لم يكن أحد يتوقع ان يجد الرئيس الفرنسي جاك شيراك وعقيلته برناديت، نفسيهما مشردين من دون مأوى بعد انتهاء عقد اقامتهما في قصر الاليزيه في السادس عشر من الشهر الحالي، وأنهما سوف يضطران لطلب اللجوء “مؤقتا” إلى أحد مضايف آل الحريري المطلة على نهر السين، ريثما يتدبران أمر السكن الثابت.
ما كان يمكن تصديق هذا الخبر، لو لم تنشره الصحف الفرنسية، وتبث بعض وسائل الإعلام صوراً لصناديق تحوي ممتلكات لآل شيراك، وهي تنقل من السكن القديم في “الاليزيه”، الى السكن الجديد في “كي فولتير” الواقع على الضفة الأخرى، مقابل متحف “اللوفر”. كان يمكن اعتبار الخبر من باب المزاح الثقيل، أو محاولة للتشنيع بالرئيس الذي ظل يعتبر نفسه فوق الشبهات، رغم تواتر تهم الفساد التي وجهت إليه طيلة العقود التي امضاها في بلدية باريس، ورئاسة الحكومة، ثم في رئاسة الجمهورية، إلا ان الأدلة المادية التي نشرتها الصحف الفرنسية، وصمت آل شيراك، وعدم إصدار بيان تكذيب برهنت على ان الأمر ليس بالمزحة، ولا هو من قبيل التحامل على الرئيس، بل هذه هي النهاية المأساوية التي اختارها بطل تراجيدي، من عيار شيراك لمسيرته السياسية. لو كان شكسبير نفسه هو الذي تم انتدابه لرسم هذه النهاية المحزنة، لما خطر له أن ينزل الرجل من الاليزيه، الى شقة مملوكة من طرف أحد أبناء الحريري.
من حق الرئيس شيراك ان يحل ضيفا على من يشاء، فهو سوف يصبح اعتبارا من السادس عشر من مايو/أيار الحالي مواطنا عاديا بمرتبة رئيس سابق، ولكن ان ينتقل من الاليزيه، الى مضايف آل الحريري أمر لا يمكن ان يمر من دون ان يثير ردود فعل، ويجري النظر إليه من زوايا مختلفة. وأول ردود الفعل، هو ان هذا التصرف يثير قدرا كبيرا من الأسف. فمهما كانت الملابسات فإنه لايليق لا بمكانة فرنسا ولا بشيراك، لأن فرنسا ظهرت من جهة، وكأنها عاقة تجاه رجل خدمها كل هذه السنوات، وهو سوف يواصل هذا الطريق، لكنه يخرج في ختام ذلك، وليس لديه سقف يأويه. إن فرنسا ليست بلدا فقيرا الى حد أنها لاتستطيع أن تؤمن سكنا لائقا لرئيسها السابق، فحتى افقر بلدان العالم تأبى على نفسها، ان يصل فيها البخل الى درجة يجرح فيها العزة الوطنية. هل فرنسا التي تستضيف العديد من رؤساء الدول السابقين، وتوفر لهم السكن المجاني والحماية، غير قادرة على معاملة ابنها البار شيراك بالكرم ذاته، الذي تغدقه على رؤساء ديكتاتوريات الموز والكاكاو؟
ويكمن رد الفعل الثاني، في الظروف السياسية المحيطة بانتقال شيراك الى منزل تملكه اسرة صديقه رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري. لو انه انتقل الى بيت اي صديق آخر غير الحريري، لاعتبر الأمر حدثا عاديا لا يستحق التعليق، ولكن سكناه لدى آل الحريري، تفتح الحديث حول جدية ومصداقية مواقفه التي اتخذها في ما يتعلق بجريمة الاغتيال التي أودت بحياة هذا الرجل في فبراير/شباط سنة ،2005 وتضعها في الميزان، وخصوصا لجهة المحكمة الدولية التي يصرّ عليها شيراك بشدة، بل أبدى لها حماسة قل نظيرها في الآونة الأخيرة، وصار زواره من أنصار الحريري يوزعون التطمينات بصدد إصراره على عدم ترك الأليزيه، قبل أن يقر مجلس الامن المحكمة الدولية، تحت “الفصل السابع” من ميثاق الامم المتحدة.
قد يكون موقف الرئيس الفرنسي من هذه المسألة صادقاً ولا غبار عليه، ومن المؤكد ان صداقته مع رفيق الحريري كانت فوق الشبهات، ولكنه لن يستطيع من الآن فصاعدا ان يمنع الألسن والأقلام من ان تطاله بسوء الظن، وتفسر مواقفه السياسية من باب المصلحة الشخصية، خصوصاً وأن رجلاً من طراز شيراك، فهو رغم عفويته، يتعمد دائما لأن يكون كل تصرف من تصرفاته ذا مغزى. والأخطر من ذلك كله، هو أن سلوكه على هذا النحو من شأنه أن يسلح المتهمين في جريمة الاغتيال بورقة دفاع اساسية، لأنهم لطالما اعتبروا حماسته غير المحدودة في متابعة قضية الحريري تقع في نطاق البزنس، وليس من منطلق الحرص على تطبيق القانون الدولي، والدفاع عن أمن لبنان واستقراره.
كان الاعتقاد السائد أن يغادر شيراك قصر الأليزيه بمأثرة تظل تحسب له، وأن يترك المكان الذي سكنه 12 سنة بنفس الروحية التي خرج فيها الكبار، الذين سبقوه للإقامة في هذا الفضاء الذي يعد أحد مفاخر فرنسا الجمهورية، من أمثال ديغول وميتيران .وقد ذهبت بعض الظنون الى انه قد يختتم عهده بسلسلة من الخطوات التاريخية على المستويين الثقافي والإنساني، تصب من جهة في سياق النظرة التي دافع عنها خلال السنوات الاخيرة، في إطار حوار الحضارات. وتسهم من جهة ثانية في تخفيف الاحتقان الداخلي في فرنسا، وتنفيس جو العداء للأجانب، وخصوصا تجاه العرب والمسلمين، الذي تصاعد على نحو ملحوظ مع حملة الانتخابات الرئاسية، ولكنه أعطى أذنا طرشاء وكأن الامر لا يعنيه، وهو القادر من موقعه أن يوجه النقاش الانتخابي، في وجهة مختلفة بعيدة عن العنصرية.
إن العرب جميعا يحزنهم أن يسجل شيراك على نفسه مواقف صغيرة من هذا القبيل، فهو في نظرهم أرفع من أن ينحني من أجل شقة، حتى لو كانت في “اللوفر” نفسه، فهذا الرجل رغم كل شيء، كان من الأصدقاء الذين تعاملوا مع القضايا العربية بدفء شديد ووجدان صادق، ولن ينسى له تاريخ القضايا العربية استقباله للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وهو في لحظات النزع الأخير، وتشييعه في مراسيم رجال الدول.
bacha@noos.fr