سواء رست الديناميكية المصرية الجديدة على “انتصار” ما للإسلاميين، أو “تفاهم” ما مع الجيش، أو “تسوية”، أو حتى أزمة مفتوحة، فإنها، أي الديناميكية، وبسبب طبيعتها الجذرية، قد استهلت عهداً لن يغلقه ولا واحد من هذه الاحتمالات: فتحت أبواب جهنم على دعاة الاسلام السياسي، الذين صاروا تحت النظر والحساب. وهذه آفة الآفات بالنسبة إلى أناس يتلخص قولهم بـ”هذا ليس كلامي… إنما كلام الله”. انكسر احتكارهم للدين، وباتوا، مثلهم مثل أي فصيل “دنيوي”، تؤخذ عليهم قلّة دينهم وقلّة أخلاقهم، الموثقَين، فضلا عن قلّة مهارتهم وتدبّرهم السياسي أو الاقتصادي؛ على الرغم من كل الأحابيل التي أدمنوا نسجها بمهارة تتناقض وإنعدام درايتهم هذه للشؤون الأخرى.
إنها إرهاصات الثورة المصرية الثانية. هذا هو مصيرها، أن تأتي بعد الثورة الأولى. هي كانت متوقعة، هذه الثورة الثانية، الدينية. ولكن مبكرة؟ هكذا؟ بهذه السرعة؟ فقط بعد ستة أشهر من تولي الاسلاميين السلطة؟ القدر، أو التاريخ، ساعد على ذلك، بحرب إسرائيل على غزة، وبالدور “القيادي” الذي لعبه الرئيس المصري “الإخواني” في بلوغ وقف النار، ثم إمعان الاميركيين بالتغزّل به، والباقي نعرفه. ركب مرسي عقله وأصدر “الدستور المكمّل” الذي فجّر ما شاهدنا.
أما عن دور الثورة الأولى في إذكاء الثانية، فأمره أعقد. ربما لا نلمّ الآن إلا بقدر منه: أوله، ان الثورة الأولى أشاعت فكرة “سلطة الشعب”، لا “سلطة الشريعة”. خصوصا تلك التي كشف الاسلاميون الآن انهم في صددها، وبعضهم بإلحاح شديد؛ والتي تعتمد على تفسير فقهاء غادروا هذه الدنيا منذ قرون. ببساطة، ما حاول الاسلاميون فرضه من قوانين ودساتير وإجرءات بإسم الله، صراحة أو مواربة، في وسع المواطن المصري أن يحتجّ عليها الآن باسم الثورة نفسها التي أتت بهؤلاء الى الحكم. سلطة الشعب، الديموقراطية، الثورة، رفض الاستبداد. هي كلها ثمرات الثورة الأولى.
ثمرتها الأخرى، هي إسقاط المنظومة الفكرية التي قامت في ظل مبارك، والتي اعتمدت على تعميم نوع من التقوى، أو بالأحرى نوع من النفاق الديني، كان كالحصن الإسمنتي ضد كل مكاشفة أو نقد حقيقي، ناهيك بتمرّد، أو ثورة. كانت مصر وقتها محكومة بمظلة حديدية، تحرمها من تنفس الهواء النظيف؛ صنعها النظام بالتواطؤ مع الاسلاميين. مكاسب هذه المظلة توزعت بينهما، ربما بالتساوي: للنظام المكسب الأمني، وللإسلاميين المكسب الايديولوجي، الذي تعمْلق قبل الثورة. أول ما فعلته هذه الأخيرة، أي الثورة الأولى، انها حفرت ثغرة في هذه المنظومية “الايمانية”.
وهذه واحدة من المفارقات التي تضجّ بها الثورات العربية: الثورات العربية التي أوصلت الإسلاميين الى الحكم، أفقدتهم في الآن نفسه مقومات هيمنتهم الفكرية. أو، إذا تواضعنا قليلا، قلنا إن ما بعد الثورة وضع الأسس التي بموجبها سوف يفقد الاسلاميون هيمنتهم. في كلتا الحالتين، فان إرهاصات الثورة الثانية، مهما كانت خواتمها، سوف يكون لها لاحقاً آثار بيّنة.
قد تخبو قليلا ديناميكية هذه الثورة، أو قد تشتعل، أو تعتدل، أو تندفع، أو تفْتر، لكنها انطلقت… وسوف تولّد سجالات، وتستأنف نهضات، وتتفاعل مع دقة المعطيات، وتمتحن فيها واقعية الطاقات الجديدة، أو المتجددة. وكلها مقومات صراع فكري- سياسي طويل، يومي، معقّد، غير متساوي اللحظات، ولا متشابه الأواسط، وربما النهايات. لكنه سوف يكون مخترعاً نموذجه الخاص، ذا لغة مطابقة، بإرثه وتاريخيته ودينه. لا يحتاج وقتها الى نماذج، شرقي أو غربي، إلا على سبيل التثاقف.
على كل حال، لا نأمل أثناء هذه السنوات غير شيء واحد: أن لا يكون هذا الصراع غارقاً في دماء لاعبيه أو دمار أرزاقهم. مجرّد أمل.
أما على المدى المتوسط، فإن آثار إرهاصات هذه الثورة الثانية ذات إمتدادات متنوعة، نختار هنا أكثرها وضوحاً:
على تونس اولاً، حيث يسود ما يشبه الحالة المصرية، ولكن محوره القضايا الاجتماعية، الصراع بين حزب “النهضة” الاخواني والاتحاد التونسي للشغل. معطوف على سلفيين منفلتين، ترخي معهم “النهضة”، ثم تشتدّ. التباس مفجر لصراع شبيه، وخصوصا ان “المرشد الأعلى للدولة التونسية”، الشيخ راشد الغنوشي، بدأ طوقه يعمّ، فيما فشلت كل جهود الرئيس اليساري المنصف المرزوقي، شريكه الوهمي، الذي لم يتقدم فكريا أونصة واحدة في دأبه لإثبات “توافق الإسلام السياسي مع العلمانية”.
على سوريا ثانياً، حيث تصطدم ثورتها ضد الديكتاتور بسدّ هائل عماده “إخوان مسلمون” وسلفيون و”جهاديون”. هو نفسه السدّ الذي احتمى خلفه أصدقاء بشار الأسد وأقلامه، كذريعة لتهشيم الثورة معنويا وإفراغها من صدقيتها. الآن جاءت الهِبة من مصر: هناك مراحل تكاد تقول. الاولى، بإسلامييها، لن تدوم. لكنها مستمرة، لأنها شرط أساسي من شروط تعطيل الفعل السلطوي الاسلامي المقبل، المعنوي والمسلح. شرط من شروط ولوج الثورة الثانية.
على النساء العربيات ثالثاً: الكثيرات من بينهن رأين في الإسلام السياسي خطراً على القليل من مكتسباتهن السابقة على الثورة. يرصدن فتاويه ورواياته وأقواله وأفعاله، يلتقطن إشارة من هنا وأخرى من هناك. غير راضيات عن عدم رضاهن من الاسلاميين، يحاولن التمسّك بالأمل، حباً بالثورة وطلباً للسلامة وكرهاً للشك. لكن الإنفجار المصري ضد مشروع الدستور الإسلامي، الذي استشرس “الإخوان” والسلفيون للتصديق عليه، كشف كل الألاعيب التي تشعوذوا بها أمام الاعلام، خصوصا الغربي، “الموثوق به”، حول “وسطيتهم” و”اعتدالهم” و”دفاعهم عن المرأة”. كشف انقضاضهم، ليس على المرأة فحسب، إنما ايضا على الطفلة. مشروع الدستور الاسلامي وردود الفعل عليه، أعطى دفعة فكرية للنساء، بأن منحهن الحرية المطلقة من الآن فصاعدا في التفكير في الفكر الاسلامي.
المعركة المصرية ضد الدستور الاسلامي كانت مثل ضوء فاصل، يشير الى أرض المعركة التي ينبغي للنساء استكمالها. هنّ بالذات، لأن الخطر الاسلامي عليهن أشدّ. مثلهن مثل الاقباط، رابع المستفيدين من الثورة الثانية، فان حكم الاسلام السياسي بالنسبة إليهن هو إلغاء لوجودهن. وحدة حال الاثنين، النساء والأقليات، يعود فضلها الى الأسس الثابتة لنظرية فصائل الاسلام السياسي، القائمة على تهميشهما.
نقطة اخيرة: اعتادت مختلف تنويعات هذا المزيج الحداثي على تفادي المسألة الدينية، أو على تناولها بحذر شديد، او اعتماد بعض ألفاظها، أو شعائرها، أو قراءتها بعبارات أقرب الى النفاق الديني. في عصر مبارك كان يُقصد بهذا السلوك الذهني حماية النفس من مضاعفات تكفير أو تشهير أو إساءة سمعة. أما الآن، وبعد كل الذي حصل، صار الإهتمام بالمسألة الدينية، بكل أوجهها، من صميم السجال المقبل.
مرةً أخرى، نحن نصِف هنا عملية مديدة، المطلوب منها ان تغيرنا بالقدر الذي سوف يتغير به الاسلاميون. حنيئذ، فقط حنيئذ، يمكننا التكلم عن اتجاه “ديموقراطي مسلم”، على غرار “الديموقراطي المسيحي”، التي حكمت أحزابه بعض دول أوروبا من دون ان يعيدها الى محاكم تفتيش الضمائر والتكلّم باسم الله. إسلامية سياسية تكون مرّت بمخاضنا نفسه، وأعطت التاريخ شأنه، فكانت قراءتها للشريعة اكثر توافقا مع نفسها، قبل ان تكون مع غيرها.
هل نحلم؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
[النهار
->
http://newspaper.annahar.com/article.php?t=mulhak&p=5&d=24949&dt=2012-12-29 00:00:00]