وقف أبو اسماعيل، ناداني أن أقترب منه. كنت صغيراً جداً، في الثامنة من عمري، وما زلت صغيراً حتى هذا الوقت، في عيون والدتي وأخوتي الكبار والأصغر مني. قال لي الرفيق الوالد أن آخذ قطعة السلاح وأذهب إلى مسرح بيروت لأسلمها لحسين عيسى حيث ينتظرني هو و”اللينو”.
بيتنا القريب إلى المسرح كان يشهد طوال الوقت حركة ناشطة لشبان الحزب ومقاتليه، نقاشات سياسية، وأحاديث عن معارك وحرب الفنادق واحتلال “الهوليداي ان”، وكذلك عن معركة صيدا وتدمير الدبابات السورية على مداخلها، وما تلاها من عمليات هرب وكر وفر أمام المخابرات السورية.
مسرح بيروت، أمرّ أمامه صغيراً أثناء ذهابي إلى المدرسة الرسمية عند المديرة زينب كستي، فأظن ان خلف الزجاج المغبر يقبع “شوشو” حسن علاء الدين، يختبئ فيه في واحدة من العابه المسرحية التي كنا نحضرها على تلفزيون الأبيض والأسود من إعداد محمد شامل، أو مع عزيز السلمنكي الرجل الشهم ولكنه الخائف دوماً من زوجته زمرّد.
كانت المرة الأولى التي يفتتح بها مسرح بيروت خلال الحرب الأهلية، المسرح المحاط من جهة بمركز للاتحاد الاشتراكي ومن الجهة الثانية بمركز حركة رواد الاصلاح وحركة المرابطون. القوات السورية كانت قد رابطت في مبنى الاتحاد الاشتراكي وأقامت أمامه حاجزاً يوقف السيارات ويسأل أصحابها عن هوياتهم وطرق سيرهم. وكذلك أمام مبنى المرابطون كان يتواجد عدد من الجنود السوريين في نقطة مراقبة، وكان عليّ أن أمرّ بكلاشينكوف والدي المخبأ في كيس خام أبيض كان يعبأ فيه طحين الاعاشات، ومكتوب عليه طحين أبيض نقي خمسين كيلو قائم.
لعبتي الصغيرة، أو سيارة “الماتش بوكس” التي خبأتها في الكيس مع سلاح أبو اسماعيل، كانت تثقل عليّ مشوار الطريق، إلى المسرح، هنا حسين ميكانيكي السيارات الذي كان رفيقي في الثاني ابتدائي وخرج من المدرسة، وبقربه يلعب حسن “الأخرس” لعبة الغميضة مع أربعة من صبيان الحي، يختبئون منه و”يزعبرون” عليه لأنه لا يستطيع مناداتهم بأسمائهم، فلا شهود أنه رأى أحدهم. ينادي حسن ويشير عليّ بأصواته الغير مفهومة أن أكون شاهداً، ولكن الرفيق الوالد نبهني أنا ابن السنوات الثماني أو التسع أن لا أقف في الحي ولا أردّ على صراخ أحد من الناس والجنود السوريين. واضحة قالها، “روح عالمسرح، بتعطي الكلشن لحسين أو لينو وبترجع دوغري”.
إنه يوم المهرجان الحزبي في مسرح المدينة، والدي يتحضّر لهذا اليوم، والقادة السياسيون سيأتي بعضهم ولذلك يجب أقله حمايتهم، بحال حصل أي إشكال ولو بالصدفة، فمن الممكن أن يأتي الرفيق أبو أنيس، ويلقي خطاباً في الرفاق الحزبيين حول الأوضاع السياسية والتحالفات الحديثة بعد استشهاد الرفيق كمال جنبلاط، أو اغتياله غدراً على طريق “تحرير فلسطين”.
أدخل المسرح، هنا يتقدم حسين عيسى مني ويأخذ الرشاش الحربي ويختفي في كواليس المكان الذي رأيته كبيراً، أنظر إلى الداخل فأرى الشباب يحضّرون الاضاءة والصوت وكذلك يحددون الكراسي التي سيجلس عليها الرفاق والضيوف من أحزاب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية. أدور بينهم في المسرح الكبير الذي لا نهاية لأطرافه، أنظر إلى المكان متفاجئاً بحجمه الضخم، “اكتشفت لاحقاً أني حين كنت طفلاً كنت أرى الأشياء الصغيرة كبيرة جداً، قصة أحجام ونسب”.
يطلب مني زوربا المقاتل المغروم بالصوتيات والغيتار والغناء، أن أصعد إلى المنبر وأقول كلمة “ألو”، ليعرفوا حجم الصوت. أصعد الدرجات وأحسّ هنا ان شخصية الرفيق أبو أنيس تلبستني، أقترب من الميكروفون وأصرخ من كل قلبي كلمة “ألووووووووووووووووو”.
“ألو ألو ألو بيروت من فضلك يا عينيي عطيني بيروت وقف لي الخط شويي”، صوت صباح في سيارة السرفيس من حي الِّلجا إلى عين المريسة، انتهت الحرب الأهلية، ومجموعة من الناس منهم الياس خوري يفتتحون مسرح بيروت من جديد. المسرح الذي ولد في منتصف الستينات مع تطور الحركة الثقافية، وتحول خلال الحرب إلى منبر سياسي وخربة، يعود مجدداً، نستمع إلى قصائد لمحمود درويش ممسرحة، يغيب محمود درويش عن بيروت وكتابه الجديد “أحد عشر كوكباً”.
المسرح الكبير واللا محدود في الطفولة صار صغيراً جداً في العام 1992، والشارع الذي سكنته أول الحرب الأهلية، صار خالياً ممن أعرفهم فيه. تابع المسرح نشاطه وأغلق، وأعادت شمس افتتاحه، وصار مقصداً لكل الشبان الذين يريدون صناعة مسرح مختلف ومهرجانات سينمائية مختلفة .شبان من كل الأعمار، عصام بو خالد هناك وروجيه عساف الباقي شاباً، وحنان الحاج علي والقصص التي لا تنتهي عن التعب وتأمين المصادر المالية لإكمال المسرح ليكون صوت الناس في المدينة، هنا يركض عبدو نوّار، باحثاً عن مواهب جديدة متحملاً سرمد لويس الذي ينافسه على كمية التعب التي يصرفانها لأجل نجاح التجربة.
نقاط ماء تسقط من السقف، ينظر إليها طارق عمار، ويقول ان المسرح يحتاج للكثير من العمل، ولكن يجب أن ننجح بإعادته إلى مكانته، يروي طارق التجربة فهو وابراهيم ابو خليل وعصام بو خالد، أتوا من تجارب مختلفة ولكنها تلتقي على الكثير من القضايا، فالمسرح للأعمال الفنية والتنمية والبحوث، والنقاش والصراخ الذي قد يؤدي الى تغيير جدي. صور المسرحيات القديمة لم تعد إلى الجدران، فعصام يبحث عنها لدى الأصدقاء الذين يملكون أرشيفاً عن المكان، يريد أن يتذكر كثيرون مروا من هنا، يقف متحدثاً مع أصدقائه، وبرنا تتابع نقاشاً مع أحمد حول أحد الأدوار كأن المكان لا يتأخر عن تقديم ذاته. يصرخ عصام اثناء التدريبات على المسرحية التي ستنطلق نهاية هذا الأسبوع، يريد الملصقات وكذلك البطاقات، ويريد لطارق أن يعود سريعاً من رحلته الأوروبية ليبحثوا عن مخارج لهذه الورطة التي دخلوها واثقين بإمكان حلها.
oharkous@gmail.com
كاتب لبناني- بيروت
المستقبل