنشعر أننا في سجن كبير وشامل، ويتسبب القمع والتنكيل المستمرين، بزرع قوة مراقبة رهابية في داخل كل نفس، تمثل السلطة وتصبح هي من تحرك سلوك ولسان الفرد، الذي يسلب منه كل شيء حتى ذاته. وفكرة الحرية تجد معناها هنا، بالتحرر أولا من الخوف، وقتل هذه الأنا المزيفة، التي دخلت كفيروس إلى ذهن الإنسان، وهي ترمز إلى تلك السلطة الأبوية القمعية المستعبدة المجرمة، قبل أن تنتقل إلى أفعال حقيقية تحطم فيزيائيا وماديا مؤسسات تلك السلطة، وهذا التحرر يتسبب بذلك الشعور الفريد العارم بالفرح، عندما يطلق المتظاهر صيحة التحدي الأولى، لنظام الخوف والطاعة البغيض الحاكم داخل الأنفس وخارجها.
لذلك، ومنذ طرح فكرة الحرية، فذلك يعني إسقاط النظام، الذي يعتبر ساقطا منذ أشكال التعبير الأولى التي ظهرت ككتابات على الجدران، متحدية نظام الخوف والخنوع، والتي لم تنجح كل آليات القمع والتعذيب والقتل في إعادة ترميمه.
قلنا حرية رأي وتداول سلطة وانتخابات حرة.. جُنَّ جنونًهم فأصبحنا خونة ومندسين وإرهابيين ومتآمرين على المقاومة ونريد تخريب الوطن. وما دخل المقاومة هنا؟ وأية مقاومة سيشكلها إنسان مذعور لا يجرؤ على التفكير أو النطق أو حتى الاستماع؟ وأية مقاومة تلك التي تقوم بها عصابات تشبيح، تستغل فكرة المقاومة لتشكل تمردا مسلحا على النظام العام و فكرة الدولة، والانضباط القانوني المتساوي مع الآخرين، والانضباط الخلقي أيضا؟ والتي انطلقت بعملية قمع وحشي، ليس فقط للمتظاهرين الفارين من دائرة الخوف، بل للمؤسسات الأمنية التي كلفت بقمعها، والتي يخشى أن تنتقل إليها عدوى التمرد هذه؟ وهكذا، وبانتظار توسع دائرة التحرر وتآكل دائرة الخوف، تستمر حالة الحراك، ويستمر القمع الوحشي والتنكيل والقتل، وتتطور وسائل وفنون مقاومته، ويظهر هنا الذكاء مقابل القوة، والحق مقابل السيف. وتكتب ملحمة الحرية بحناجر المتظاهرين وجسد كل معتقل معذب ينتهك بكل أشكال الانتهاك، وصولا للشهادة التي زارت كل حي وقرية وعائلة.
هذا المشهد يلخص كل أنواع وأشكال الشعارات وأسماء الجمع، ويشكل جوهر فكرة الربيع التي هي الحقوق والحريات والنظام القانوني المتساوي المطبق على الجميع، وهي كلها شعارات وطنية مدنية ديمقراطية بامتياز، ولا علاقة لها بدين أو طائفة أو قومية، لذلك أستغرب الحديث عن حرب أهلية، فلم أسمع أحد يريد تغيير عقيدة أو دين أحد.. لكن فقط النظام، هو من يحاول توسيع قاعدته وأعداد شبيحته، هو من يورط طوائف وأقليات في دخول الصراع وربط مصيرها بمصيره، وكذلك أيضا كل من يفترض أن وجوده كأقلية، مرهون ببقاء أغلبية الشعب تحت نير الاستعمار أو الاستبداد والتنكيل و الإهانة والتعذيب، ويتوهم أن وجوده التاريخي مهدد بفكرة الحرية، التي هي فعلا من يضمن له حقه في البقاء، وكرامته وتساويه مع الآخرين بعدالة ونزاهة.
أما عملية إضعاف فدرة عصابات التشبيح ومن يأتمر بأمرها، فهي تتطلب توسيع دائرة الاحتجاج الشعبي والعصيان المدني، وزيادة هامش تمرد أو سلبية المؤسسات الأمنية، و وتطوير قوى المقاومة التي تحاول ردعها، و التي يمكن لها تلقي الدعم من الخارج، كما يتلقى النظام دعما من الخارج، المتحالف معه والمشابه له، فأنظمة التشبيح متضامنة، وكذلك الشعوب الحرة، وهذا يلخص الجدل الجاري حول التدويل والدعم من الخارج. فالقمع ليس الداخل، وليس وطنا لأحد، والحرية ليست الخارج، والنظام الذي وزع السلاح على شبيحته متذرعا بثقافة المقاومة، وحماية السلاح المقاوم، الذي لم يستخدم إلا لقتل الشعب بكل أسف، هو من ينكر على الضحية تملك وسائل مقاومته، فلو كانت موالية له لجاز لها حمل السلاح. أما ضده فذلك بنظره جريمة وإرهاب، مع أن الدفاع عن الأهل والإنسان والأسرة والقرية والحي.. هو معنى المقاومة الحقيقي، ومن يدافع عنهم هو من يتمتع بشرعية حمل السلاح حقيقة.
أما الخارج فهو منقسم بين داعم للنظام وبين منزعج منه وبين داعم للحرية، وسلوكه يتراوح بين الإدانة والمقاطعة والعقوبات ودعم المعارضة.. ومنظمات المجتمع العربي والدولية يبدو أنها مصممة كي لا تعمل، فهي في نهاية المطاف غير منتجة ولم تقدم أي شيء مفيد عمليا بعد تسعة أشهر. والنظام العالمي مصمم لخدمة مصالح الدول التي انتصر ت في الحرب العالمية الثانية، ولا علاقة له بتنظيم العالم، وتنظيم قيام ونشوء الدول وسلوكها، ولا حقوق الشعوب، ولا قدرتها على إنتاج السلطات التي تمثلها، ولا حتى إدارة أي أزمة اقتصادية أو إنسانية أو بيئية.. وهي أيضا بحاجة إلى ثورة تقول: العالم يريد، وليس فقط الشعب يريد، وهذا لا يجب أن يدعونا للإحباط بل لتوسيع آفاق الثورة نحو تغيير العالم أيضا.
وقدرة النظام على استعادة السيطرة عسكريا ومؤقتا، فكرة ممكنة نظريا بشروط خاصة، لكن أن يفرض سلطته فعليا على سلوك البشر خارج سجونه وبعيدا عن حواجزه، فهي فكرة مستحيلة، باستحالة إمكانية إعادة الناس إلى دائرة الخوف، وبشكل خاص الشباب والأطفال، المستعدين للموت بشجاعة لم أرى أو أسمع عن نظيرها.. والله، وأنا متأكد أن هذا الشعب لن يسمح لأي سلطة غير منتخبة، عبر انتخابات نزيهة، أن تحكم وتفرض سلطتها، فذلك يتطلب قبول الناس، وقناعتهم واحترامهم، وليس خوفهم بعد الآن. فالربيع قد نجح، والثورة انتصرت عمليا، والسلطة في الشارع قد سقطت، وما تبقى هو جزر أمنية ومعسكرات معزولة وحواجز، يخرج منها من يسلب ويقتل ويخطف، ثم يعود أدراجه، وهي أيضا تضعف وتتآكل ويتسرب خارجها الكثير من العناصر الذين ينضمون للشعب، أما من يحكم الأرض فهو العرف والناشطين، وهم سلطة حقيقية ديمقراطية مباشرة رائعة التنظيم كبيرة الانضباط، مما يجعل أي مخاوف من انفلات الوضع بعد سقوط النظام غير مبررة على الإطلاق، والتعجيل بسقوط هذا النظام بأي وسيلة، سيعني فقط تقليل حجم الخسائر والمعاناة.
فالمعارضة على الأرض موحدة ومتماسكة ومنظمة وهي تتقدم بخطى ثابتة منذ ثمانية أشهر، أما رموزها فهم من يختلفون بالرأي إن كانوا في الداخل أم في الخارج، وخلافاتهم أو حتى تنافسهم لم ولن يعيق هذه الثورة، ولكنه لا يفيدها ، ويعرقل الدعم المعنوي والمادي ويعطي صورة غير صحيحة عن نزاهة وبطولة وشهامة من ينشطون على الأرض، ويقدمون التضحيات اثر التضحيات…..
والله الموفق.
( يتبع)