عبر تاريخ البشرية الطويل، وفي كل مكان على الأرض، بحث الإنسان عن العفة وطلبها وقنن لها الشرائع لحمايتها قبل ظهور الديانات الإبراهيمية الثلاث، كما هو ثابت في شرائع مصر والرافدين القديم. ولو حاولنا تعريف العفة سنقول إنها ذلك الدافع الداخلي للإنسان، الذي يمنعه عن طاعة غريزته الجنسية، إلا بما يقره المجتمع ويرضي عنه، بمعنى أنها ما يمنع إقامة هذه العلاقة خارج إطار الزواج الذي وضعه المجتمع وتعارف عليه وقننه دينياً ومدنياً. وقد قننت الحضارات القديمة هذه العلاقة الزوجية للحفاظ على العفة، وذلك وفق ثقافة كل منها التي تصنعها علاقة الإنسان ببيئته الخاصة ومجتمعه. وركزت على تفعيل معنى العفة تربوياً في الأسرة والمدرسة ودار العبادة لزرع وازع داخلي في الصغر ليكون كالنقش في الحجر، كنوع من الفاكسين والتطعيم المسبق الواقي الداخلي من الإصابة، لتصبح العفة أحد مكونات الضمير صداً لأي إغواء شهوي بمناعة هذا الضمير.
وباختلاف الثقافات يختلف معنى العفة، ومعنى الزنا، فالمجتمع الذي كان منذ فجر التاريخ – وبعضه النادر لازال – يأخذ بنظام تعدد الأزواج للزوجة الواحدة، يعتبر غير ذلك هو الزنا، لذلك يختلف معنى العفة والزنى إلى درجة التناقض، فلو قارنا ذلك الزواج التعددي للأزواج بمجتمعات أخرى تقر عكسه وهو تعدد الزوجات كلون وحيد مباح للزواج وعكسه زنا، نكتشف فارقاً هائلاً في دلالة معنى العفة. وهناك المجتمعات التي تقصر العفة على طبقة من طبقات المجتمع دون أخرى، وهي مجتمعات تنتمي إلى حقب موغلة في القدم والبدائية في تاريخ البشرية، هي حقبة الزمن العبودي، حيث يقتصر طلب العفة فيه على الزوجات الحرائر فقط، ولا ينسحب على الجواري والإماء والعبيد، وذلك بغرض التمييز بين الطبقات لعدم الاختلاط مما يُضيّع نقاء الطبقة ونسبها، وتأتي العفة هنا كصفة ارتقاء أخلاقي تضاف إلى الرقي الطبقي لتناسبه وتليق به وتسم أصحابه بها، وقد حرص الخليفة عمر بن الخطاب على هذا النقاء الطبقي بشدة، فكان يضرب الإماء والجواري إن رآهن مخمرات كالحرائر، لأن الشباب المسلم زمن النبوة والخلافة من الفقراء الذين لا يستطيعون طولاً للزواج أو ملك اليمين، كانوا يتربصون بالنسوة عند خروجهن إلى الغائط، فإن وجدوا المرأة سافرة عرفوا أنها جارية فيتناولونها. لذلك أمرت الآيات نساء المسلمات بتغطية جيب الثديين بالخمار، وبإدناء الجلاليب، حتى يعرفن أنهن حرائر وتمييزاً لهن عن الإماء حتى لا يؤذين. وزنى الرجل في مثل هذا النظام يكون بلقائه جنسياً بامرأة من خارج نسوته وإمائه ولو كُنَ ألوفاً، بينما تأخذ مجتمعات الغرب الحر اليوم بثقافة الحريات الحقوقية الفردانية، وترى أن جسم الإنسان هو أخص خصائصه وممتلكاته التي لا يصح التدخل فيها أو الاعتداء عليها، لذلك تقوم العلاقة الجنسية على لقاء ذكر بأنثى بكامل التراضي والاتفاق دون استغلال ظروف طرف لطرف ودون إكراه، وقد تتم بعقد زواج ديني أو بدون عقد زواج، فكلاهما هو زواج سليم من وجهة نظر المجتمع وهو نموذج العلاقة الجنسية العفيف والمثالي، وغير ذلك يعتبر اغتصاباً يتشدد معه القانون بعقوبات مغلظة، حتى لو كان إكراهاً من الزوج لزوجته على الممارسة الجنسية، لأنه سيعد اغتصاباً، حيث لا يقف الإغتصاب عند المعنى الجنسي، لأن الاغتصاب هو اغتصاب للإرادة وسحق للشخصية وإزدراء بالشريكة وإذلال لها رغم إرادتها، وهذه هي الجريمة الكاملة عندهم.
وقد لوحظ في مسيرة البشرية، أن الشعوب عندما تمر بفترات انكسار وطوارئ وضعف في الأمان، تلجأ إلى إجراءات احترازية لصون عفة نسائها، لأن النساء عبر التاريخ كُن الطرف الأضعف، لذلك مع الطوارئ في الحروب أو الغزوات أو الانفلات الأمني نتيجة للكوارث الطبيعية فإن النساء يتعرضن للهتك والاغتصاب، وفي المجتمعات التي تضعف فيها تربية الضمير والوازع الداخلي، يستشعر الذكر فقد الثقة في نفسه مثله مثل كل المجتمع المهزوم المأزوم، لذلك يفترض أن نساءه قابلات للسعي الشهوي الفاسد لاستكمال نقص لا يسده ذكر غير واثق من نفسه، وذلك بالتدخل الخارجي الميكانيكي القسري، وهو تدخل لا علاقة له بالعفة كمعنى وضمير، هو تدخل يُحل الأداة الخارجية محل العفة الداخلية الحقيقة فلا يصبح لها لزوم فتذبل وتموت، التدخل الخارجي استباق للحدث المرفوض اجتماعياً بصنع إجراءميكانيكى مانع كي لا تقع جريمة الزنا التي تهتك العفة. فتجد في بعض البلاد التي لازالت تعيش حالة الصيد والارتحال بين المدارين، يخيطون فرج الزوجة بما لا يسمح بالإيلاج لغياب الأزواج الطويل رعياً وصيداً، كإجراء مانع لوقوع جريمة هتك العفة بالزنا. ويماثله في مصر (ولا زلنا بين المدارين) الختان الجائر للفتيات وهن صغيرات بنزع البظر مع الشفرين الأصغرين لكبح الشهوة للحفاظ على العفة.
الكارثة في الختان الجائر هو أنه لا يمنع الاشتهاء والرغبة الجنسية، كل ما يمنعه هو وصول الأنثى إلى درجة الشبع (الأورجازم). وتكون النتيجة أن المختونة لن تصل إلى الشبع مهما حاول الزوج من فنون، ومعلوم أن سبب انتشار المخدرات في هذه البلاد هو محاولة الرجال إطالة زمن المعاشرة لإرضاء الزوجة المتهيجة دون شبع. وعليه فبدلاً من أن يصون الختان العفة، فإنه يترك المرأة كاملة الشهوة، وفي حالة تهيج جنسي مستمر بسبب العلاقة الزوجية التي لا تنتهي بالأورجازم، فتظل الشهوة مستعرة تطلب الإشباع دون أن تخمد، يوقظها الزوج ولا يتممها ـ فلا هي قضت وطرها ولا هي ظلت هادئة النفس والجسد.
ومثل هذه الألوان من التدخل الخارجي للحفاظ على العفة هو ما لجأت إليه أوروبا في عصورها الوسطى بأداة ميكانيكية مُبتكرة أسمها (حزام العفة) ليمنع وصول القضيب إلى الثقب في حال غياب الزوج، ومثله ما يلجأ إليه المجتمع الإسلامي في هذه الأيام بالحجاب والنقاب للحفاظ على عفة حريمه. وعليه فإن آليات العفة بتدخل خارجي هي : الحجاب، والنقاب، والختان الجائر، وخياطة الفرج، وحزام العفة، أما آلياتها الداخلية فشئ واحد فقط هو وازع الضمير الأخلاقي بالتربية الأولى للطفل في سنواته المُبكرة.
وعندما تكون العفة معنى وقيمة ذاتية داخلية تربى عليها الفرد في طفولته، فإنها ستصبح إلزاماً لصاحبها ذكراً كان أم أنثى، فهي تقف حائلاً داخلياً دون مجرد التفكير في هتك العفة، لانتقاص ذلك من قدره الإنساني، ولكن الواضح أن المجتمع المسلم قد اختار الحجاب والنقاب كوسيلة خارجية لصون عفة نسائه، ليمنع به إثارة الذكر المسلم التقي بشكل قد يدفعه للاعتداء على المرأة أو مطاردتها لتزيين جريمة الزنا لها. وهو ما يعني اشتداد وطأة الأزمة في المجتمع، وهي الأزمة التي دفعته لإختيار وسيلة الحجب بأدوات مخترعة، بحسبانها أكثر طمأنية له من الأسلوب التربوي الذي يلزم الطرفين من الداخل.
الرجل المسلم معذور وهو يرى الشعب المصري ومثله معظم شعوب الدول الإسلامية يتوكل على الله تحت وطأة مشايخه ليعمل بنصيحة تكاثروا تناسلوا، فتكاثروا وتناسلوا حتى لم تعد البيوت تسعهم فتربوا في الشوارع، ولم يعد لدى الأم ولا الأب الذي يسعى لإشباع هذه الأفواه الجائعة وقتاً يكرسه لتربية وازع الضمير والقيم الأخلاقية في عياله. كيف لا يقلق المسلم وهو يرى هذا التكاثر الأرنبي (لأن الله هو الرزاق) دون أسرة حقيقية تربي ودون مدرسة تُهذب وتُعلم؟ ويرى هؤلاء يكبرون أمامه خلٌوا من أي قيم تربوية سليمة، وينضمون إلى مدرسة الفساد المعمم سياسياً كان أم دينياً، فلا يبقى أمامه للحفاظ على العفة سوى التدخل الميكانيكي الخارجي. رغم ما يلحق هذه الوسيلة من مثالب ونقائض كثيرة.
فالنقاب الذي يرفعون له شعار (النقاب عفة) لا يصنع للمرأة أي عفة، هو يعف الرجل وحده لكنه لا يعف المرأة المنتقبة، يجعل الرجل عفيفاً لأنه لا يرى منها شيئاً يثير شهواته، لكنه أبداً لا يصنع للمرأة عفة، وإن كانت داعرة وانتقبت فلن يحولها النقاب إلى عفيفة، ستكون كاللص المحبوس يظل لصاً سيسرق أياً ما تطاله يده حتى لو كان نفايات، وكذلك حبس المرأة خلف النقاب لن يمنعها من كسر العفة، ولن يخلق لديها العفة إن لم تكن ضمن مكوناتها التربوية من الطفولة المبكرة، وستطلب الجنس ولو مع نفايات البشر.
والشعار بهذا الشكل القطعي لا يقول: إن النقاب قد يخلق عفة للمرأة بصيغة الاحتمال، بل هو صارم واضح (النقاب عفة)، أي أن من طلبت العفة فعليها بالنقاب، ومن لم تُرد العفة فعليها عدم ارتدائه. وهكذا يعود بنا الشعار إلى التقسيم الطبقي العتيق البدوي، فتصبح المنتقبة محمية من التحرش بها فهكذا يُعرفن فلا يؤُذين، بينما تكون السافرة مستباحة، ولأن معظم السافرات في بلادنا من غير المسلمات فهن من الأصل محل استباحة لأنهن من الطبقة الأشد دناءة ووطاءة في ترتيب المجتمع المسلم الطبقي، طبقة الذميين، (فشعار كهذا يلزمه فهم كذلك)، لهذا هن غير عفيفات بالضرورة الحتمية كإماء الجاهلية يجوز امتطائهن، فلا تأمن السافرات في بلادنا من أي انتهاك مفاجئ في مجتمعنا العليل بانعدام القيم، ويخرج الشباب المتأسلم والمشايخ في التلفاز لتفسير ظاهرة التحرش والاغتصاب المنتشرة في بلاد الصحوة الإسلامية، بأن لبس البنات السافر والخليع هو ما يدفع الشباب إلى هذا الهوس الجنسي، بحسبان العفة تكون من المرأة وحدها، أما الرجل فله حق الفُجر العلني دون أي قلق يصيب هذا المجتمع المُتدين.
هذا رغم أن العفة هي الوجه النقيض لذات العملة التي يشكل طرفاها ذكر وأنثى، فالشهوة تتم من الذكر والأنثى، والفعل الجنسي يتم بذكر وأنثى، والعفة تتم بابتعاد أحدهما عن الفعل الشهوي بوازع من القيم الأخلاقية التي تربى عليها، فالعفة تحتاج أيضاً لذكر وأنثى حتى يتم ابتعاد أحدهما عن إغواء الآخر تأكيداً لعفته.
في بلادنا تصبح الكارثة مضاعفة عن كل عصور وسطى كانت أو مظلمة أو قاتمة، فنحن أولاً نلجأ لختان الذكر (سُنة إبراهيم)، وهو ما يجعله عملياً سهل الاستثارة، ويجعل عضوه أكثر حساسية من الأغلف، وهو ما يؤدي إلى سرعة القذف وبلوغ الأورجازم بسرعة قياسية، بالنسبة للأغلف الذي تطول ممارسته مما يشبع أنثاه بدورها ببلوغ ذات الدرجة من الإشباع لأنها غير مختونة وهو ما يساعد على سرعة بلوغها الأورجازم. وفي الوقت ذاته نلجأ إلى ختان الإناث فلا نمنع الشهوة بقدر ما نعطل الوقت اللازم للوصول إلى الإشباع، وهو ما يستدعي من الذكر بذل جهد مضاعف، فتستحفل الأزمة، ولا تمنع المخدرات النهاية المحتومة التي تشهد بأن عدد حالات الطلاق قد أصبح في بلادنا أكثر من حالات الزواج.
وبدلاً من المراجعة واللجوء إلى الحلول العلمية وقفاً لمزيد من التمزق الأُسري الحادث، والانهيار القيمي الحاد، يلجأ الرجل المهزوم سياسياً وإنسانياً وجنسياً إلى الحلول القديمة التي لم تحل شيئاً بقدر ما زادت من المشاكل، فيحجب المرأة أو ينقبها أو يحبسها في البيت.
وللحديث بقية.
elqemany@yahoo.com
* القاهرة
أبعاد ظاهرة الحجاب والنقاب (3 من 4): البُعد الإجتماعي
رائع يا دكتور ولكن هل يفهم عامة المصريون ما تكتبة. قلبى معك
أبعاد ظاهرة الحجاب والنقاب (3 من 4): البُعد الإجتماعي
الصور المنشورة مع المقال رائعة .. لكنها تخلو من أي تعليق او معلومة. ما المصدر؟ من هم هؤلاء الشباب؟ هل انهم في اوروبا تدهشهم المظاهر السافرة، أم في السعودية يرون في التماثيل المعروضة تنفيسا للمكبوت الجنسي لديهم؟
..