يحكى أن جحا فقد درهماً في مكان مظلم، فذهب يبحث عنه في مكان آخر منير، ولما سئل عن ذلك قال: لكي أتمكن من رؤيته في النور. . أتذكر تلك النادرة وأنا أشاهد المجهود الوافر الذي يبذله الفلسطيني الشريف محمود عباس، فيما يسمى إحياء عملية السلام، خاصة بعد الانقلاب الحمساوي الدموي في غزة.
ماذا يتوقع السيد أبو مازن، وماذا تتوقع معه الدول التي بدأت تدفع باتجاه محادثات سلام، يأملون أن تحقق ما لم تحققه كل جولات المحادثات السابقة؟
سوف يذهب أبو مازن إلى مائدة المفاوضات على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام، وإسرائيل تمسك بالأرض، فهل يمتلك أبو مازن في المقابل مفاتيح السلام؟
نعرف جميعاً أن الرجل وإدارته لا يمتلكون من حطام الدنيا، أو بالأصح حطام فلسطين، غير ما يسمى بالشرعية الدستورية، وهي ميزة لا يستهان بها ولا شك، لكنها وحدها لا تكفي للمقايضة عليها بالأرض، فكل ما يستطيع أبو مازن الحصول عليه من إسرائيل مقابل شرعيته، هو اعتراف وتأييد لهذه الشرعية التي يدعمها الجميع، خاصة وأن الجهة التي تنازعه الشرعية هي في عداد المجتمع الدولي منظمة إرهابية، ولو لم يدرجها الجميع رسمياً في قوائم الإرهاب، كما أنها كذلك في نظر النظم العربية، وإن لم تعلن ذلك صراحة، كعادتها في الهروب من الحسم والعجز عن المواجهة، علاوة بالطبع على ما تمرست عليه من نهج حربائي متلون، وإدمانها للخطاب المزدوج، تدين في العلن وتؤيد وتمول في السر، أو العكس.
يلزم أبو مازن لكي تأخذ إسرائيل المحادثات معه مأخذ الجد أن يمتلك مفاتيح السلام، ولقد فقد تلك المفاتيح في غزة والضفة أيضاً، وهذه هي أزمته (وأزمة العالم معه) الحقيقية، ومن العبث أن يبحث عنها في شرم الشيخ أو أوسلو، أو أي مكان تعقد فيه مؤتمرات ومباحثات سلام.
الشعب الإسرائيلي صاحب القرار الحقيقي في عملية السلام ينشد السلام مع الشعب الفلسطيني، وليس مع بضعة أفراد حول أبو مازن، مهما كان إخلاصهم واستنارتهم، ومن ثم فلن يستفيد أي أحد شيئاً من تحويل أبو مازن للكرة إلى الملعب الإسرائيلي أو العربي أو الدولي، فكل هؤلاء لا يملكون من الأمر غير قاعات الاجتماعات مكيفة الهواء، وموائد للحوار مستديرة أو مستطيلة أو حدوة الحصان، مادام اللاعب الأساسي وهو الشعب الفلسطيني بعضه غائب، وبعضه رافض، وبعضه منهمك طول الوقت في سفك الدماء، ولا مانع لديه إذا لم تتح له دماء إسرائيلية، أن ينهل من الدماء الفلسطينية المتاحة مجاناً طوال الوقت، فأي محاولة لإجراء محادثات سلام بهذه الوضعية محكوم عليها بالفشل، ولن تثمر غير تأكيد ما يلح عليه دعاة العنف والكراهية، من أنه لا جدوى من السلام، وأن العنف هو الحل الذي لا بديل له.
من الواضح أن محمود عباس رجل سلام حقيقي ومستقيم، وأنه قد ورث السلطة دون أن يرث معها النهج الثعباني المراوغ ومتعدد الأوجه، الذي تميز به سلفه الكريم، كما من الواضح أن الرجل غير معني إلا بصالح شعبه المطحون، لكن ينقصه أمران يجعل غيابهما مميزاته غير قابلة للصرف، أولهما أن الشارع الفلسطيني مختطف منه، واختطفت معه القوة المسلحة، لتتوزع على فصائل وعصابات وعائلات، ولتسيطر على غالبيتها (كما اتضح في غزة) منظمة حماس، الأشبه بدمية تحركها خيوط وأصابع خفية وعلنية من دمشق وطهران، ومن كل من لديه بترودولار ليجاهد به في سبيل خراب المنطقة!!
الأمر الثاني أن الرجل، وفيما رأينا منه حتى الآن، لا يميل إلى الحسم في الأمور، ويصر على اللعب في المساحات البينية، بين الكتل والشراذم المتنافسة المتصارعة، وقد يرجع هذا لإدراكه أن موازين القوى ليست في صالحه، وأن نتيجة أي حسم ستأتي عملاً بقانون “البقاء للأقوى” وليس “البقاء للأصلح”، كما قد يرجع عدم الحسم إلى خصلة عربية أصيلة في تركيبته السيكولوجية، وإن صح هذا سنجده يعجز عن الاستفادة من أهم درس من دروس سقوط غزة رهينة في أيدي عصابات القتل الملثمة، ليضاف الدرس الجديد إلى قائمة الدروس المهدرة نتيجة لعدم الحسم، خلال السنوات القليلة والمصيرية الماضية.
عدم الحسم إزاء الفساد والفاسدين، رغم علانية الشكوى وعلانية الفضائح، وليس أقلها أننا نحن المدعوين عرباً، والذين بذلنا الدم والأموال، بل والقوت من أجل فلسطين، لا نعرف حقيقة ثروة المناضل ياسر عرفات، سواء مصدر هذه الثروة أو مصيرها، في الوقت الذي يمارس فيه الشعب الفلسطيني التسول، للحصول على القوت والمتفجرات والأحزمة الناسفة، واكتفى الرجل الذي لا نشك في نزاهته وإخلاصه بالوقوف موقف المتفرج، وتظاهر بالسير في محاربة الفساد، فيما هو بالحقيقة محلك سر، والجميع يعرفون هذا، وهو يعلم أن الجميع يعرفون، ليظل الفساد ينخر في عظم ما نحب أن نسميه سلطة شرعية، لتكون النتيجة انصراف الشعب لتأييد المقابل، حتى لو كان الشيطان ذاته!!
على المستوى الأمني أو العسكري تحولت الساحة الفلسطينية إلى مرتع للملثمين من كل لون، واختلط الوطنيون بالقوميين بالدينيين، واختلطت الأيديولوجيا بالعقيدة بالبلطجة وبتجارة المخدرات والسلاح . . فوضى عارمة تحت مسمى “خيار المقاومة” و”حرية سلاح المقاومة”، وكان شعار “حرمة الدم الفلسطيني” غطاء جيداً لعدم الرغبة في الحسم، ولعدم القدرة عليه، لكن توفرت الرغبة والقدرة على الحسم لدى منظمة حماس فلم تتهاون أو تتمهل لتعتذر من الشعارات، بل سفكت الدم الفلسطيني المحرم بدم بارد وجسارة متناهية، لكن ليس لتوظيف الحسم لصالح الشعب والقضية الفلسطينية، وإنما للدخول بهما في نفق مسدود.
على مستوى الفكر والخطاب السائد لم يتم التصدي شعبياً لشعار “المقاومة خيار استراتيجي”، واكتفي أبو مازن والقلة المستنيرة المحيطة به ببعض التصريحات الخجولة عن حتمية السلام، دون تعبئة حقيقية للجماهير خلف خيار السلام، ودون تفنيد حقيقة أن المقاومة المسلحة لا يمكن أن تكون خياراً استراتيجياً لأي شعب، إلا إذا كان شعباً من القتلة المحترفين، وما من شعب في العالم يريد لنفسه أن يكون كذلك، اللهم إلا في منطقة الشرق الأوسط!!
خيار كل الشعوب هو السلام، الذي قد تكون الحرب أحد الوسائل الموصلة إليه، بالطبع إذا ما تم استنفاد كل الوسائل الأخرى، لأن ثمن تلك الوسيلة هو الأكثر فداحة، بما يسفك من دماء، وما يدمر من بنيان وحضارة . . لم يحاول أحد توعية الجماهير سهلة الانخداع، أن العنف حتى في حالة القدرة عليه صار مرفوضاً من الجميع، وصار ما نسميه مقاومة هو ما تسميه كل الشعوب إرهاباً، في عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001، وأنه ليس من قبيل السعي للتحرير أن نسير في عكس اتجاه كل العالم، كأنما بوهم قدرتنا على إجباره على أن يستدير مائة وثمانين درجة.. لم يحاول أحد أن يقنع الجماهير أن إصرارنا على الحديث بلغة ومنطق لا يفهمه العالم بل ويرفضه، والانزلاق لممارسات لن تواجه من العالم إلا بالإدانة، لا يمكن أن يترتب عليه الحصول على حقوق مستلبة، وإنما فقط أن نكون ملاحقين كخارجين عن الشرعية الدولية، وعن معايير القيم الإنسانية.
على أبو مازن أن يعطي ظهره لقاعات المؤتمرات وموائد المباحثات، وأن يذهب أولاً إلى شعبه، ليحسموا جميعاً أمرهم، ويحددوا ماذا يريدون، وفي أي طريق سيسيرون، في طريق السلامة، أم طريق الندامة، أم طريق اللي يروح ميرجعش، تماماً كما في حكايات جدتي!!
بعدها يمكن لأبي مازن أن يتوجه للمفاوضات، وهو مدعم ليس فقط بالشرعية الدستورية، وإنما أيضاً بالشرعية الشعبية العملية، وعندها سيلوح لإسرائيل بمفاتيح السلام بين أصابعه، عارضاً مقايضتها مقابل الأرض، أما الآن فليس له إلا أن يطلب من العالم المحب للسلام، أن يمد له يد العون، ليتمكن من إنجاز ما يتحتم عليه إنجازه، وأن يحسم ما يتحتم عليه حسمه.
kghobrial@yahoo.com
نقلاً عن إيلاف